شبهات وردود.. ماذا لو حذفنا الكلام المكرر فى القرآن الكريم؟
تكرار الفاصلة
د. محمد العربي
سبق أن ذكرنا في مبحث الفواصل تكرار الفاصلة مرتین بدءاً وثلاث مرات نهاية ، وقد وجهنا أسلوب التكرارفى تلك السور، ولكنا هنا أمام فاصلة لم تقف في تكرارها عند حد المرات الثلاث، بل تعدت ذلك بكثير، لذلك آثرنا أن نبحثها هنا إذ هي بهذا الموضع أنسب.
ونعتمد في دراستنا لتكرار الفاصلة على ثلاث سور هي : ” الرحمن – القمر – المرسلات ” وهي السور التي برزت فيها هذه الظاهرة الأسلوبية بشكل لم يرد في غيرها.
فقد تكررت ) : فبأی اّلاء ربکما تکذبان ) فی ” الرحمن ” وتكررت ( فكيف كان عذابي ونذر) في “القمر ” وتكررت : ( ويل يومئذ للمكذبين ) في ” المرسلات ” .
تكرار الفاصلة في ” القمر ” :
ولهذا التكرار في المواضع الثلاثة أسباب ومقتضيات ، ففي سورة القمر نجد العبارة المكررة وهي : ( فكيف كان عذابی ونذر ) قد صاحبت في كل موضع من مواضع تكرارها قصة عجيبة الشأن، وکان أول موضع ذكرت فيه عقب قصة قوم نوح ، وبعد أن صور القرآن مظاهر الصراع بينهم وبین نوح عليه السلام ثم انتصار الله لنوح عليهم حيث سلط عليهم الطوفان فأغرقهم إلا من آمن وعصمه الله .
ونجد أن الله نجی نوحاً وتابعية ، ولكن تبقى هذه القصة موضع عظه وإذکار ، ولتلفت إليها الأنظار. وللتهويل من شأنها جاء قوله تعالی عقبها : (فكيف كان عذابي ونذر ) مصدراً باسم الاستفهام : ” کیف ” للتعجب مما كان ، ولقد مهد لهذا التعجب بالاّية السابقة عليه ، وهي قوله تعالى : ( ولقد تركناها آية فهل من مدكر ) .
والموضع التالي لذكرها حين قص علينا القرآن قصة عاد وعتوها عن أمر الله. وفي عاد هذه نجد العبارة اكتنفت القصة بدءاً ونهاية ، قال تعالى : ( كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر * إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصرا في يوم نحس مستمر * تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر * فكيف كان عذابي ونذر) وتكرار العبارة هكذا في البداية والنهاية إخراج لها مخرج الاهتمام مع ملاحظة أن أحداث القصة هنا صورت في عبارت قصيرة ولكنها محكمة وافية ولم يسلك هذا المسلك في قصة نوح أعنی قصر العبارات والسبب فيما يبدو لي أن إهلاك قوم نوح كان بالإغراق في الماء وهى وسيلة كثيراً ما تكون سبب هلاك ، فقد كانت سبب هلاك فرعون وملئه أما أن يكون الإهلاك بالريح فذلك أمر يدعو إلى التأمل والتفكر.
ولعل مما يقوى رأينا هذا أن هذه القصه “قصة عاد” وردت فى موضع اّخر من القراّن يتفق معه هذا الموضوع من حيث الفكرة ويختلف معه قليلاً من حيث طريقه العرض وزيادة التفصيل جاء فى سورة الحاقة : ( وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ )
فإرسال الريح هكذا سبع ليال وثمانية أيام حسوماً مدعاة للعظة والاعتبار.
ومثله 🙁 وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم * ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم) ، ( فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذى خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا باّياتنا يجحدون * فارسلنا عليهم ريحا صرصراً في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الأخرة أخزى وهم لا ينصرون ).
فقد بطرت “عاد” نِعم ربها عليها، وغرها ما هي فيه من أسباب التمكين في الأرض وقوة البطش فبارزت ربها ومولی نعمها بالمعاصي، فأهلكها الله بما لا قبل لها به ، وفي كل موضع يذكر القرآن فيه قصة هؤلاء تأتی عباراته قوية هادرة واعظة زاجرة ..
جاء في موضع آخر ) : ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد ) .
وکانت عاقبتها خسراً وهلاكاً مع من طغي في الأرض بغير الحق: ( فصب عليهم ربك سوط عذاب * إن ربك لبالمرصاد ).
أما الموضع الأخير الذي ذكرت فيه هذه العبارة : ( فكيف كان عذابی ونذر ) فحين قص الله علينا قصة “ثمود” ، وقد جاءت فيها كذلك مهيئة لتلقي صورة العقاب بعد التشويق إليها عند السامع ولفت نظره إليها : ( فكيف كان عذابي ونذر * إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا کهشیم المحتظر ) .
ومن هنا ندرك شدة اقتضاء المقام لهذا التكرار، فليست إحدى العبارات في موضع بمغنية عن أختها في الموضع الآخر. إنما هو اتساق عجيب تطلبه المقام من الناحيتين : الدينية والأدبية .
من الناحية الدينية حيث تحمل المؤمنين على التذكر والاعتبار عقب كل قصة من هذه القصص ومن الناحية الأدبية لأن العبارة : ( فكيف كان عذابی ونذر ) تأتي عقب كل قصة أيضاً لافتة أنظار المشاهدين إلى ” كنه ” النهاية وختام أحداث القصة.
وقد مهد القرآن لهذا التكرار حيث لم يأت إلا بعد خمس عشر آية تنتهي كلها بفاصلة واحدة تتحد نهاياتها بحرف ” الراء ” مع التزام تحريك ما قبلها ، وذلك هو نهج فواصل السورة كلها ، وقد أشاع هذا النسق الشاجی نوعاً من الإحساس القوي بجو الإنذار، والسورة فوق كل هذا مكية النزول والموضوع .
كما أن الطابع القصصي هو السائد في هذه السورة، فبعد أن صور القرآن الكريم موقف أهل مكة من الدعوة الجديدة، وبيّن ضلال مسلكهم، وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام حريصا على هدايتهم في وقت هم فيه أشد ما يكونون إعراضا عنه، لهذا اقتضى الموقف العام سوق عِبر الماضين ليكون في ذلك تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام ومن اتبعه، وزجر لمن عارضه وصدَّ عنه.
وما دام هذا هو طابع السورة فإن أسس التربية خاصة “تربية الأمم” تسند على تأكيد الحقائق بكل وسيلة ومنها التكرار الذى لمسناه فى سورة القمر هذه ، حتى لكأنه أصيل فيها وليس بمكرر.
تكرار اّخر فى سورة ” القمر ” :
وفى هذه السورة ” القمر” مظهر اّخر من مظاهر التكرار، هو قوله تعالى : ( ولقد يسرنا القراّن للذكر فهل من مدكر ) حيث ورد فى السورة أربع مرات، وهذه دعوة صالحة للتأمل فيما يسوقه الله من قصص.
وقد اشتملت هذه الاّية : (ولقد يسرنا القراّن للذكر فهل من مدكر ) على خبر واستفهام ، والخبر تمهيد للاستفهام الذى فيها ولفت النظر إليه.
وللحديث بقيه .