البوح بما سكت عنه العلاّمة (الطاهر مكي)!
بقلم/ صلاح حسن رشيد
باحث وناقد أدبي مصري
“إلى (الطاهر المكيِّ) يمَّمتُ ناظري لأملأ أعطـافي؛ بكعبـةِ علمهِ!
فتىً ناهز التسعينَ؛ هِمَّـةَ طائـرٍ يجوبُ فضاءَ العُرْبِ؛ غَيثاً لقومهِ!
فقد أصلح الأسقامَ رائـعُ رأيــهِ وقد أخصبَ الجرداءَ ناصعُ فهمهِ!
فهل يا تُرى؛ كيف السبيلُ لبـحرهِ؟ وهل يا تُرى نحظى ببعضِ طُعُومهِ؟!”
(شعر/ صلاح حسن رشيد)
ذات صباح؛ فوجئت بأحد الزملاء يستوقفني فى بهو دار العلوم؛ وهو يصيح؛ والناس من حوله بالمئين؛ وهو يقول: “لقد ظلمني رئيس القسم؛ وحرمني من التسجيل للماجستير”! ثم ازداد توتره، وصخبه؛ فخاطبنى قائلاً: “على العلم السلام، وعلى التواضع الرغام”! ثم تساءل بلوعةٍ بالغة: هل فى دار العلوم اليوم نموذجٌ للتواضع، والأبوة الحانية بين الأساتذة؟!
فربَّتُ على كتفه، وقلت له: “حنانيك .. حنانيك؛ خفِّف من غلوائك، وشططك! يكفي أن ترى الطاهر مكي، وأن تعرفه عن قرب؛ فهو بحقٍّ؛ التواضع ماشياً على الأرض، والعلم؛ ناشراً أجنحته بين الناس، والزهد؛ عملاً وتطبيقاً، والأخلاق؛ شِيَماً وسكينة”!
فالطاهر مكي(1924-2017م) عميد الأدب المقارن رحمه الله؛ ليس فى حاجة إلى الكتابة عنه؛ أو الحديث عن علمه الغزير، وعبقريته المديدة، وأخلاقه الرحيبة، وأستاذيته لأجيالٍ وأجيال وأجيال!
فقد امتلأت جامعات مصر، والعرب؛ بمداد علمه، ورواء فنه، وبصمة أدبه، ونقده، ونُبْله، وشهامته!
أجل؛ فقد كتب المتخصصون، وغير المتخصصين عنه الكثير والكثير؛ غير أن جانباً خفياً فى حياة الطاهر مكي؛ لم ينل أية عنايةٍ من جموع الدارسين، وهو آية الآيات على إخلاصه للكلمة، وتبتُّله فى محاريبها المقدسة؛ هذا الجانب لاح لي فى وقت أن شرعت فى انتواء الكتابة عنه؛ فاهتبلتُ مِنَح السماء الحانية، وعطاياها الغالية.
هذا الجانب غير المعروف؛ هو معارك الطاهر مكي؛ التى فُرِضتْ عليه فرضاً؛ فدخلها؛ دفاعاً عن راية الحق، وحرمة الأدب! فلا جرم؛ أن الطاهر مكي آثر اعتزال صخب الحياة، ورتابتها منذ وعى وأدرك؛ أنه يعي ويُدرك؛ معتكفاً فى محرابه؛ يتلو آيات الإبداع، ويرتل سور الإجادة، وينشد روائع الخيال، ويبتكر آي الخلود، وينجز أسفار النبوغ، ويُقَرِّب الشرق من الغرب، والغرب من الشرق!
* * *
أجل؛ عَرف الطاهر مكي؛ أن كتاب(نماذج بشرية) للدكتور محمد مندور مأخوذٌ من كتاب(النماذج العالمية فى الأدب الفرنسي والعالمي) للفرنسي جان كالفيه حذو القذة بالقذة، وحذو النعل بالنعل؛ كما يقول أهل اللغة، والأدب! (فأسرَّها فى نفسه، ولم يُبدِها) كما هو شأن سيدنا يوسف عليه السلام؛ مع إخوته الذين نزغ الشيطان بينهم؛ فآذوه وآذوه!
فمضت الأيام؛ والطاهر مكي؛ لا يثير غباراً حول واقعة مندور، ولا يُشنِّع عليه؛ غير أن تلميذاً عراقياً له؛ كتب مقالاً فى صحيفة عراقية عن سرقة مندور؛ مستشهداً بآراء أستاذه/ الطاهر مكي؛ التى لم يشأ أن ينشرها، أو يذيعها بين الخلق! غير أن دخول زوجة الدكتور مندور؛ الشاعرة/ ملك عبد العزيز سجال المعركة، وإهالتها التراب على الكاتب العراقي، وزجَّها باسم/ الطاهر مكي فى أتون المعركة؛ جعله يتدخَّل غير راغبٍ، ولا حابب؛ متخلياً عن صمته، وصومه؛ مدافعاً عن الحق والحقيقة؛ فعرض القضية برمتها؛ بموضوعيةٍ تامة، وأزال اللثام عنها؛ فكشف؛ بعلمٍ، ودراية، وعدالة، ونزاهة؛ عن أخطاء مندور، وسرقاته؛ فأخرس كل صوت، وأدخل اليرابيع فى جحورها؛ وأخرج للناس علماً؛ آثر زهدُه، وتقواه فى عدم الاستطالة به على خلق الله!
* * *
قبل عَقد من الزمان؛ ألحَّ الدكتور الراحل/ طه وادي على العلاّمة/ الطاهر مكي أن يختصه بمقالٍ ضافٍ؛ يضعه فى مفتتح الكتاب التذكاري المزمع إصداره عنه! لكن؛ نمط الطاهر مكي؛ الذي لا يكتب؛ لأن عنده شهوةً للكتابة؛ أو أنه يُجامِل أصدقاءه، وزملاءه؛ على حساب الأدب، والنقد، واللغة، والفن؛ أو أنه يكتب لكل مَن هبَّ ودبَّ، كما نرى، ونسمع، ونقرأ، أو أنه لا يجد له منبراً يجد فيه نفسه؛ كغيره من أهل الإسهال، والاستسهال! لا؛ فالطاهر مكي؛ يصرف نفسه تلقائياً عن مطاردات المجلات، والصحف؛ استكتاباً لقلمه الشريف؛ فهو يجد لذته الكبرى؛ فى مناجاة التراث، وفى استنطاق المعاصرة، وفى عَقد قران العاطفة العربية بالعقل الغربي؛ فى إطار الأدب المقارن!
وبين المطاردات، والإلحاحات، والمناشدات من طه وادي؛ العارف لمكانة الطاهر مكي فى ميدان الفكر، والأدب، والكلمة، وبين عدم تقبُّل الطاهر مكي للكتابة العدمية، البلاستيكية، الميِّتة؛ كل ذلك؛ جعله يعتذر للرجل بأدبٍ جم؛ غير أن حب طه وادي للطاهر مكي، وأسلوبه، ورجاءه؛ أن يمنحه مقال الخلود؛ جعله فى النهاية ينحل مقالاً عن أدب طه وادي، ومهره فى النهاية؛ بتوقيع الطاهر مكي!
لمّا عرف الطاهر مكي بالموضوع، وقرأ المقال؛ غضب غضباً شديداً؛ غير أن رحيل طه وادي بعد هذه الواقعة المخجلة؛ شفع له لدى الطاهر مكي؛ فكظم غيظه، ومنع نفسه من الانتصار على رجل بين يدي مولاه؛ فصمت راضياً؛ احتراماً لجلال الموت، وهيبته!
* * *
قبل أكثر من عَقدين؛ كان الراحل/ سمير سرحان؛ يجمع بين رئاسة دار الكتب المصرية، ورئاسة الهيئة المصرية العامة للكتاب؛ فارتأى الطاهر مكي؛ أن فى هذا إهداراً للكفاءات، والمواهب، وتكثيفاً للمركزية، ومنعاً لظهور أجيال جديدة من الأدباء، والنقاد؛ فكتب مقالاً نارياً فى مجلة(الهلال) طالب فيه؛ بضرورة الفصل التام بين رئاستَي دار الكتب، وهيئة الكتاب! ولأن الطاهر مكي؛ صاحب مكانة أدبية كبيرة لدى المثقفين، وأهل الحل والعقد؛ فقد كان لمقاله وقعٌ شديدٌ على المسئولين؛ فأصدروا أمراً بالفصل بين الهيئتين، وعدم الجمع بين المنصبين! فمن يومها؛ وسمير سرحان يكره الطاهر مكي؛ بل إنه- كما قال لي الطاهر مكي- أصدر قراراً؛ بعدم طبع أي عمل له، أو ترشيحه لأية جائزة من جوائز الدولة؛ عقاباً له على فعلته؛ التى فعلها؛ وهو يومئذٍ من الشرفاء، العدول، المحاربين؛ للظلم، والظالمين!
* * *
قبل عدة سنوات؛ نوقشت رسالة دكتوراه فى كلية بنات عين شمس بعنوان(منهج الطاهر مكي فى الأدب المقارن). آثر الطاهر مكي وقتها؛ كديدنه الطبيعى المعروف عنه؛ تركَ المجال مفتوحاً أمام المناقشين؛ للتعبير عن فكرهم بكل حرية، سواء بنقده، أم مدحه؛ فآثر عدم الحضور؛ طلباً للنزاهة العلمية؛ بعدم إرهاب لجنة المناقشة؛ بحضوره الطاغي، وعلمه الفذ، ومؤلفاته التى شرَّقت، وغرَّبتْ! فأثناء المناقشة؛ كان أحد المناقشين؛ لا يقوى على المجاهرة بنقد الطاهر مكي صراحةً؛ فأين مؤلفاته الهزيلة من مؤلفات الطاهر مكي العميقة العريقة فى الأدب المقارن، وغيرها من مناحي العلم، والأدب، والنقد، والتحقيق، والترجمة؟! وأمام تلميحاته الكسيحة، وتخرُّصاته الممجوجة، وأوهامه العليلة، وأراجيفه النحيلة؛ رفعتُ يدي بالسؤال؛ فلم يسمحوا لي بذلك! فقمتُ على الفور بكتابة رد شافٍ على هذا الرجل، وقدَّمته إليه؛ فانتظرت أن يشير إلى رأيي؛ فخرِسَ، وعمي، وصَمّ! فأدركتُ ساعتها مقولة ملكة النمل؛ لصغار النمل، والنِّمال:(ادخلوا مساكنكم؛ لا يحطمنَّكم سليمانُ وجنوده)!
* * *
هناك ثلة من أساتذة دار العلوم، وشعرائها؛ ظنوا أن معرفة العَروض والقوافي؛ تقتضي؛ بل تفرض عليهم فرضاً قرض الشعر؛ فكأن معرفة النحو، والعروض؛ تمنحهم أفضليةً لكتابة الشعر على غيرهم من أصحاب المهن الأخرى! فكان ما كان مما لستُ أذكره؛ فلا تظننَّ شِعراً؛ واسأل عن الشرر!
فلمّا ازورَّ الطاهر مكي عن هذا الشعر السلحفائي؛ المملوء بحامض الفكر، وفلزات العدم، وبروتينات الكساح، والهزال، وأرجل الفئران، والجرذان، والبعران، والجعران، والحولان؛ فترفَّع كعهده دائماً؛ أن يمنحهم شهادة الحياة التى لا يستحقونها؛ شنُّوا عليه حرب الصغار، والأشرار؛ فمقالة واحدة من الطاهر مكي تُعطيهم شهادة الميلاد؛ بأنهم شعراء شعراء! فمن ثَمَّ؛ فلم يتركوا مكاناً له فيه ريادة؛ إلاَّ واغتابوه، ورموه بشتائم الفأر للأسد، والهر للفيل! والطاهر مكي؛ لا يلتفت إليهم أبداً؛ بل لا يراهم على الإطلاق!
ولمّا فاتحته ذات مرةٍ فى تفاهات البعض من هؤلاء الصغار؛ هزَّ رأسه بثقةٍ تامةٍ قائلاً: “مَن يركن إلى أقوال الناس؛ لا ينتج أبداً! فاعمل؛ ودع عنك أذى الناس! يكفي؛ أن تُرضي ربَّك، وتؤدي عملك”!
* * *
قبل عدة سنوات؛ رشَّحتْ جامعة جنوب الوادي الطاهر مكي لجائزة مصر للآداب، وكان هناك مرشحان آخران؛ هما: كمال بشر، وبهاء طاهر؛ ففاز بها في النهاية بهاء طاهر؛ نتيجة تربيطات وزارة الثقافة، ورجال جابر عصفور فى المجلس الأعلى للثقافة! والدليل على أن الجائزة كانت للطاهر مكي؛ أن بهاء طاهر؛ الفائز بها .. سُئل فى أحد البرامج الفضائية؛ عمَّن كان يراه الأجدر بالجائزة؛ فقال: “الطاهر مكي .. الطاهر مكي”!
إذن؛ فحالت مواقف الطاهر مكي العصامية، وأخلاقه العالية، وعلمه الموسوعي، وزهده العجيب، وتعففه الواضح عن نيله هذه الجائزة؛ لأنه رجلٌ لا يعرف أنصاف الحلول، ولا الضحك على الذقون، ولا الشللية، ولا النفعية، ولا لغة المهلبية، والطعمية!
إنه؛ رجل المواقف؛ فأينما كان الحق، والعدل، والعلم؛ كان الطاهر مكي!
* * *
أجل؛ هذا هو الطاهر مكي فى صمته، وصومه، وبوحه، واعتزاله فى صومعته! هذا هو الطاهر مكي فى شموخه، وإنتاجه، وإبداعه! هذا هو الطاهر مكي فى معاركه؛ التي فُرِضتْ عليه فرضاً من الآخرين؛ فدخلها بسمت العلماء، وأخلاق الأولياء، وخصال الأتقياء الأنقياء؛ فكان النصر له؛ لأن الداعي المستطيل باغٍ، والباغي مهزومٌ، مدحورٌ، مخذول!
تُرى؛ هل نرى فى قادم الأيام فى جيل الشباب؛ مَن يقترب من الطاهر مكي فى علمه، وإخلاصه، وتجرده، وتواضعه، ومواقفه؛ ذلك العلاّمة؛ الذى قطع أعناق الكثيرين والكثيرين؛ من الشانئين الكارهين الحاقدين الوالغين؛ بصمته، ومروءته، وحكمته البليغة الفريدة، وعمله الدءوب المُعجِز؟