شبهات وردود.. آيات تُوهم النسخ ولا نسخ
د. محمد العربي
ذكروا اّيات وتوهموا أن فيها نسخا وهي لا نسخ فيها وإنما كانوا فيها كحاطبى ليل لا يفرقون بين الحطب وبين الثعابين وكفى بذلك حماقة.
وهنا نعرض نموذجين مما حسبوه نسخاً، وهو أبعد ما يكون عن النسخ.
النموذج الأول :
(لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي).
(قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون).
زعموا أن بين هاتين الآيتين تناسخا، وأن إحدى الآيتين تمنع الإكراه في الدين، والأخرى تأمر بالقتال والإكراه في الدين، وهذا خطأ فاحش، لأن قوله تعالى: )لا إكراه في الدين) سلوك دائم إلى يوم القيامة.
والآية الثانية لم ولن تنسخ هذا المبدأ الإسلامي العظيم؛ لأن موضوع هذه الآية “قاتلوا” غير موضوع الآية الأولى: (لا إكراه في الدين).
لأن قوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) له سبب نزول خاص، فقد كان اليهود قد نقضوا العهود التي أبرموها مع المسلمين، وتآمروا مع أعداء المسلمين للقضاء على الدولة الإسلامية في المدينة، وأصبح وجودهم فيها خطراً على أمنها واستقرارها، فأمر الله المسلمين بقتالهم حتى يكفوا عن أذاهم بالخضوع لسلطان الدولة، ويعطوا الجزية في غير استعلاء.
أجل: إن هذه الآية لم تأمر بقتال اليهود لإدخالهم في الإسلام، ولو كان الأمر كذلك ما جعل الله إعطاءهم الجزية سبباً في الكف عن قتالهم، ولاستمر الأمر بقتالهم سواء أعطوا الجزية أم لم يعطوها، حتى يسلموا أو يقتلوا وهذا غير مراد ولم يثبت في تاريخ الإسلام أنه قاتل غير المسلمين لإجبارهم على اعتناق الإسلام.
ومثيرو هذه الشبهات يعلمون جيدا أن الإسلام أقر اليهود بعد الهجرة إلى المدينة على عقائدهم وكفل لهم حرية ممارسة شعائرهم، فلما نقضوا العهود وأظهروا خبث نياتهم قاتلهم المسلمون وأجلوهم عن المدينة.
ويعلمون كذلك أن النبي عقد صلحاً سلمياً مع نصارى تغلب ونجران، وكانوا يعيشون في شبه الجزيرة العربية، ثم أقرهم على عقائدهم النصرانية وكفل لهم حرياتهم الاجتماعية والدينية.
وفعل ذلك مع بعض نصارى الشام..
وهذه وقائع تعلن عن سماحة الإسلام ورحابة صدره، وأنه لم يضق بمخالفيه في الدين والاعتقاد.
فكيف ساغ لهؤلاء الخصوم أن يفتروا على الإسلام ما هو منه بريء؟
إنه الحقد والحسد ولا شی غیرهما إلا أن يكون العناد.
النموذج الثانى:
(يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما).
(إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه).
والآيتان لا ناسخ ولا منسوخ فيهما، بل إن في الآية الثانية توكيدا لما في الآية الأولى فقد جاء في الآية الأولى: “فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما”
ثم أكدت الآية الثانية هذا المعنى: (رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) فأين النسخ إذن؟
أما المنافع في الخمر والميسر فهى: أثمان بيع الخمر وعائد التجارة فيها، وحيازة الأموال في لعب الميسر “القمار” وهي منافع خبيثة لم يقرها الشرع من أول الأمر، ولكنه هادنها قليلا لما كان فيها من قيمة في حياة الإنسان قبل الإسلام، ثم أخذ القرآن يخطو نحو تحريمها خطوات حكيمة قبل أن يحرمها تحريما حاسما حتى لا يضر بمصالح الناس.
وبعد أن تدرج في تضئيل دورها في حياة الناس الاقتصادية وسد منافذ رواجها ونبه الناس أن حسم الأمر بتحريمها اّت لا محالة.. وهنا أخذوا يتحولون إلى أنشطة اقتصادية أخرى، جاءت آية التحريم النهائي في سورة المائدة هذه: (رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) هذه هي حقيقة النسخ وحكمته التشريعية، وقيمته التربوية، ومع هذا فإنه نادر في القرآن.