ويل لهن من الحروب..
قراءة في التأثيرات الاجتماعية والنفسية
التي تتعرض لها النساء
د. نجلاء الورداني
بدايةً تجدر الإشارة إلى ضرورة تحقيق عملية الموازنة بين خسائر الحرب ومكتسباتها سواء قبل نشوبها أم بعدها، أي حتمية أن تقوم الحرب على حسابات استراتيجية وتكتيكية دقيقة، حيث لا تفوق التبعات السلبية الخير المستهدف تحقيقه “فلا حرب عادلة دون قضية عادلة”، رغم أن حساب النتائج يبقى أمرًا صعبًا. ومن ثم؛ عندما تزول أسباب الحرب ودوافعها يلزم إنهاؤها في أقرب وقت ممكن، إضافةً إلى توفير مبدأ الحصانة بالنسبة لغير المقاتلين، والامتناع عن الإضرار بعامة الشعب البسطاء، وإذا كانت الجوانب السلبية المرافقة للحرب لا مفر منها، فلا يجب أن تكون غاية في حد ذاتها حتى يمكن تبريرها، فالغاية في هذه الحالة هي المحدد الرئيسي للطبيعة الأخلاقية للفعل.
وتعد النساء والأطفال من أكثر الفئات غير المباشرة المشاركة في الحروب والنزاعات المسلحة، لما تعانيه هذه الفئات من الموت والإصابة، والاغتصاب، والخطف، والاعتداءات الجنسية، والتفكك الأسري، والنزوح، وفقدان الملكية، إضافةً إلى معاناتهم من الخوف والاضطرابات النفسية، والإحساس بفقدان الأمل، فيعيشون كنازحين في أوضاع تغيب عنها الحاجات والخدمات الأساسية. إن المتتبع المنصف لمجريات الحروب يجد أن النساء أصبحن ضحايا سهلة في حروب القرن العشرين وحتى مع بدايات القرن الحادي والعشرين. وكذلك من ينظر إلى الدراسات الصادرة عن “اليونيسيف” سيجد أن أعداد كبيرة من النساء قتلن بأساليب بشعة ووحشية، فالمرأة تقتل أمام طفلها أو ذويها، أو تغتصب، كما حدث لمسلمات “البوسنة وكوسوفا”؛ حيث يصبح السكان مستهدفين في المناطق التي توقد فيها الحروب ولا سيما النساء، مع أنهن أقل الناس تأثيرًا في الحرب وانتفاعًا منها.
وفي هذا الاتجاه لعله من البديهي؛ الإشارة إلى أنه رغم وجود عدد من الاتفاقيات الدولية التي تهدف إلى حماية المرأة المستضعفة، فإن الإيذاء الوحشي للمدنيين وبخاصة النساء في النزاعات المسلحة لا يزال مستمرًا، حيث أضحت الهياكل الأساسية المدنية غطاء لعمليات الحركات التمردية وأهدافًا للانتقام، وضحايا للأعمال الوحشية الفوضوية، والتي كثيرًا ما تعقب انهيار سلطة الدولة ( البوسنة والهرسك، رواندا، الصرب، العراق، فلسطين، سوريا … إلخ)، وفي أشد الحالات تطرفًا يصبح الأبرياء هم الأهداف الرئيسية لممارسة التطهير العرقي والإبادة الجماعية، مما تختفي معه الكثير من الأنشطة الإنسانية والثقافية والحضارية من جراء الحروب، فيتأثر كل شيء ويبدأ في التلون بلون الحرب، فتضطر النساء للعمل لسد الثغرات التي تركها الرجال ممن ذهبوا للحرب أو قتلوا، وبهذا يضاف عبء على كاهل النساء بجانب تربية الأبناء، كما تشكل الحروب خللاً في نسبة الرجال للنساء خصوصًا الحروب التي تمتد لفترات طويلة، فينشأ فسادًا اجتماعيًا وانحرافات جنسية وأخلاقية تتحمل تبعتها المرأة بمفردها.
لقد أوضحت العديد من الأبحاث والدراسات أن النساء أكثر عرضة للتهميش والفقر والمعاناة الناجمة عن النزاع المسلح؛ حيث بلغت نسبة الرجال المعتقلين في بعض النزاعات 96% ونسبة المفقودين منهم90%. وبالتالي تتحمل النساء عبء السعي لتدبير المعاش اليومي لأسرهن، كما أن هناك مجموعات كبيرة من الأرامل والحوامل والمرضعات والأمهات، وهذا هو ما يجعل النساء أكثر عرضة للأذى بسبب الحروب والنزاعات المسلحة، والتي تؤدي إلى تغيير الدور الاقتصادي والاجتماعي للأسرة فتتحمله المرأة ، مما يترتب عليه في كثير من الأحيان الانهيار العائلي المتتالي، أو العمل في التسول والدعارة، أو القيام بأعمال شاقة يؤديها عادة الرجال مثل الزراعة وتربية الماشية ورعايتها، أو الهجرة من المدن لأجل العمل فيها. أيضًا قلة فرص الزواج وإنعدامها في أوقات كثيرة، فتزداد نسبة العنوسة، وتقل فرص المرأة في اكتساب مركز اقتصادي واجتماعي، حيث يعد الزواج الأكثر أهمية لتحقيق ذلك في بلدان كثيرة. إن الحرب تجبر النساء على الاضطلاع بأدوار غير مألوفة وتقتضي منهن تعزيز ما لديهن من مهارات للتغلب على الصعاب، إضافة إلى اكتساب مهارات جديدة.
ولكن ما سبق ذكره لا ينفي وجود الكثير من النساء ممن تحلين بالشجاعة والفطنة في أوقات الحروب والنزاعات المسلحة، فامتلكن القدرة على البقاء والصمود، والقيام بدور ربات للأسرة – وهو الدور الذي لم يتم إعداد كثيرات منهن للقيام به، كما تزداد صعوبته نتيجة القيود الاجتماعية المفروضة عليهن. أيضًا من بين التأثيرات المباشرة وغير المباشرة للنزاعات المسلحة على النساء الآثار الصحية حيث تتفاقم المشكلات الصحية بمناطق النزاع، فتكون النساء أكثر عرضة للإصابة بالأمراض الجنسية، والاحتياج الشديد إلى رعاية صحية خاصة أثناء الحمل والولادة، وتنظيم الأسرة، والحماية من العنف الجنسي، والأمراض التي تنتقل عن طريق الاتصال الجنسي الشرعي أو القصري.
حيث أقر تقرير منظمة العفو الدولية الصادر عام (2002) عن المرأة والنزاعات، والذي صدر في اليوم العالمي للمرأة أن “الحروب والنزاعات تمثل هولًا كبيرًا بالنسبة للمرأة، حيث لا تقتصر مخاوفها على الدمار والاضطرابات والإصابات والموت، بل تمتد لتشمل خوفها من عمليات الاغتصاب والتعذيب، والأذى الجسدي والجنسي، والعبودية الجنسية أو الاقتصادية، والعلاقات أو الزيجات الجبرية”، أيضًا أضاف التقرير أن من (20-50) ألف امرأة تعرضت للاغتصاب في “البوسنة”، كما أن ظاهرة العبودية الجنسية شائعة في “الموزمبيق”. إن آثار النزاعات المسلحة والحروب على المرأة لا تقف عند حد إلحاق الضرر المادي بجسدها أو قتلها، بل تتجاوز ذلك إلى هدم مساكن الأسر وتدمير ممتلكاتها فضلًا عن تعريض البنى التحتية كالماء والكهرباء والصرف الصحي للتدمير الشامل.
وهذا ما أكدت عليه العديد من الدراسات خلال فترات النزاعات المسلحة ؛ حيث أن (82%) من النساء قمن بدور الأم والأب معًا، و(36.5%) كان يقع على عاتقهن حل مشكلات الأسرة والعائلة، و(45%) من ربات البيوت اضطررن للعمل خارج المنزل بسبب انشغال الزوج بالنزاعات والحروب، و(33%) من حالات الطلاق قد وقعت بسبب القلق والتوتر الناجم من النزاعات والحروب.
من جانب آخر؛ أكدت بعض الأبحاث والدراسات على أن معدلات الطلاق في زمن النزاعات قد ارتفع لاسيما في أسر الأزواج الذين يمارسون مهنًا عسكرية؛ حيث كان لتلك الحروب والنزاعات أثر مباشر على الأسرة وعلى المرأة خاصة، نظرًا لوقوع الرجال في الأسر،فمنهم من طلقوا زوجاتهم بعد عودتهم من الأسر، ومنهم من انفصلوا عنهن دون طلاق، ومنهم من يعيش معهن على غير وفاق، وقد يعود هذا في أحيان كثيرة إلى تغير مهم طرأ على تصور المرأة لذاتها بسبب غياب الزوج لمدة طويلة، والذي أدى معه لقيامها بدورين مزدوجين اعتادت عليهما، فأصبح التخلي عنهما شيئًا يصعب عليها القيام به، وبالمثل زيادة أعداد الأرامل، والذي يؤدي إلى تغيير الأدوار الاجتماعية والاقتصادية للنساء في البيت والمجتمع المحلي في أوقات كثيرة، فتتغير معه بنية الأسرة ليؤثر بدوره على الأمن الشخصي للمرأة وقدرتها في الحصول على السلع والخدمات، وينال من حقوقها الإرثية خاصة في حال انقطاع صلتها بأهل الزوج، مما قد لا يسمح لها بالاحتفاظ بالأطفال، أو تجبر على الزواج بشقيق الزوج، وفي حال رفضها تنبذها الأسرة، وهذا ما يحدث بالفعل لدى عدة قبائل جنوب السودان. كما يمكن رؤية الآثار المتباينة للصراع المسلح ومواطن ضعف المرأة والفتاة على وجه التحديد في جميع مراحل التهجير، بما في ذلك مرحلة النزوح الأولية والحماية والمساعدة في مخيمات اللاجئين والنازحين وإعادة التوطين والإدماج.
ولا تقل الآثار النفسية للنزاعات المسلحة على المرأة عن ما سبق، حيث ينتج عن فقدان المقومات الأساسية لعيش المرأة في مجتمعها، وفي ظل ظروف تضمن لها التوافق النفسي، ومستوى الصحة النفسية المطلوب نظرًا لتعرضها للتهديد أو القتل، أو فقدان معالم الحياة الاجتماعية؛ التي يتشبث بها الإنسان لتجديد ذاته وتحديث هويته عدد من الاضطرابات النفسية مثال(حالات القلق، والهذيان، وحالات الذهان، واضطرابات ذهنية، وإدراكية، وانفعالية …. وغيرها)، أو التعرض للقصور الجسدي أو العقلي، أو لكليهما، مهما كان سن الضحايا ومستواهن العقلي. كما أن المراهقة في مثل هذه الظروف قد تفقد أهلها فتتعرض للتحرش والاعتداء الجنسي، وتنخرط بالدعارة؛ وكذا الطفل الذي يفقد والديه، ومدرسته، ورفقاءه.
ووفق ما ورد في موسوعة “تشخيص وإحصاء الاضطرابات النفسية” فإن اضطرابات التوتر التي تنتج عن ظروف الاحتلال والاعتداء يتم تشخيصها عند الشخص الذي عاش، أو جرب، أو واجه حدثًا، أو أحداثًا نتج عنها التهديد بالموت، أو جروح خطيرة، أو تهديد كيانه الجسدي، أو الجنسي، أو الكيان الجسدي للآخرين، أو الجنسي، أو الخوف الشديد والذعر، أو الإحساس بانعدام وجود المساعدة، تصاب سلوكياته بأنواع من الخلل والانحرافات المتتالية والمتصارعة أغلب الأوقات، إن لم يكن جميعها.
ولذا فإن الحماية العامة والخاصة التي يحق للنساء التمتع بها يجب أن تصبح حقيقة واقعية، فلا بد من بذل جهود متواصلة لتعزيز المعرفة بالالتزامات التي يفرضها القانون الدولي ودعم الامتثال لها بين أوسع جمهور ممكن، وباستخدام جميع الوسائل المتاحة من إشراك الجميع وبالأخص النساء في تحمل مسؤولية تحسين الوضع الصعب الذي تعيشه المرأة في زمن الحروب، ولهذا وجب تقديم برامج تأهيلية وتشغيلية وإغاثية للنساء وخاصة اللاتى تُعيل أسر وزوجات الشهداء والأسرى، إضافة إلى إنشاء مراكز للإرشاد والدعم النفسي الاجتماعي والقانوني للأسر، وتجهيزها بما يلزم في كل منطقة من المناطق التي تتواجد بها المرأة سعيًا لتقديم الدعم النفسي والعلاج للنساء والأطفال، وكذلك إنشاء دور إيواء متخصصة بالناجين من الحروب والعنف من النساء والأطفال في جميع المدن التي يحتمل أن يصلها هؤلاء، وبالمثل تقديم الأنشطة والبرامج المجتمعية المتعلقة بتطوير القدرات والإمكانات، والمهارات الحياتية العصرية المطلوبة للنساء.