القصة الشاعرة تحتفظ بشخصيتها وترسم بالنغم دوائر نور متتالية
أ. د حسن مغازي
(القصة الشاعرة) جنس أدبى جديد، مصرى النشأة، عربى الثمرة، عالمى التوجه، أنشأه منذ عقد من الزمان الأديب المصرى الفذ محمد الشحات محمد ؛ هو (ليس القصة)، هو (ليس الشعر)، ينهض الجنس الأدبى الجديد فى بيئة وسطى بين ذينكم الجنسين الأدبيين الكبيرين غير مقتصر على نبعيهما فى امتياح دلائه.
* (مكونات السرد) هى الجذر الذى ينهض عليه(الفن القصصى)بتنوع أحجامه من(الرواية)، إلى(القصة الطويلة)، إلى(القصة القصيرة)، إلى(الأقصوصة)إلى(النبضة)، إلى …؛ تمتاح (القصة الشاعرة) بدلائها من (الفن القصصى) كوكبة من (مكونات السرد)، وحتى تحتفظ (القصة الشاعرة) بشخصيتها واستقلال مبدعها عن الانضواء فى صفوف (الروائيين) آثرت أن تضيف بضعة أسس، أههمها شدة التركيز فى(عنصر التكثيف)؛ بحيث تستطيع فى أقل من مائة كلمة النهوض بالرسالة نفسها التى يمكن أن تؤديها القصة.
* (القصة الشاعرة) فى بنائها الفنى من(مكونات الشعر)تمتاح بدلائها فى (نغمات القصيد)، وتحتفظ (القصة الشاعرة) هنا أيضا بشخصيتها واستقلال مبدعها عن الخشوع فى محاريب (الشعراء) بأن تخالف(أنغام الشعر العربى)فى قصدها استعمال(تقنيتين)، يتجنبهما الشعراء عادة، وهما ما يسمى (تدوير البيت)، وما يسمى (تضمين الأبيات)؛ هاتان (التقنيتان) معدودتان فى (علم القوافى) من (عيوب القصيد) عند غير الأخفش، وابن جنى، والجرمى، لكنهما هنا من (ميزات الإبداع) فى فن(القصة الشاعرة).
* تقنية (تدوير البيت) تعنى انتهاء صدره (نغما) فى بعض كلمة على أن يستكمل بعضها الآخر فى بداية العجُز، تأمل ذلك فى كل بيت من خمسة الأبيات فى لامية عنترة(على نغم الخفيف):
إن لى همة أشــــــــــــد من الصخـ/ـــــــــــر وأقوى من راسيات الجبال
وسنانا إذا تعـســــــــــــفت فى الليـ/ـــــــــل هدانى وردنى عن ضلالى
وجـــــــــــوادا ما سار إلا سرى البر/ق وراه مــــــــــــــــن اقتـداح النعـال
يفـتـدينـى بنفســـــــــــــــــــــــه وأفديـ/ــــه بنفسى يـــــــــوم القتـال ومالى
يا سـباع الفلا إذا اشتعل الحـــــــر/ب اتبعينى مــــن القفار والخوالى
* تقنية (تضمين الأبيات) تعنى انتهاء (عجُز البيت) نغما، لكن(التركيب)يحتاج إلى استتمامه فى بيت لاحق؛ تأمل ذلك فى قول الأخطل (على نغم البسيط):
وما الفراتُ إذا جاشتْ حوالبُـــهُ/فى حافَتَيْهِ وفى أوســاطِهِ العَشْرُ
وزَعْزَعَتْهُ رياحُ الصيفِ واضطرَبَتْ/فوقَ الجآجىءِ مِن آذِيِّهِ غُدُرُ
مُسْحَنْفِرًا من جبالِ الرومِ يَسْتُرُهُ/مِنها أكافيفُ فيها دُونَهُ زُوَرُ
يومًا بأجودَ منه حـيــــــن تسأَلُهُ/ولا بأجهرَ منــــــــــــه حين يَجْـَتَهِرُ
وبعض ذلك فى قول امرئ القيس(على نغم الطويل):
وتعرف فيه من أبيه شمائلا/ومِن خاله ومِن يزيدَ ومِن حُجْرِهْ
سماحةُ ذا وبِرُّ ذا ووفاءُ ذا/ونـائـلُ ذا إذا صحا وإذا سَـــــكَرِهْ
وفى قول عبد الله بن الدمينة(على نغم الطويل):
وما وجْدُ أعرابيةٍ قذفَتْ بها/صروفُ النوَى مِنْ حيثُ لم تَكُ ظَنَّتِ
بأكثرَ مِنِّى لوعةً غيرَ أننى/أُطامِنُ أحـشـــــــــائى على مـا أجَنَّتِ
* من نتائج اعتماد (القصة الشاعرة) على هاتين (التقنيتين) عدم التزامها بالعدد المتاح فى (بيت الشعر) من (تكرار النغمة)؛ يبدأ المبدع (على النغمة متفاعلن) مثلا، ورغم (تركيز التكثيف) يجد انتهاء النغمة الثالثة فى بعض كلمة، فيستمر ببعضها الباقى فى نغمة جديدة، ثم فى بعض كلمة تنتهى النغمة السادسة، وهى (الحد الأقصى فى بيت الكامل)، فيستمر المبدع ببعضها الباقى فى (نغمة جديدة)، ويظل كذلك فى إبداع متصل، تتلاحق معه الأنفاس؛ كأنه بالنغم يرسم (دوائر نور متتالية) إلى لحظة ولادة النغمة الأخيرة.
* نرى هذا لدى(محمد الشحات محمد)فى إبداعه:
(مِنْ قاعةِ الجوزاء، في الوادي الجديدِ، تراءتِ الغَيْماتُ، غُلّقتِ النوافذُ ساعةً، فيها تصوَّرَ للرياحِ مُراقبٌ ..، زادتْ هشاشةُ مُلصَقاتِ الطَّرْح ..، “دونَ تَهَيّبٍ” شقّتْ بوارجُه الحوائطَ، فامْتطى سُحْب التأمّلِ نيْترونُ الفكْرِ، نَادَتْه البُروتوناتُ أنْ شَرْينْ وريدَ الآن؛ أصحابُ السُّمُوِّ يُباركونَ محبَّةً ..،
قَصْدًا تَولَّتْ هيئةُ الأرصادِ “تحْلِيلَ” النِّدا، لبَّى الحبيبُ: أنا لها ..،
إيزيسُ عِشقًا أَمطَرتْ)
* تنغمها على(متفاعلن):
مِنْ قاعَتِلْ/جَوْزاءِفِلْ/وادِلْجدى/دِتَراءَتِلْ/غَيْماتُ غُلْ/لِقَتِنْنوا/فِذُساعتَنْ/فيهاتَصَوْ/وَرَلِرْرِيا/حِمُراقِبُنْ/زادَتْهَشا/شَتُمُلْصقا/تُطْطَرْحِدُو/نَتَهَيْيُبِنْ/شَقْقَتْبَوا/رِجُهُلْحوا/ئِطَفَمْتطا/سُحبَتْتَأَمْ/مُلِنَيْتُرو/نِلْفِكْرِنا/دَتْهُلْبُرو/توناتُأَنْ/شَرْيِنْورِى/دَلْأَانَأَصْ/حابَسْسُمُوْ/وِيُباركُو/نَمَحَبْبَتَنْ/قَصْدَنْتَوَلْ/لَتْهَيْئَتُلْ/أَرْصادِتَحْ/ليلَنْنِدا/لَبْبَلْحَبى/بُأَنالها/إيزيسُعِشْ/قَنْأَمْطَرَتْ …)
* فى (القصة الشاعرة) لدينا (تسويغ فنى) طيب لقبول(الخروج على النغم)فى(زيادة السعة)المعهود تكرارها فى (بيت الشعر)، وتلك (إحدى ميزات) الإبداع فى (القصة الشاعرة) لدينا نقديا، رغم أنها هى نفسها (أبرز سوءات) ما أسميناه منذ ربع قرن(الشِّحْر العُرّ)بثلاث موجاته؛ (عبث التفعيلة)، (الهراء الحر)، (مقصودة النثر)؛ (الخروج على النغم) شأنه شأن (حمل الجنين)؛ هو أبرز الميزات لدى العروس بعد زواجها، وفى الوقت نفسه هو (العار) الذى لا يصح اطلاع الآخرين عليه لدى (الحامل سفاحا)؛ ففى(الشحر العر)نجد أنه (ينعدم) هنا نهائيا أى مسوغ للتغيير فى عدد (النغمات) سوى أحد مسوغين؛ فإما أن (المنتج) ضعيف لغويا وفنيا، وذلك أحسن الحالين، وإما أنه (سىء النية)، يقصد قصدا(تحطيم أسس القصيد)، وذلك بالضبط هو ما دعا إليه(لويس عوض)فى أربعينات القرن الماضى فى صيحته البذيئة (حطموا جمود الشعر) التى قدم بها ما يصنفه ديوانه، ويسميه (بلوتولاند وقصائد أخرى)، وتبعه فى ذلك ضِعافُ البِنْيَةِ، مِراضُ الأنفُس(نازك، والسياب، وعبد الصبور، وحجازى، والبياتيان، والدرويشان، والمطران، والجويدتان، و …
* فى حين تجد (المسوغ) واضحا الوضوح كله فى تحرك النغم فى (القصة الشاعرة) بتشابك النغمات على الطريقة التى ذكرنا لتحقيق (الهدف الأكبر)، وهو (تركيز التكثيف) بأعمق درجة ممكنة، وفى سبيل ذلك يضحى المبدع بكل جرأة وصراحة بانضمامه فى (محاريب الشعراء) مفضلا استقلاله فى (فضاء جديد)؛ هو يود أن يقول إنه ليس من فصيلة(نبات الهالوك)المتسلق دوما على أكتاف (نبات الفول) لعدم قدرته على العيش مستقلا منفردا، يود أن يعلن صراحة أنه (ليس من الشعراء)، لكنه (يؤسس)، و(يمهد)، و(يُعَبِّدُ) طريقا جديدا مبتكرا، يتباهى به (الأدب العربى) عموما، و(أدباء مصر) بصفة خاصة.
فى (بنائها الفنى) تعتمد القصة الشاعرة على(الإيغال فى الرمز)؛ فهى تطلق العبارة الواحدة، ومن خلال(الرمز) تشع تنوعا فى الدلالات، وهذا ما يسلمنا إلى مكونها الثانى الأهم، وهو (تركيز التكثيف)، ثم من خلال مكونها الثالث، وهو (تعدد الأنسجة) فنيا بين القصة والقصيدة وغيرهما يتنامى الحدث نموا غير متسلسل منطقيا، بما يمنح عقل المتلقى وخياله حقا أصيلا فى ارتياد غابات مشاعره لإعادة التوزيع فى مكونات الحدث، كل حسب معطياته فكرا وإحساسا وخيالا.