قَبْـسةٌ مِنْ “نار القافية” للشاعر علي الشيمي
محمد الشحات محمد
النص:-
آتِي إليكِ بقلبِ الليلِ عُريانَا
أمشي وحيدًا منَ الماضِي إلى الآنا
أستلُّ منْ شفَتِي وزنًا وَقافيةً
أسيرُ في خَجَلِي جوعانَ عَطشَانَا
أَبغِي مُقابَلَةً والناسُ في خَلَدٍ
لا شيءَ يتبعُنِي (والوقتُ قَدْ حانَ)
يا طقسَ قافيتِي، خالفتُ قافِلتِي
عَقرتُ راحِلتِي، أتيتُ جوعَانَا
لا البحرُ أطعمَنِي، كلّا ولا “فَعِلُنْ”
جاءتْ لتُسعفَنِي، والموجُ أضنَانَا
وَحدِي بِلا أمَلٍ في أحرُفِي أَلَمٌ
هَلْ حَملُهَا كَذِبٌ والوهمُ قَدْ رانَا؟
قَد بُحتُ، فابتعِدي لا خيرَ في كَلِمِي
إنْ مُتُّ ذَا قَدَرِي مَا اسطَعتُ كِتمَانَا
مَا كُنتِ مانِعتِي لو كُنتُ مُقتَدِرًا
ما كُنتِ قاطِعتِي لو كنتُ شيطَانَا
كمْ شاعرٍ مِنْ دَمِ الإبداعِ مَرتَعُهُ
تَزهُو مَحافِلُهُ وَردًا وَألوانَا
في كُلّ وارِدةٍ في كل شَاردَةٍ
تلقَى قريحَتُهُ عَذبًا وَألحَانَا
حِنِّي بلا خَجَلٍ، جُودِي بلا أَمَدٍ
إِنِّي بِلا مَدَدٍ حِينًا وأحيَانَا
فَلتُشعِلِي خَاطِرِي ثُورِي كَمحرَقةٍ
وَقُودُهَا كَبِدِي أصيرُ بُركَانَا
لا تُوئِدي نَسبِي في رمْلِ جَائحتِي
آتيكِ منْ رحمِ الأشواقِ غَضبانَا
**
الموسيقى هي المظهر المحسوس لبنية القصيدة وحركتها، بما يُتيحُ إمكانية التعبير عن أدقّ المشاعر، وأعمق الأفكار، وأوسع الدلالات، وإذا كانت الموسيقى الظاهرة في نونية “نار القافية” للشاعر “على الشيمي” تتمثل في “نغم البحر البسيط”، المردوف والموصول بالألف، مفتوح الروي (النون)، مع التصريع في البيت الأول، فإن زخم الإيقاع الداخلي يتوافق مع سياق المعاني العام، بما يزيد التأثير، ويشد المتلقي، كما هو التوازي الإيقاعي (تماثل الجمل) في:” في كُلّ وارِدةٍ”، و”في كل شَاردَةٍ”، وكذا “مَا كُنتِ مانِعتِي لو كُنتُ مُقتَدِرًا”، و”ما كُنتِ قاطِعتِي لو كنتُ شيطَانَا”، وكذا “الترصيع”، بما يُشكّلُ من توافق في الوزن والقوافي الداخلية، نجد مثلا: “جُودِي بلا أَمَدٍ”، “إِنِّي بِلا مَدَدٍ”،
وقد استفادت “نار القافية” بالامتداد الزمني لحروف المد، مثل “الألف” قبل “نون” الروي، وألف المد، بما يميز الإلقاء، إن شاء تطويلا، وإنشادًا؛ لتعدد الدلالة، وبالتناص في “والوقت قد حان”، مع تكرار حرف النون، مثل: وزنًا، جوعان، حِنِّي، أطعمني، تسعفني، .. فضلا عن التنوين الدائر في القصيدة، ويكاد مجموع منطوق النون والراء معًا يساوى منطوق ألف المد، مما يوازن بين كتل الضوء والظلال في رسم كلمة “نار”، وتكرّرت حروف أخرى مثل الحاء (الحلقية) في: وحيدًا، راحلتي، البحر، وحدي، حملها، محافله، محرقة، ثم التجاور في: (وردًا، واردة) و(مدد، أمد) و(وحدي، وحيدا)، مع تكرار “قد” و”آتي”، و”جوعان”، “خجل”، وكذلك “ما كنت” و”لو كنتِ”،
ومع “نار القافية”/نار القصيد/ نار الشاعر نفسه المُوقدة، ليس لحرف “السين” همس، إنما أنين، وقيد (أستلُّ، أسير، ما اسطعت، نسبي، تسعفني، طقس، الناس) وتزيد “الشين” بفارق، تمثله “الصاد” في كلمة “أصير” توازيًا مع “أسير”، ولأن لكل فعل رد فعل، نجد أن “أسيرُ جوعان”، يكون رد الفعل “أصير بركانا”، والقصيدة عمومًا تمثل “شجرة رد فعلٍ” لفعل الموهبة وتداعياتها، والظروف المحيطة، ومن تداعيات الموهبة ردود فعلٍ أخرى، وهذا الحياة يُمكن اعتبارها نصًّا أدبيًّا، ولكن من “ينماز”، ويكتب، ولماذا؟
من المعنى القريب للعبارة “أسير في خجلي جوعان عطشان” هو المشي، أو الإتيان” الذي بدأت، واختتمت به القصيدة “آتي إليكِ ..”، و”آتيكِ من رحم”، يُمكن اعتبار المقصود من “خجلي” السجن بجوعه وعطشه، والفعل “أسير” يخفي وراءه حال أسْرٍ، كأن شاعرنا يقول: “أسيرُ أسيرًا”، فيقتفي أثر خجله الدائر فيه، مشتاقًا للحرية، وقد أصبح الخروج من الأسْر حتميًّا، كما هو الخروج من “رحم الأشواق ..”، وفي السجن يكون الإفراج بعد “حُسْن سير” ، وللخجل/السجن قوانين، التزم بها “جوعًا وعطشًا”/صبرًا “آتي إليكِ”، ونفّذ كما يقول المثل: “في بيته يؤتى الحكم”؛ لضرورة انتقاله كطالب/شاعر إلى المطلوب/ القصيدة/ قلوب المخلصين من المثقفين، أملا في الخروج/ الانطلاق والحرية، وانفجار بركان الموهبة، بعد ترقب وصبرٍ وصقلٍ، في ذروة دراما النص، وحُسْن السير هنا هو حُسْن أداء الموهبة “الشاعرية”، وقد اكتملت بالأدوات “الشعرية”، مع مرور المدة (من الماضي إلى الآن)، فلم يعد للصبر مساحة، إنما “الآن” الثورة والغضب، “فالوقت قد حان”، ولأنه الموعد الحَتْميّ، فلا مجال إلا للاشتعال، والظهور بصوته الخاص “كبِدي”، وليكن “الكَبِد” هنا علامة مميزة لِصَوْتٍ مختلف، مُطعّم بهيموجلوبين الحياة، وليس سببًا في موت/أو مرض، كضحايا جائحة كورونا، أو أي وباء يُصيب الكبد أو التنفس؛ إنما بالتعايش مع الحالة/الحب/القافية/الجائحة ..، دون خوف، مع اتخاذ الإجراءات الاحترازية؛ فالموهبة الصادقة اكتسبت مناعتها/صقلها بالصبر والترقب على بصيرة، وأي صقل في الحياة أفضل من “نار” الخبرات، وهكذا “الجواهرجي” يهذّب السبائك، ويشكّل المصوغات، مرورًا بعدة انكسارات، تمثلها تكرار الياء في: نسبي، جائحتي، كبدي، خاطري، كَلَمي، قَدَري، أحرفي، راحلتي، قافيتي، قافلتي، شفَتي، خَجلي، إذْ تكسر هذه الياء كل حرفٍ قبلها، ولكن لأن شاعرنا لا يستسلم للانكسارات، بلْ يكتسب منها المهارات، والخبرات، فيعتز بما تفعله هذه الانكسارات، وليجعل من رد فعله مكسبًا وقوة: “ماكنتِ مانعتي/ قاطعتي”، وإن غابت علامات الترقيم أحيانًا!
وتحيلنا “نار القافية” إلى قصة كليم الله “موسى” مع النار، يقول تعالى: “إذْ رأى نارًا فقال لأهله امكثوا إني آنسْتُ نارًا، لعلّي آتيكم منها بقبّسٍ أو أجد على النار هدى”، فيلتمس الشاعر بصورته الكلية من نار القافية الآتي إليها بقصيده، سواء في مصر، أو المسابقات العربية -وإن لم تعمل هذه المسابقات على التجديد، والنهوض بالقصيدة العمودية، إلا بعد أن ظهرت أجناس أدبية جديدة، مثل القصة الشاعرة، والرواية الرقمية- فيلتمس الشاعر قبَسًا/ خبرًا/هدىً/انتشارًا/ جبرًا/إشعالاً/ ثورة وقبولا لموهبةٍ، صاحبها (بلا مدد) إلا من هذه الموهبة وأدواتها الفنية، فهو ليس من رجال الأعمال المزيفين (لوكنت مقتدرا)، ولم يستفد من الشعر بشيء (لا البحرُ أطعمَنِي، كلّا ولا “فَعِلُنْ” جاءتْ لتُسعفَنِي)، بل أتعب الموهومُ السلطويُّ الموهوبَ المقهورَ (والموجُ أضنَانَا)، ما يدفع المبدع الحقيقي للتمرّد، بعثًا وتجدّدًا؛ للخروج من نفق تربيطات الانتهازيّين، الأقل موهبة، والذين لا يجيد شاعرنا ألاعيبهم (لو كنت شيطانًا)، فالشاعر الآن –غضبانا- يطالب بما لموهبته، كما قدم ما عليه تجاهها، توازيًا بين الفعل والنتيجة؛ ولا يخشى في إعلان موهبته أي شيء، ولو الموت (إنْ مُتُّ ذَا قَدَرِي مَا اسطَعتُ كِتمَانَا)، وكما يقولون: “ما مات حق وراءه مُطالِب”، فإن للقوة الناعمة أثرها اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، وكم من شعراء كان قصيدهم باب رخاء!
إننا بحاجة إلى الانتشار، وإلاَّ فلماذا نكتب؟ وَمَنْ منَّا يرقبُ بلا هدف توصيل رسالته، وما الفرق بين مبدعٍ وآخر؟
* في “نار القافية” كان الترقب على بصيرة بالأحداث الجارية، وإدراك لما كانت تقتضيه الظروف من انتظارٍ إيجابيّ؛ تفعيلًا لانعكاسات هذه الأحداث، وكيفية التعامل معها، وباكتمال الأدوات والصبر، مع اختلاف الظروف، لم يعد هناك مجال للانتظار؛ بل المبادرة/الثورة، ومن ينتظر في ظل أحداث عالمية، سريعة التطور والصراعات؟، من يقبل فسفرة القوانين، وازدواجية المعايير؟ لا مفر من التفاعل والتعايش، ولو كان التعايش مع جائحة كورونا، وزمجرات صواريخ الأسعار وفرقعة شعارات الوطن البديل، ومواجهة استغلال الموهوم للموهوب، وحرب المياه، .. لا مفرَّ من التعايش؛ لانتزاع الموج من بطن الشطوط ، لا بدّ من التداخل، ولأن السياسة فن المُمكن، أو فن التواصل بين الثابت والمتحول، لذا، فلا ما نع من تسييس الأمور، والعمل على أرض الواقع، وليس الاستسلام للقهر، أو سياسة الأمر الواقع، إنما المفاوضات، مع القوة والاستعداد؛ لمواجهة التطرف، والإرهاب، وأحسب أن قصيدة “نار القافية” قبل أن تكون نصًّا أدبيًّا، فهي حوار سياسي من طراز رفيع، قوي المنطلق، سريع التصويب نحو الهدف، وقد تنوعت أفعال القصيد، ما بين الماضي (كنتِ، بحْتُ، جاءت، خالفت، عقرتُ)، والمضارع (آتي، تلقى، تزهو، أمشي، أستلُّ، أسير)، والأمر (حنّي، فلتشعلي)، والنهي (لا توئدي)، وطغى التعريف بالإضافة، للثقة في قصيد/بيانٍ، يطرح حُجّته، وطلباته، التي تمثل المستقبل المنشود في رسالة القصيد، وأحسبُ أن شاعرنا “علي الشيمي” قد استفاد مِن الانتشار عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وإن كان لا يغفل ما ارتكَبَتْته هذه المواقع من تزييف للحضارات، وافتعالها الربيع/ الخريف العربي، ثم الخرف العالمي بجائحة كورونا، وما دار حولها، والصراعات بين الكتل الاقتصادية، فَظُهُور الأطباء بدور الجيش الأبيض، مع القوات المسلحة، وكبار الساسة والمبدعين الحقيقيين، بينما اخْتَفَتِ النُّخْبة، وتمتِ تعرية فئة المشاهير والانتهازيين، حتى كان التشكيك في منظمة الصحة العالمية، ثم تهديد حدود مصر الشرقية في سيناء من الأرهابيين، والغربية على حدود ليبيا التي اجتمعت فيها كل ألوان الجيوش الدولية، مع المرتزقة، وأما الجنوب، فإرهاب المياه، ومشكلات أثيوبيا، وإذا كانت كل هذه الأحداث مجتمعة، تمثل انكسارًا’ أوكسرًا، فلا بد من الجَبْر/الصبر (من العلاج، أو الإجبار) واشتعال الخاطر/العزيمة، والثورة/المحرقة/نار القافية؛ وقودها كبَدُ الشاعر وغضبه، وخبراته، التي تحفظه من الإصابه، فتجعله بركانا يحرق، ولا يحترق؛ وفي ظل هذه الصور القاتمة يأتي دور القلم وعبق الإبداع!