أدب الأطفال بين القيم الجمالية والقيم التربوية والأخلاقية
قراءة فى ديوان حكايات المساء لمحمد الشرقاوى
بقلم/ د. شعبان عبد الحكيم محمد
-1-
محمد الشرقاوى شاعر متفرد فى إبداعه الشعرى ، وخاصة فى كتاباته الشعرية للأطفال ، ومن أعماله ديوان ” حكايات المساء ” [كتاب نون الكتاب السابع والخمسون – عام 2013 م ] وإذا كان العنوان أول عتبات النص ، فالعنوان ” حكايات المساء ” عنوان إحدى قصائد الديوان ، هذا العنوان يفسر نهجه الشعرى فى عرض قصائده كـ ” حكايات ” وعادة ما يكون الحكى فى الليل حيث السّمر ، وبعد الانتهاء من عمل اليوم والبحث عن لحظات جميلة بها تكون المتعة والفائدة ، وهذا ما صنعه الشاعر محمد الشرقاوى فى ديوانه : متعة فنية ، وقيمة تربوية وأخلاقية ، حيث تُعرض القصائد فى شكل حكاية ، فتكون أكثر استثارة ومتعة ، واستمالة للطفل ، فهذا الشعر – كحكايات هادفة – وليست قصائد ذات رؤية فلسفية عميقة ، تحتاج إلى التأويل وكدِّ الذهن لإدارك الدلالة ، وهذا يتنافى مع النصوص الإبداعية للأطفال التى ينبغى أن يُراعى فيها المستوى والفكرى والعقلى والوجدان لهذه المرحلة العمرية ، وقد عبرت صورة الغلاف عن دلالة الديوان فى سمو مقصديته ، باعتبار أن هذه النصوص الشعرية ذات قيمة تربوية وتعليمية ، فوجدنا أعلى الغلاف هلالًا ومن تحته صورة للكرة الأرضية ، فهذه الأشعار فى قيمتها الإنسانية تضيىء للبشرية كلها الطريق نحو العلم والتقدم والازدهار، رُمِزَ بـ ( العلم ) على الغلاف بطائرة تلتحم بالهلال ، فبناء الإنسان علميًّا وفكريًّا تصعد وترتقى به إلى أعلى شىء فى الكون ، ووجدنا بجوار الطائرة على الهلال أشباه بشر ( تعبيرًا عن وصول الإنسان إلى القمر بالعلم وإمكانيته العيش عليه بأبحاثه وتقدمه العلمى ) وجاء العنوان الفرعى امتدادًا للعنوان الأصلى ” أناشيد للأجيال الصاعدة ” وفى هذا التعبير نجد الدقة ، فلم يذكر ” أطفال ” ربما لشعورالطفل فى هذه المرحلة بعدم ارتياح لمن يطلق عليه ” طفلًا ” وليجعل من نصه الشعرى قيمة جمالية لأى متلقٍ سواء فترة الطفولة أوالصبا ، وهذا ما نجده فى قصائد الديوان أنها تصلح للاثنين معًا … والعتبة الثانية فى قراءة النص الإهداء ، فقد أهداه إلى أبنائه مى ورنا ومؤمن ، وإلى أطفال مصر المحروسة والأمة العربية جميعا ، وهذا يؤكد مقصدية الكاتب ، فقصائد الديوان للجيل الصاعد ، والأولاده جزء من هذا الجيل ، بل لكل أطفال وصِبْية الوطن العربى عامة ، لما يتضمنه هذا الديوان فى قصائده – كما سنعرض – من قيم أخلاقية وتربوية وتعليمية ، وهذه القيم من أهداف أدب الطفل ، والعتبة الثالثة ما نجده فى الرسوم التى تتصدر كل قصائد الديوان [ على سبيل التمثيل بداية قصيدة الرسام صورة لطفل يرسم وأستاذته منبهرة برسمه ، وبداية قصيدة قال جدى صورة لحفيد يمسك يد جده فرحًا سعيدًا ، ممايوحى بمدى سعادته بنصائح جده ، وفى قصيدة أبى فى العيد صورة لطفل يلعب بسيارة كلعبة ، وفى القصيدة أبوه أهداها سيارة لعبة وشارك اللعب بها مع زملائه ورفاقه لتوطيد علاقات المحية والمودة ، وفى قصيدة زرت عمى نجد صورة لأسرة فى جو به الحميمية والدفء الأسرى ، وفى قصيدة هيا نلعب صورة لأطفال صغار يلعبون فى الفضاء تحت ضوء الشمس ، وفى قصيدة سر النجاح نجد صورة لمجموعة بأيديهم آلات للعمل ، وفى قصيدة قلوب الناس نجد صورة لمجموعة قلوب مختلفة فى الحجم والتكوين ، وهذا ما عرضت له القصيدة ، وفى قصيدة نصيحة أستاذى صورة لتلميذة تسجل نصائح أستاذها فى كراستها ….إلخ ) ومن مفاتيح قراءة القصائد الشعرية فى الديوان مجىء عنوان القصيدة مناسبًا لدلالة النص ، وهذا فعلٌ مغرٍّ بالقراءة والإفادة من النص ، وجاء عنوان النص فى غالبية قصائد الديوان بداية القصيدة وجزءًا منها ، فالديوان مكون من ثلاث وعشرين قصيدة ، جاء عنوان أربع عشرة قصيدة بداية للبيت الأول من القصيدة كالآتى : الرسام ( عاش رسام جوارى ) قال جدى ( قال جدى ذات يوم ) أبى فى العيد (أبى فى العيد أعطانى ) زرت عمى (زرت عمى ذات يوم ) هيا بنا (هيا بنا هيابنا ) سر النجاح (سرالنجاح هو الأمل ) قلوب الناس ( قلوب الناس أشكال ) بلاد العدل ( بلاد العدل لا تخشى ) عيون الخوف (عيون الخوف لا تبصر ) طبيب الحى (طبيب الحى أوصانى ) ذات يوم ( ذات يوم كان طفلٌ ) كتابى ( يا كتابى يا كتابى ) أنا طفل ( أنا طفل وأنظارى ) إن رأيت ( إن رأيت الخير يحيا )
وقصائد الديوان يتوافر فيها المقومات الفنية لقصيدة أدب الطفل الناجحة من حيث سهولة الألفاظ ، وقرب المعنى ، وجمال الصورة الفنية القريبة من الذهن والوجدان ، وحسن الإيقاع الموسيقى ، الذى يتحول فيه كثير من قصائد الشاعر إلى أغنيات تُغنى مثل ( هيا بنا هيا بنا – أبى فى العيد أعطانى – سر النجاح – قلوب الناس )
-2-
الديوان مكون كما قلنا من ثلاث وعشرين قصيدة تحمل هذه العناوين ( الرسام ، قال جدى ، أبى فى العيد ، زرت عمى ، هيا بنا ، سر النجاح ، قلوب الناس ، رسالة فى الهاتف المحمول ، نصيحة أستاذى ، بلاد العدل ، الطفل الأمين ، عيون الخوف ، طبيب الحى ، الإذاعة المدرسية، ذات يوم ، لغةالعصر، إلى ابنى الصغيرمؤمن ، كتابى ، حكايات المساء ، أنا طفل ، إن رأيت ، طاعة الوالدين ، الطفل المخترع )
ودراستنا للديوان تنطلق من رؤية كوهين فى كتابه اللغةالشعرية ( الشعر تردد بين الصوت والمعنى أو قل الدلالة والإيقاع ) فنصوص الديوان لها قيمة أخلاقية وتربوية وتعليمية ، وهذه رسالة أدب الأطفال ، بناء الطفل أخلاقيًّا وفكريًّا وروحيًّا …وغرس القيم الوطنية فى النفوس …وبداية من قصيدة ” الرسام ” حيث يوجه الشاعر عبقرية الرسام فى رسم الصورة المثلى للحياة ، صورة بها النشاط والعمل والحب والعطاء :
جاءت الأعمال تحكى فى جمال واقتدار
الفلاح يجنى الثمار ، والأستاذ يبنى العقول ، والجندى يحكى عن فرحته بانتصاره ، والأسماك تلهو وتلعب فى الماء ، وتتمتع بالحياة ، فهذه رسالة للطفل بأن يجد ويعمل ويقتدى بهؤلاء ،ويعيش حياته سعيدًا معطاءً …
وفى قصيدة ” قال جدى ” تتمثل رسالة الشاعر فى نصائح الجد الجميلة والراقية : فعل الخير فى الحياة ، فيرتقى صاحبه بهذا العمل ، وفعل الخيرواجب مقدس ، وينصح الجد – أيضا – بالجدِّ والعمل بإرادة قوية ، والحلم بمستقبل أجمل يعمل جاهدًا من أجل تحقيق هدفه ، لا يحلم و يتقاعص الطفل متراخيا متخاذلًا ، فينطبق عليه :
من تمنى المجد نومًا كيف يشتاق المناصب ص 7
وفى قصيدة ” أبى فى العيد ” يغرس فى الطفل حب أنداده واللعب معهم بحبٍّ وإخلاصٍ ، يشاركونه فى لعبته الجميلة التى أهداها له الجد ، فينغرس فى نفسه ” الإيثار ” ويُنَشَّأُ على الجود ، والأخلاقيات الراقية الصدق والإحسان ، والكرم ونبذ البخل .
ولم يكرس الشاعر كل وصاياه فى قصيدة واحدة لعاملين : حتى لا يشعر الطفل بالملل عندما يتحول النص إلى خطب ومواعظ ، الأمر الثانى أن الشخصية الواحدة عندما تقوم بكل الوصايا تفتقد مصداقيتها ، للنفخ فيها وجعلها فوق مستوى البشر ، لذا وزع مواعظه على قصائده ، فوصايا الجدّ غير وصايا العم ، غير إرشادات الأب ..إلخ ، فالعم فى قصيدة ” زرت عمى ” ينصح بالولاء للجدود ، ليتواصل اللاحق بالسابق ، الحفيد بالجد ، والابن بالأب ، لتستمر الصلة قوية بين الأسر فى تسلسها الزمنى ، ويجعل من هذه الصلة امتدادًا لصلة الشعب بأجداده السابقين ، والأسرة جزء من هذا الوطن ، وتظل رابطة التواصل بين الأجيال داعمة للافتخار بالتاريخ ، والنظر لبناء الامجاد لاستمرار حلقات هذا التاريخ ، وفى قصيدة ” هيابنا “يدعو الشاعر الأبناء إلى بناء المجد والعمل الخالد الطيب لهذا البلد ، بناء أساسه الحب والخير والعدل والعزّة وحبّ الوحدة ونبذ الفرقة ، فبالاتحاد نبنى الأمجاد …إلخ .
وهكذا تستمر قصائد الشاعر فى المواعظ وإعطاء الدروس لتوطين قيم أخلاقية وتربوية لبناء الغد الجميل ، والذى لا يمكن أن يتحقق إلا بالأمل والعمل بجد ، لا تكاسل ولا تهاون ، بل العمل بإخلاص وجسارة من أجل غدٍ جميلٍ ، ويختتم القصيدة محفزًا الأبناء بعلو الهمة والأمل فى غد جميل ، يتحقق بالإرادة والعمل وعلو الهمة :
من عاش ينظر للعلا لم يخش من قمم الجبل ص15
وفى قصيدة ” رسالة فى الهاتف المحمول ” يحدد معالم هذا المجتمع الذى نبنيه فى المستقبل ،الأمن والسلام والمحبة ونبذ الحرب ، وفى قصيدة ” بلاد العدل ” يتحدث عن فضائل العدل ، فى دعم مجتمع فاضل ، يخلو من الظلم ، ومن الفرقة ، وهذا المجتمع هوما ينبغى ان يطمح إليه الأبناء …إلخ .
ويتضمن الديوان لقيم ومعلومات عامة وثقافة فى الحياة ، ليقوم الناس بوظيفة تعليمية و تثقيفية كما فى قصيدة ” قلوب الناس ” والتى تروى عن اختلاف الميول والأهواء والتوجهات بين الناس أقرَّ ذلك من البيت الأول :
قلوب الناس أشكال قلوب الناس ألوان
فمنهم المحسن والبخيل ، والعادل والظالم ، والقريب من ربه يقوم بأداء الفرائض وتلاوة القرآن ، ومنهم من هو غافل عن دينه ، ومنهم من يحبون المال بصورة منحرفة متطرفة ، ومنهم المعتدلون فى ذلك ، فيعمل للدنيا والآخرة ، وتفعيلًا للقيم الأخلاقية ينهى الشاعر القصيدة بأن من لا تغلب عليه مفاتن الدنيا وحب المال هو الفائز ، يقول :
قلوب الناس إن تخشع سعدت بالعدل أبدان
ومن هذه الدروس التى يلقيها الشاعر فى ديوانه للأطفال كمنهج أخلاقى وإنسانى فى الحياة غرس قيم السلام ونبذ الحرب كما فى قصيدة ” رسالة فى الهاتف المحمول ” ويجعل السلام مطلبا قوميًّا ، وقيمة عظيمى تنغرس فى أعماق الشعب المصرى ، ولذا فتأصلها فى أعماق أبنائنا أنجح طريقة لغرس هذه القيم فى نفس المصرى .
وامتدادًا لغرس قيم السلام ما نجده فى قصيدة ” بلاد العدل ” لعلم الأبناء صفات هذا الشعب المحبُّ للسلام كما ذكرت ، والمحب للعدل – أيضًا – ويتوالى فى قصيدته موضحًا قيمة هذه الصفة فى الحب والاستقرار والتقدم .
ومن هذه القيم ترسيخ صفة الشجاعة فى الأبناء ، ففى قصيدة ” عيون الخوف ” يعرى لهذه الصفة السلبية ، التى تجعل صاحبها مرتبكًا ضعيفًا ، لا يبنى ولا يساهم فيه ، ويفتقد الشجاعة فى المواجهة ، وإدراك المجد .
ومن القيم التى يغرسها فى الديوان قيم تخصُّ التربية وتقويم الجسد ” صحيًّا ” ففى قصيدة ” طبيب الحى ” والتى يجعل النصائح على لسان طبيب الحى ، وتأتى النصائح مناسبة مع شخصية الطبيب ، حيث ينصح بالنظافة الجسدية ، والمحافظة على سلامة الجسد بداية من المحافظة على الأسنان ، والاستحمام المنتظم ، وتغذية الجسم بكل ما يحتاجه من مواد ٍ متعددة ، فينوع فى الأكل لحاجة الجسم المتعددة لذلك ، وفى نهاية القصيدة يحذر من لا يلتزم بمثل هذه الوصايا بأنه سيخسركثيرًا .
ومن القيم المعرفية التى تغرسها قصائد الديوان الدعوة إلى العلم والأخذ من كل ثقافة بنصيب ، ولم يقلْ الشاعر هذه الوصايا فى شكل حكم ، بل كعادته جاء بها من خلال قصائد تعطى الفكرة بصورة غير مباشرة ، كما فى قصيدة ” الإذاعة المدرسية ” والتى يحث فيها الأبناء على الحرص على متابعتها والاستفادة من الكمّ المعلوماتى لها كل صباح ، وفى قصيدة ” لغة العصر ” يحث على مجاراة ثقافة العصر ، وتعلم منهجيات الحاسوب ، والاستفادة من علمه المتعدد ، وإدراكًا لقيمته نصح الأبناء أن يتخذوه صديقًا لها وصاحبًا .
وامتدادًا لهذه القصيدة جاءت قصيدة ” كتابى ” والتى جعل فيها الكتاب خير صاحب ، وإذا كانت قصيدة ” عيون الخوف ” تدعو إلى الشجاعة ، فقد جمع الشاعر فى هاتين القصيدتين ” كتابى وعيون الخوف ” مقولة المتنبى فى شعره :
أعزُّ مكانٍ في الدُنى سرج سابح وخير جليسٍ في الزمان كتابُ
ومن القيم الأخلاقية غرس صفة الأمانة كما فى قصيدة ” الطفل الأمين ” والتى ينظم فيها للطفل سامى الذى وجد مالًا ، فأعطاه للمسئول عن الحديقة ، والذى احتفظ بالأمانة حتى جاء صاحب هذه الأمانة ، فأخذها شاكرًا له حفظ هذه الأمانة :
عاد يبدى كل شكر نحو أعمال خليقة ص 25
-3-
يتوافر فى هذه القصائد التشكيل اللغوى القريب المعنى والدلالة والصور الفنية الجميلة ، التى لا يجد الطفل فيها مشقة فى إدراكها والوصول إلى جمالياتها ، ونقف على نماذج للتشكيل اللغوى والخيالى يوضح ما ذكرناه ، ففى قصيدة الطفل الأمين :
ذات يوم كان سامى ماضيًا نحو الحديقة
كى يرى الأزهار فيها والشجيرات الأنيقة
والفراشــات تغنى والينابيع الرقيقة ص24
فلا نجد كلمة بعيدة عن ذهن التلميذ ، صعبة تحتاج إلى قاموس لإدراك معناها ، ما عدا كلمة الأنيقة ، والتى يعرف دلالتها من خلال السياق ، وجاءت الصورة الفنية قريبة من ذهن وحياة الطفل ، حيث اللعب فى حديقة جميلة ، بها فراشات تغنى ، ويمجرى مياه يتدفق ينعش الجو ، ويجمل المكان ، ويُحمد للشعر – هنا – اعتماده على التصوير بالكلمات برسم لوحة جميلة قريبة إلى الذهن والفهم ، وهذا ما يعرف فى البلاغة الحديثة بالتصوير بالحقيقة ، ومنه قوله فى قصيدة ” ذات يوم ”
ذات يوم كان طفلٌ عند ماء النيل يلعبْ
فى هدوءٍ فى صفاءٍ صانعًاحقلًا وملعبْ
فى رمالٍ صاغ بيتًا كان للبنيات معجبْ ..إلخ ص32
فالشاعر يراعى عقلية الطفل ونشاطه اليومى ، يلعب عند النهر ، يُطرب بتدفق المياه ، يبنى بيتًا من الطين ، يصنع حقلًا ويرويه ، مستخدمًا معجمًا لغويًّا قريبًا من ذهنه ، وناسجًا صورًا قريبة المبنى والاستيعاب ، ونجد فيها الطرافة لأنها تجسد أفعال الاطفال وسلوكياتهم ، مما يجعلهم يشغفون ويسعدون بمثل هذا التصوير الفنى الجميل ، ومنه ما جاء فى قصيدة ” حكايات المساء ” :
لى كتابٌ كان يحكى كلما يأتى المساءْ
عن عقول فى بلادى تملأ الدنيا ضياءْ
فى حقول أو صحارى عن علوم فى الفضاءْ ص40
فحكايات المساء كما عرضها الكتاب عن أصحاب الفكر وأعلام الوطن ، وعن جغرافية المكان وما تتمتع به من عطاءات فى الحقول ( الزرع المتنوع ) والصحارى ( المعادن ) وعن علوم الفضاء …كل هذا يعمل علىتثقيف الطفل لمعرفةوطنه وما يتمتع به من خيرات ، وفى معجم لغوى وأداء تصويرى قريب للفكروالعقل ، ليحث الطفل على استثمار هذه الطاقات من أجل رفعة الوطن كما قال فى خاتمة القصيدة:
عاش من يبنى بلادى لم يمت عند الفناءْ ص 41
-4-
وقفنا على الجزء الأول من رؤية كوهين للنص الشعرى فى هذا الديوان ( الدلالة ودور التشكيل اللغوى والتصويرى فى بلورة هذه الدلالة ) ومدى مناسبته لعقلية الطفل ، ونقف – هنا – على جماليات الإيقاع الشعرى ، حيث يتوافر فى قصائد الديوان الجمال الموسيقى ، والذى هو مقوم من مقومات جمال الشعر ، وهذا ما أدركه النقاد منذ القدم ، فللشعر وظيفة جمالية ، تهدف إلى إثارة المتعة ، فالشعر– عند القاضى الجرجانى – عند سماعه ، تجد فى نفسك ” من الارتياح ويستخفك من الطرب إذا سمعته ” وعند ابن رشيق ” إنما الشعر ما أطرب ، وهز النفوس ، وحرك الطباع ، وهذا باب الشعر ، الذى وضع له ، أو بنى عليه ، لا ما سواه ” وعند ابن طباطبا ” للشعر الموزون إيقاع يطرب الفهم لصوابه ، وما يرد عليه من حسن تركيبه ، واعتدال أجزائه ” وأوصى المرزوقى بتخير ” لذيذ الوزن ، لأن لذيذه يطرب الطبع لإيقاعه ، ويمازجه بصفائه ، كما يطرب الفهم لصواب تركيبه ، واعتدال نظمه ” أكثر من ذلك ارتبط الشعر منذ نشاته بالغناء ، فكان العربى ينشد الشعر كأغنية ، يحدو بها بعيره فى الصحراء ، فينتظم ” كلامه على ضربات أخفاف الإبل وحركاتها ، ومعروف أن السير عملية إيقاعية ، ومن ثم بدأ الإيقاع يتوازى مع مقاطع اللغة المنغومة ” وورد عن حسان قوله :
تغن بالشعر إما كنت قائله إن الغناء لهذا الشعر مضمار
ويروى عن بعض الشعراء أنهم كانوا يغنون قصائدهم أثناء نظمها ، كما ورد عن أبى الطيب المتنبى فى قصيدته التى يفتتحها بقوله :
جللا كما بى فليك التبريح أغذاء ذا الرشأ الأغن الشيح
ويرى أحد النقاد المحدثين أن كلمة الشعر مرتبطة بالغناء ، لأن كلمة شعر تعنى الغناء فى إحدى اللغات السامية ، واللغة العربية إحدى هذه اللغات ، وأن لفظة شعر العربية مأخوذة من اللهجات الكنعانية … من لفظة شير ، التى تعنى فى ما تعنى الغناء ، والتى يبدو أن حرف العين فيها استبدل بالياء ، ففعل ” شار ” ” يشير ” فى الكنعانية فعل ثلاثى أجوف ، ومعناه يغنى ” وفى الغناء استمتاع وطرب ، يهز النفوس ، فتستجيب له ، بحركات لا إرادية تعبيرا عن هذا الفرح ، وقد ظل هذا الملمح مقترنا بالشعر ، لذا رأى أحدهم أن الشعر ” إذا لم يهز ويثر بموسيقاه ، يفقد أهم عناصره ، ولا يعد شعرًا ، بل قد يعد نظمًا ، أو نثرا موزونًا ”
ومع إيماننا بأن الإيقاع لا يأتى عن طريق الوزن فقط ، وإنما تساعد على بلورته جملة من الخصائص من بينها تناغم الكلمات فيما بينها ، ومدى تآلف الحروف فى الكلمة الواحدة و توظيف الخيال ، والذى يتمثل فى الصورة الشعرية ، فالخيال له دور فى شعرية النص وفى إيقاعه ، ويسهم بروزه وتجليه، وفى تأثيره وتلقيه ، فالوزن بدون الخيال والصورة الشعرية لا تصنع نصًّا شعريًّا ، ولكن الوزن يتحكم فى كل التراكيب الشعرية ويساعدها على الاتساق الإيقاعى الشامل ، لذك كان أساس الإيقاع فى الشعر لأنه يضبط المستويات الصوتية للحروف والكلمات وما تكون من مقاطع وأجزاء ، وينظم العلاقات التنغيمية بينها ، ويبرز مختلف أنواع النبر والنقر وينسق الاهزازات الإيقاعية، والانسجامات الصوتية والموجات الموسيقية ، وهذا ما نلاحظه فى الأداء الموسيقى فى قصائد الديوان ، حيث تتجاوب الكلمات فيما بينها ، وتتناغم الحروف فى الكلمة الواحدة ، ليجمع بين هذا التشكيل اللغوى الذى يرسم لوحة فنية مع الوزن الشعرى ، الذى ينظم حركة إيقاع النص فينساب فى لحن رقيق هادىء جميل ، يطرب الأذن ، ويلذ السمع ، وننظر إلى نموذج من قصيدة ” قال جدى ” :
قال جدى ذات يوم إن فعل الخير واجب
يجعل الدنيا أمانًا ساكنًا كل الجوانب
يمنع المكروه عنا أينما الإنسان ذاهب
فإننا نجد التآلف بين الكلمات حتى أننا نحس بتدفق الإيقاع الشعرى ، كسريان الماء على الأرض السهلة المنبسطة ، فلا تجد الأذن فى هذا الشعر نشازًا ، ولا تصدّعًا ، ولا انقباضًا فى نطقه ، ينظم حركة الإيقاع الوزن الشعرى ، حيث جاءت القصيدة من مجزوء الرمل ” فاعلاتن فاعلاتن (مكرر)
قال جدّى ذات يومٍ إنَّ فعل الخير واجبْ
قال جددى ذات يومن إنن فعلل خير واجبْ
/5//5/5 – /5//5/5 /5//5/5 – /5//5/5
وقد أجاد الشاعر فى اختيار أوزان قصائده لتكون ذات إيقاع جميل رشيق ، ليجذب إليه الطفل – بل والكبير – فى تلقى النص والطرب به ، والبحرالرمل بحر رشيق وسمى” رملا ” لأن الرمل نوع من الغناء ، يخرج من هذا الوزن ، فسمى بذلك ، وقيل : سمى رملًا لدخول الأوتاد بين الأسباب [ كما نلاحظ فى تركيبة تفعيلة فاعلاتن وتد مجموع //5 بين سببين خفيفين سبب قبله /5 وسبب بعده /5 فالتفعيلة فاعلاتن بهذه الصورة سبب خفيف –وتد مجموع – سبب خفيف [ /5//5/ 5] وانتظامه كرَمَل الحصير الذى نُسج به يقال
….وفضلاعن هذا التكرير الوارد فى تفعيلاته ، فإن تأثيره كامن فى إيقاعه الذى يقوم بدور التشكيل النصى ، وبتكرير الحركة والسكون تتفاضل بحور الخليل …. وجاء ما يقرب من نصف قصائد الديوان على هذا الوزن ( مجزوء الرمل فاعلاتن فاعلاتن ) فعدد قصائد الديوان ثلاث وعشرون قصيدة ، جاءت إحدى عشرة قصيدة على هذا الوزن ( مجزوء الرمل ) وهى : الرسام ، قال جدى ، زرت عمى ، رسالة فى الهاتف المحمول ،الطفل الأمين ، ذات يوم ،كتابى ،حكايات المساء ، إن رأيت ، طاعة الوالدين ، الطفل المخترع .
وخمس قصائد على وزن مجزوء الوافر (مفاعلتن مفاعلتن ) هى بلاد العدل ، عيون الخوف ، طبيب الحى الإذاعة المدرسية ، إلى ابنى الصغيرمؤمن .
وثلاث قصائد البحر الهزج الذى لا يأتى إلا مجزوءًا ( مفاعيلن مفاعيلن ) وهى : أبى فى العيد ،قلوب الناس ، أنا طفل .
وقصيدتان على وزن مجزوء المتقارب (فعولن فعولن فعلْ) هما : نصيحة أستاذى ، لغة العصر .
وقصيدة (سر النجاح ) مجزوء الكامل (متفاعلن متفاعلن) وقصيدة ( هيا بنا ) مجزوء الرجز (مستفعلن مستفعلن)
وهذه البحور الستة التى جاء نظم الديوان على أوزانها بحور تتصف بالرشاقة وجمال الوقع الموسيقى ، وإن تأخر البحر الرجز فى هذه الصفة ،. فالرجز ( لغويًّا) بفتح الجيم هو داء يصيب الإبل ترتعش منه أفخاذها عند قيامها ولذلك أطلق على هذا البحر من الشعر رجزا لأنه تتوالى فيه الحركة والسكون، ثم الحركة والسكون، وهو يشبه في هذا بالرجز في رجل الناقة ورعشتها حين تصاب بهذا الداء فهي تتحرك وتسكن ، وهو فى الشعر على هذا الوزن هكذا فى ذبذبة إيقاع هذا البحر ، ولكن الشاعر لم يستخدمه سوى فى قصيدة واحدة ( هيا بنا ) وهذا البحر (الرجز) من أصعب بحور الشعر ، ولا يستطيع أن يجيد فيه إلا الشاعر العظيم ، نظرًا لكثرة جوازاته التى اشتهر بها إلى درجة نعته بحمار الشعراء ، تعبيرًا عن سهولته ، وفى هذه السهولة يكمن سر صعوبته ، فالإخلال بالتوازن يلزم الشاعر أن يحدث توازنًا آخر ماثلًا يحقق شعريته ، إنه بحرللنظم أكثر منه بحرًا للشعر ، وقد يلح الشعراء فى الإجادة فيه إذا اعتمدوا على زحافات أقل تضمن توازنات الأشطر ، لكى تحصل عملية تناسب داخل نظام متحد لحركة منتظمة فى الزمن ، تتألف داخلها الأجزاء فى مجموعة متساوية ومتشابهة فى تكوينها ، فيشكل – بهذا التآلف- كل وزن على حدة ، ويتميز فى نفس الوقت عن غيره من الأوزان …والحركة المتظمة للوزن على هذا النحو شبيهة بالحركة المنتظمة للإيقاع الموسيقى ،لأن كلا منهما يقوم على نفس المبدأ، وهو تناسب حركةالأصوات فى تعاقبها المنتظم فى الزمن .
وهذا ما فعله الشاعر حيث أقلَّ من زحافات البحر ، وطوّع ألفاظه فجاءت سهلة النطق ومتناغمة الإيقاع فى شكل أغنية ، يقول فى هذه القصيدة :
هيا بنا هيابنا نبنى العلا فى أرضنا
هيا بنا هيا بنا نبنل علا فى أرضنا
//5//5 -//5//5 /5/5//5 – /5/5//5
فالبيت كله لم يحدث فيه سوى زحاف الخبن [ الخبن حذف الثانى الساكن من التفعيلة مستفعلن /5/5//5 تحولت إلى مُتَفْعَلُنْ //5//5 ] فى صدر الشطر الأول ، وصياغة الكلمات فى سهولتها وقرب مأخذها جعل القصيدة نشيدًا يُمكن أن نتغنى بها .
وباقى القصائد التى جاءت على وزن ( مجزوء الوافر ومجزوء الكامل ومجزوء المتقارب والبحرالهزج ) توافر فى هذه البحور الجمال النغمى ، فالبحر الوافر يتسم بالخفة نتيجة تكرير تفعيلته ” مفاعلتن //5/// 5″ ومن ثم تغلب عليه الحركات أكثر من السكنات [ خمس حركات مقابل ساكنين ] ، ولهذا سُمِّىَ الوافر (وافرًا لتوفر ) حركاته ، لأنه ليس فى الأجزاء أكثر حركات من مفاعلتن ، وما يفكُّ منه متفاعلن وقيل سمى وافرًا لوفور أجزائه ، ونكرر كلامنا السابق بأن البحر الوافر كباقى البحور الأخرى له موسيقاه الخاصة التى تؤثر فى المتلقى دون أن يدرك سر حيويته لكون إيقاعه ينصهر انصهارًا شديد الخفاء فى البناء العام للنص ، فيصعب اجتلاء مكامنه ،إلا ما ظهر منها كتحديد البحر أو تبين بعض المحسنات البديعية التى أسهمت بشكل ما فى تماسك بُناه الإيقاعية منعكسة على دلالاته ، مستنبطة بعض أجزائه ومحددة انتماءه ،لكن دون إدراك لنوع حيويته ومقصديتها إلا من خلال إحساس عام بقدرة الإيقاع على التغلغل فى النفوس ، وهذا ما نجده فى قصائده التى جاءت على هذا الوزن ، ونقف على مثال من قصيدة (بلاد العدل ) :
بلاد العدل لا تخشى سوى رب هو القادر
ففيها الشعب ذو فكر ٍ إلى قصد العلا سائر
وفيها الأرض لا تُعطى إلى لاه ٍ إلى جائر
ونقطع البيت الأول :
بلاد العدل لا تخشى سوى رب هو القادر
بلادلعد ل لا تخشى سوى ربن هولقادرْ
//5/5/5 – //5/5/5 //5//5 – //5/5/5
وقد لحق بالتفعيلة الأولى والثانية والرابعة العَصْب وهو :تسكين الخامس المتحرك عندما يكون ثاني سبب ودخل على مفاعلت فأصبحت (مفاعلْ تن ) ولحق بالتفعيلة الثالثة العقل : حذف الخامس المتحرك في ( مفاعلَتن //ه///ه فتصبح مفاعتن، وتقلب إلى مفاعلن //ه//ه). يدخل الوافر. وهو نادر لقبحه ، وأعتقد جمال الإيقاع جاء من تناغم الحروف فى الكلمات ، وائتلاف الكلمات فى بينها ، فجاءت القصية أنشودة تُغنى ، وهذا يرجع إلى فطانة الشاعر ووعيه وقدراته الموسيقية العالية .
والقصائد الثلاثة التى جاءت على وزن البحر الهزج (أبى فى العيد ، قلوب الناس ، أنا طفل ) جاء إيقاعها جميلًا مرنمًا ،لأن بحر الهزج بحر الغناء ، سُمِّي الهزج بهذا الاسم لأنه لأن العرب تهزج به ، أي تغني ، والهزج ضرب من الأغاني .تفعيلاته ( مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن ) لكنه لا يستعمل إلا مجزوءاً، ولسهولة حفظ تفعيلاته أنشد أحدهم ما يدلل علىانه بحر ” غناء ” : على الأهزاج تسهيلُ …. مفاعيلن مفاعيلن
وسمي الهزج – أيضًا – هزجا لإنه يشبه هزج الصوت أي تردده وصداه ؛ وذلك لوجود سببين خفيفين يعقبان أوائل أجزائه التي هي أوتاد وهذا مما يساعد على مدّ الصوت ، وقيل سمس هزجا لأن العرب تهزج به أي تغني ، والهزج نوع من الأغاني ، ونقف على مفتتح قصيدة “أنا طفل ” :
أنا طفل وأنظارى لأمجادٍ وأنوار
أنا طفلن وأنظارى لأمجادن وأنوارى
//5/5/5 – //5/5/5 //5/5/5 – //5/5/5
فقد جاءت تفعيلات البيت كاملة دون ان يلحق بها زحافات أو علل ، وبدء التفعيلة بوتد مجموع (//5) تليه سببنان خفيفان (/5/5) عمل على مدِّ الصوت وتنغيمه ، وساعد على غنائية القصيدة .
وجاءت إيقاع القصيدة (سر النجاح ) التى جاءت على وزن مجزوء الكامل (متفاعلن متفاعلن ) بتلاحق الوقع الموسيقى لما يتمتع به هذا البحر من الحركية لما تتوافر عليه تفعيلته المكررة من تلاؤم مع جريات الذوات الشاعرة التى تستدعيها طبيعة هذا البحر فى مستهل الانفعال فيتلاءم مع حالات الحس ، وتتضح حركية إيقاعه وأنساقه التناوبية المتجلية فى الحركات المتوالية بعد سكون [متفاعلن ///5//5] ، إنه بحر الحركة لهيمنة حركاته على سكناته ( فى التفعيلة الواحدة خمس حركات لساكنين ) يقول فى مفتتح قصيدة ” سر النجاح “:
سرُّالنجاح هو الأمل عيش الكرامة فى العملْ
سررننجا ح هو الأمل عيش الكرا مة فلعملْ
/5/5//5 – ///5//5 /5/5//5- ///5//5
وقد دخل على الثلاث تفعيلات الاولى زحاف الإضمار ( تسكين الثانى المتحرك)
ومجىء قصيدتين على وزن مجزوء المتقارب ( فعولن فعولن فعولن مكرر ) نصيحة أستاذى ولغة العصر ، فبحرالمتقارب يتسم بالخفة والرشاقة بحكم وجود الوتد المجموع //5 فى تفعيلته ويتبعه سبب خفيف /5 وسمى المتقارب متقاربا لتقارب أوتاده بعضها من بعض ،لأنه يصل بين كل وتدين سبب واحد ، فتقارب فيه الأوتاد ، فسمى لذلك متقاربًا ، وسميَّ كذلك لتقارب حركاته، ويتميز هذا البحر بإيقاعه الموسيقي الواضح وبميله إلى الانتظام والشدة نوعاً ما، ولكنه بحر لا يبدع فيه إلامن أدرك حقيقته وتقصى تركيبته و لكون أغلب الكلمات المعجمية فى اللغة الشعرية تأتى على نفس صيغته الوزنية ” فعولن ” مما يجعل ترادفها يترب من التراص اللغوى أكثر من التعبير الشعرى ، لذا جاءت هاتان القصيدتان أقرب للنثر من الشعر ، نلاحظ هذا من خلال القصيدتين ، ونقتصر على الوقوف على مفتتحهما ، يقول فى مفتتح القصيدة الأولى :
سمعت بحب إلى نصيحة أستاذى
وفى مفتتح القصيدةالثانية :
جلست بشوق إلى جهازهو الحاسوبُ
ديوان حكايات المساء ديوان جميل فى أدب الأطفال لالتزامه برسالة التربوية وأخلاقية ، وجاءت صياغة الديوان لغة وتصويرًا وإيقاعًا مناسبة لعمر الطفل ، إنه ديوان جميل بحق وجدير بالقراءة والاحتفاظ به مكتبتنا .