بناء الضمير وتعزيز الانتماء في شعر الأطفال عند محمد الشرقاويِ
بقلم دكتور/ رمزي السيد حجازي
أستاذ الأدب والنقد المساعد في جامعة الجوف
مدرس الأدب والنقد في جامعة الأزهر
الأطفال هم شباب الغد، ورجال المستقبل، وحاملو ألوية العلم، ومشاعل الحضارة في ربوع الوطن؛ فهم بحاجة دائمة إلى التواصل، وتقديم المواد التربوية التي تضمن فيهم سلامة الفكر ويقظة الضمير، وصدق الانتماء والوطنية، وخاصة في هذا الزمن الذي يسهل فيه استقطابهم، وسيطرة التيارات الفكرية المتشددة، أو التيارات الغربية، التي لا تتكئ على أسس وقيم متينة، على عقولهم، فتجعلهم مسخا مشوها لا يُعرف له نسب ولا وطن.
من هنا كان واجب العلماء والمفكرين والأدباء عظيما في توجيه الجهود دون تكاسل أو بخل، إلى بناء هذا النشء، الذي يَعني بناءَ الإنسان، وبناءُ الإنسان يعني بناءَ الوطن؛ فمن الواجب على كل صاحب تجربة علمية أو ثقافية أو أدبية أن يوجه جانبا منها هذه الوجهة، وأن يفتح قنوات من التواصل مع هذا الجيل الجديد الذي تتعاوره السهام من كل جانب.
والشعر مادة أدبية لها تأثيرها الذي لا ينكره أحد، على وِجدان الأطفال وعقولهم، لما يتمتع به من خصائص تعبيرية وجمالية، تأسر الوجدان، وتشنف الآذان، تميزت فيه الأمة العربية، وجعلته وعاءَ علومها وأفكارها وعواطفها، فشُغِف به القدماء والمحدثون، وعرفوا قدره ومنزلته في الحفاظ على اللغة وتكوين الذوق وتشكيل الوعي، حتى قالت عائشة- رضي الله عنها: “علّموا أولادكم الشعر تعذُب ألسنتهم”([1])، وقال عمر- رضي الله عنه: “علمُوا أَوْلَادكُم العَوْم والرماية، ومُرُوهم فليثبوا على الْخَيل وثباً، ورَوُّوهم مَا يَجْمُل من الشّعْر”([2])، وقال أيضا: “نعم الهدية للرجل الشريف الأبيات يقدّمها بين يدي الحاجة يستعطف بها الكريم ويستنزل بها اللئيم”([3])، وقال: “تعلّموا الشعر ففيه محاسن تُبتغى ومساوئ تُتَّقى”([4]).
وبِناء على ما سبق بيانه من أهمية الشعر فقد عَرَف العصر الحديث بصورة قوية محددة الملامح والسمات “شعر الأطفال”، ويقصد به ذلك الشعر الذي يقدمه الشعراء للأطفال مراعين فيه ذائقتهم وحسهم وقدرتهم اللغوية والفكرية، وأصبح له وجود في كتب الأطفال النظامية في المدارس وغيرها، بريادة أمير الشعراء “أحمد شوقي” الذي خصص ديوانا كاملا للأطفال، اعتمد فيه على القص والخيال المشوق الذي يتناسب مع نفسية الأطفال وخيالهم.
وشاعرنا الذي نخصص له هذه المقالة هو واحد من المعاصرين الذين اهتموا اهتماما بالغا بالأطفال، وعُنوا عناية فائقة ببناء شخصياتهم، وهو الشاعر الأستاذ: “محمد محمود محمد أبو العلا”، ويُشتهر بــ “محمد الشرقاوي”، من مواليد محافظة أسيوط، تخرج من جامعتها، وتحديدا كلية التربية، شعبة اللغة الفرنسية، كاتب صاحب قلم وفكر، له كتابات في أنواع أدبية متعددة، في الشعر الفصيح والعامي والقصة وشعر الأطفال والراشدين، وله نشاط أدبي واسع في العديد من الأندية والروابط الأدبية، وله إسهامات وافرة في الصحف والمجلات.
يتضح اهتمام “الشرقاوي” بالطفل العربي والمصري خاصة في تركيزه على الجوانب الأخلاقية، والنواحي الروحية، ومنها بناء الضمير وتعزيز الانتماء، وهي ثنائية قوية الالتحام والترابط، لأنه لا يُتصور وجود انتماء دون وجود الضمير، والعكس صحيح كذلك، ومن ثَمَّ ألحَّ “الشرقاوي” على دعم هذه الثنائية في نفوس الأطفال، فأخذ بأيديهم على مدارج النمو الروحي والتفوق الأخلاقي، وبث في نفوسهم قيم الانتماء إلى الوطن، والحنين إلى ترابه.
ونستعرض في عجالة بعض النماذج الشعرية الراقية التي تركز على هذه الثنائية: بناء الضمير وتعزيز الانتماء؛ فمن هذه النماذج قوله في ديوانه: “حكايات المساء” في قصيدة بعنوان: “قلوب الناس” على مجزوء الوافر:([5])
قلوب الناس أشكالٌ | قلوب الناس ألوانُ | |
فمنها مؤمنٌ حقاً | بها قد عاش قرآن | |
ومنها محسنٌ يعلو | به نور وإحسان | |
ومنها ظالم يَنسى | بأن الحق ديّانُ | |
ومنها غافل يلهو | وبعد اللهو خسران | |
……… | ……… | |
قلوب الناس إنْ تخشعْ | سعت بالعدل أبدان | |
وعند الحشر أفراحٌ | وعند الحشر أحزان |
فنجد “الشرقاوي” هنا يلفت الطفل لفتة كبيرة، تثير استغرابه واهتمامه، حيث يجعل لقلوب الناس ألوانا متباينة، فليست ذات لون واحد، فمنها الأبيض ومنها الأسود، ومنها ما بين ذلك، وهو أسلوب مجازي ليس على حقيقته، يجعل الطفل يتخيل ذلك حقيقة ماثلة بين عينيه، فيرى قلب المؤمن أبيض، ويرى قلب الظالم أسود، وهكذا، فيقرب إليه صورة القلب، تحسينا وتقبيحا، وذلك على حسب العمل الذي يعمله صاحب هذا القلب.
ويحاول “الشرقاوي” بلغته الجميلة، وأسلوبه الجذاب، وموسيقاه البسيطة، أن يغرس في نفوس الأطفال الصدق والوفاء والحب والإخاء والعدل والأمانة والشجاعة، وغير ذلك من القيم الكثيرة التي ألح عليها في دواوينه الثلاثة التي بين يديّ، وهي: “خيوط الشمس” و”زهور الأمل”، و”حكايات المساء”، فنجده في قصيدة بعنوان: “الطفل الأمين” يستخدم الأسلوب القصصي في سرد تفاصيل قصة الطفل “سامي” الذي عثر على نقود مفقودة وهو يلعب في حديقته، فتوجه من فوره إلى المسئول عن المكان ليبحث عن صاحبها، يقول على مجزوء الرمل:([6])
ذات يوم كان سامي | ماضيا نحو الحديقةْ | |
كي يرى الأزهار فيها | والشجيرات الأنيقة | |
والفراشات تغني | والينابيع الرقيقة | |
إذ رأى في الأرض مالا | فاحتواه في دقيقة |
فالطفل اسمه “سامي”، وهو اسم مقصود مأخوذ من السمو والتسامي، الذي أعلنته الشخصية في هذا الموقف، فالطفل يحتوي المال خوفا عليه من الضياع إذا وقع في أيدي الصوص وفاقدي الضمير، ثم يصور شعور الطفل بقوله:
قال للمسئول إني | للعلا نفسي صديقة | |
من أضاع المال أمسى | في جراحات عميقة |
ويبحث مع أصدقائه عن صاحب المال حتى يجدوه، ويقدموه له بكل أمانة وحب، ويشكرهم صاحب المال على أمانتهم وصدقهم.
وهكذا تتردد هذه القيم بكثرة في نماذج شعرية كثيرة في هذه الدواوين الثلاثة، في صورة قصصية مشوقة، تعتمد على الأسلوب البسيط، واللغة الفصحى السهلة المألوفة، التي لا تستعصي على فهم الطفل، ولكنها في الوقت نفسه تساعد الطفل على تهذيب لغته، وتقويم لسان، والاقتراب التدريجي من أغوار العربية وأعماقها؛ ومن ثم يتحقق في شعر “الشرقاوي” عنصر: التناسبية، وهي تناسب اللغة والخيال مع قدرات الطفل، ومستويات إدراكه.
ويعزف “الشرقاوي” أناشيدَ عديدة عن مصر والأقصر وسيناء ونهر النيل وجنود مصر ونصر أكتوبر، وغير ذلك من الموضوعات التي تعزز الانتماء في نفوس الناشئة، فيعزف على مجزوء الرمل نشيدا بعنوان: “مصر” يقول فيه:([7])
مصر في عيني وقلبي | مصر حازت كل حبي | |
في سماء الكون شمسٌ | نورها في كل دربِ | |
في رُباها عشتُ عمري | لم أَخَفْ من أيِّ صعب | |
قلبها كم حاز عطفا | لم يعامِلْني بذنبي |
فالشاعر هنا يجعل مصر جزءا من عاطفة الطفل وكِيانه، يراها فوق كل الأكوان، تنير له دربه، لا يشعر فيها بقلق ولا خوف، ويشبهها بالأم في البيت الأخير على سبيل الاستعارة المكنية، في حنانها وعطفها وصفحها عن أبنائها، فلم تعامل ابنها بذنبه.
ويثور الشاعر، وتزداد حماسته، ليلهب حماس الطفل، ويدفعه إلى إدراك المعالي، ويوقد في نفسه حمية الدفاع عن الوطن، والثبات في ميدان القتال، حين يطلب منه ذلك، فيقول:
يا بلاد النيل سعيا | رابِحاً من كل كَرْبِ | |
صانعا منا شبابا | سالما من أي خطْب | |
نحن في الأخطار جندٌ | نحن سيفٌ عند حرب | |
نحن وقت السلم عزمٌ | يرتجي توفيق ربي |
وهذه الأبيات تبدأ بالنداء، وفيه تنبيه للغافل، وإيقاظ للنائم، ثم يأتي المنادَى “بلاد النيل” بصيغة الجمع، ليعطي معنى الوَحدة والاتحاد، وهو مجاز مرسل علاقته المحلِّية، لأنه ينادي الحالَّ وهم أهل المكان، ولا ينادي المكان نفسه، وفي الإخبار بالمصدر في قوله: نحن سيفٌ، نحن عزمٌ مجازٌ عقلي فيه مبالغة ظاهرة لتأكيد معنى القوة، جاء في الخصائص: “إذا وُصف بالمصدر، صار الموصوف كأنه – في الحقيقة – مخلوق من ذلك الفعل، وذلك لكثرة تعاطيه له، واعتياده إياه”([8]).
وفي قصيدة أخرى بعنوان: “هنا أرضي” يقدم “الشرقاوي” للأطفال نشيدا على مجزوء الوافر ذي الموسيقى الخفيفة والإيقاع الجميل، فيقول:([9])
هنا أرضي وأجدادي | هنا فخري وأمجادي | |
هنا أَمْسِي هنا يومي | هنا أبني لأولادي | |
عشِقت النيلَ مبتسما | يصون الخير في الوادي | |
عشقت الشمس ساطعةً | وشاهدة لأعيادي | |
عشقت العلم في أرضي | يحارب كلَّ أحقاد |
هنا يتجلى معنى جديد للأرض، فليست جمادا أو ترابا، بل هي قيمة كبرى، لأنها موطن الأجداد والأمجاد، وهي الأمس والحاضر والمستقبل، ويأتي النيل برمزيته المقدسة، ودلالته القوية، في شعر “الشرقاوي”، يرمز إلى الرخاء والعزة والجمال والبهاء والخير والنماء، وسيظل كذلك -إن شاء الله- رغم كيد المعتدين، ولن تُوقِفَ جَرَيَانَه سدود، ولن تمنعَه قيود، وفي البيت الأخير يتحدث عن “العلم” الذي هو قوة ناعمة تحارب الأحقاد والجهل، بسيوف من النور، ثم يزاوج بين القوة الناعمة والقوة الخشنة، اللذين هما ركيزة كل أمة، وعتادها وجناحاها، إذ لا غنى بواحدة منهما عن الأخرى، يثور “الشرقاوي” فيذكر قوة السلاح، فيقول:
أنا الجنديُّ في عصري | أبيع العمرَ لِبْلادي([10]) | |
سيبقى الدهرُ يذكرني | ينادي كلَّ أحفادي | |
هنا قد عاش أقوام | ومنهم دائما زادي |
وفي قصيدة أخرى بعنوان: “وطني” يقول الشرقاوي” على مجزوء الوافر أيضا:([11])
صباح الخير يا وطني | صباح الخير والحبِّ | |
فأنت النور في العين | وأنت النبض في القلب | |
وأنت الحِضن والمأوى | كحضن الأم والأبِّ | |
وأنت المجد في أرضٍ | حماها دائما ربي | |
وأنت الدين والدنيا | لكل الشرق والغرب | |
وأنت العز يا وطني | بوقت السلم والحرب |
فيشخص الوطن، ويُجري بينه وبين الطفل حوارا في الصباح، وهو اللحظة الأولى التي يرى فيها الطفل نور النهار، يُحيِّي فيها وطنه كما يحيِّي والديه، إشعارا بمنزلته الكبيرة في القلب، التي تضاهي منزلة الأب والأم، ويفضله على كل الدنى، وهو ما يعظِّم صورة الوطن في نفوس الأطفال، ويربط بينهما برباط وثيق.
والحقيقة أن شعر “محمد الشرقاوي” للأطفال شعرٌ زاخر بالقيم التربوية والجمالية، التي تأخذ بأيدي الأطفال، وتخلق في نفوسهم إحساسا بالمسئولية الأخلاقية، وإحساسا بالجمال والفن، فيربي وجدانهم وذائقتهم اللغوية والأدبية، ويمنحهم خيالا خصبا، يساعدهم على الابتكار والإبداع، فيه عاطفة جيّاشة، وتركيز على الموضوعات التي تلامس حياة الطفل وواقعه، يمكن أن تكون زادا معرفيا وعلميا وأدبيا في آن واحد، تفتح أمام الطفل آفاق الوعي والإدراك، وتشكِّل فيه شخصية ناضجة مبدعة، تتحلى بالضمير اليقظ، وتتقد فيها نزعة الانتماء إلى الوطن، والإخلاص له، وحب التضحية في سبيله.
جاءت لغته سهلة قريبة، محبَّبة إلى الطفل، بوقع ألفاظها الهادئ، وجرس حروفها العذب، وجاءت الصورة موائمة لخيال الطفل، لا ترتفع كثيرا عن مستواه، ولا تنحط بالابتذال، مؤثرا البحور الشعرية المجزوءة، التي تتكون منها مقطوعات موسيقية رقيقة، خفيفة على أسماع الأطفال، مستخدما التصريع في كثير من النصوص، فزاد ذلك كله من وفرة النغم، وجمال الموسيقى.
ويمكن إجمالُ أهم الملامح الفنية في شعر الأطفال عند “الشرقاوي” في الآتي:
- فصاحة اللغة وابتعادها عن الألفاظ العامية.
- التناسبية اللغوية، واستعمال اللغة الرقيقة المحببة إلى نفوس الأطفال.
- صدق العاطفة، وقوة الشعور.
- مواءمة الصورة لخيال الطفل، وعدم الإفراط في استخدام المجاز.
- الموسيقى الخفيفة، التي تحققت باستعمال البحور المجزوءة والبسيطة.
نستطيع أن نقرر بصدق أن الشاعر “محمد الشرقاوي” رائد من روّاد أدب الأطفال المعاصرين، يستحق أن تتجه إليه أنظار الباحثين، ويلقى عنايتهم في مزيد من الدراسات والأبحاث المتخصصة، بصورة أكثر اتساعا، وشموليةً أفقيا ورأسيا، ولا شك أنه قد لفت بإبداعه وتميزه بعض الباحثين المتميزين، فقاموا بدراسة بعض الجوانب في إبداعه، من ذلك دراسة بعنوان: “أدب الأطفال بين القيم الجمالية والقيم التربوية والأخلاقية”، للدكتور/ شعبان عبد الحكيم محمد([12])، ودراسة أخرى في شعر الراشدين بعنوان: “تعانق الذات والوطن في ديوان “ما عاد سرا” للشاعر محمد الشرقاوي” بقلم الأستاذ الدكتور/ صبري فوزي أبو حسين([13]).
والشاعر من الناحية الإنسانية- على قلة تواصلي معه- إنسانٌ رقيقُ الشعورِ، ليِّنُ الجانب، يتمتع بأخلاق عالية، وحِس مرهف، قد وضع لنفسه هدفا ساميا في مجال الإبداع الأدبي- رغم تخصصه الجامعي في اللغة الفرنسية- فحقق كثيرا منه، ولا يزال يعطي، وتتوالى إنجازاته الأدبية، التي تنم عن أصالة شخصيته، ووعيه بدور الأدب في التربية والإصلاح.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي: 7/7، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة: الأولى، 1404 هـ
([2]) الكامل في اللغة والأدب للمبرد: 1/211، محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: دار الفكر العربي – القاهرة، الطبعة الثالثة 1417هـ – 1997م.
([3]) محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء، الراغب الأصفهاني: 1/106، شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم – بيروت
الطبعة الأولى، 1420ه.
([4]) زهر الآداب وثمر الألباب، الحصري القيرواني: 1/58، دار الجيل، بيروت 1972م.
([8]) الخصائص لابن جني: 160، دار الطباعة المحمدية القاهرة – مصر، الطبعة: الأولى، 1407 هـ – 1987م.
([10]) سُكِّنت الباء للضرورة الشعرية.
([12]) رابط الدراسة على موقع صوت الشعب بتاريخ 7/7/2020م: https://soutelshaab.com/9770-2/
([13]) رابط الدراسة على موقع صوت الشعب بتاريخ 9/7/2020م: https://soutelshaab.com/9997-2/