في صباح أحد الأيام الربيعية من سنة 1955 إستقبل إثنان من المسؤولين الإعلاميين حشدًا كبيرًا من المراسلين الصحفيين في قاعة المؤتمرات في جامعة ولاية ميشيغان بالولايات المتحدة الأمريكية. إشرأبت الأعناق إلى ما سيقوله المسؤولان اللذان كانا يتأهبان لزف أخبار سارة وطازجة. فقد أظهرت إحدى التجارب الإكلينيكية التي أجريت على لقاح طال انتظاره لعلاج شلل الأطفال نتائج إيجابية وآمنة تبشر بكل خير.
لقد أحدث المراسلون الصحفيون يومها حالة من الهرج والمرج في القاعة لأنهم كانوا يتسابقون للإبلاغ الفوري عن هذا الإنجاز العلمي الكبير الذي كانت تنتظره الإنسانية. ما إن انتشر الخبر في الولايات المتحدة الأمريكية وفي مختلف أنحاء العالم حتى راحت الكنائس تقرع أجراسها فيما خرج الناس إلى الشوارع وراحوا يجرون في الشوارع ويتبادلون التهاني.
في خضم تفشي جائحة فيروس كورونا منذ نهاية سنة 2019 بدأت الآمال تنتعش في إمكانية التوصل إلى لقاح ينقذ الإنسانية ويثلج صدور بني البشر بعد أن أعلن عن النتائج الواعدة التي تمخضت عن تجربة أجريت على لقاح جديد للفيروس.
إعتبر كبير الخبراء المختصين في الجرثوميات الدكتور أنثوني فوسي، الذي يعمل في الحكومة الفيدرالية الأمريكية، أن «اكتشاف اللقاح سيغير قواعد اللعبة». لقد حرص الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب على طمأنتنا بأن اكتشاف اللقاح المنتظر بات قريبا. أما مقدمو البرامج التلفزيونية والنقاد فقد راحوا يزعمون أن هذا الهدف قد بات قريب المنال لأننا «قضينا من قبل على الأمراض الأخرى القاتلة مثل شلل الأطفال».
يجب أن نتمعن جيدا في التجربة التي عشناها مع قصة إكتشاف لقاح شلل الأطفال، إنها تجربة تدعوا إلى التأمل والتفكر لا الأمل. فقد تم التوصل إلى إكتشاف لقاح فعال لمرض شلل الأطفال بعد أعوام، بل عقود من البحوث والتجارب المخبرية والأكلينيكية. بعد أن أثمرت التجارب والإختبارات أخيرا نتائج إيجابية أثبتت فعاليته وأجيز رسميا من الدوائر الرقابية والدوائية بسرعة كبيرة.
في مرحلة ثانية ظهرت تحديات ومشاكل تتعلق بتصنيع اللقاح، قبل أن تطفو على السطح مشاكل تتعلق بالتوزيع لتبدأ بعد ذلك الصراعات السياسية حول اللقاح. بعد مرور بضعة أعوام أمكن تطعيم الكثير من الأمريكيين وهو ما جعل حالات المصابين بشلل الأطفال تتراجع بشكل كبير، غير أن معدل الإصابات ظل مرتفعا في صفوف الفقراء لأكثر من عقد من الزمن. يجب أن نستوعب الدروس من قصة إكتشاف لقاح شلل الأطفال حتى لا ننجر وراء أولئك الذين يبشرون بالتوصل إلى السيطرة على فيروس كورونا بفضل اللقاح الذي بات قريب المنال.
ظهرت أولى الإصابات بشلل الأطفال في ولاية فيرمونت بالولايات المتحدة الأمريكية في سنة 1894 وأودى بحياة ثمانية عشر شخصا وتسبب في حالة من الشلل الدائم لثمانية وخمسين آخرين. كانت تلك مجرد البداية. فعلى مدى العقود التي تلت ظهور أو حالة كثرت الإصابات بشلل الأطفال وكان المرض يصيب الكثيرين هذه السنة ويختفي في السنة الموالية قبل أن يعود بكل ضراوة.
في سنة 1907 تسبب شلل الأطفال في وفاة أكثر من مائة شخص في ولاية نيويورك وحدها ثم إختفى قبل أن يضرب نيويورك مجددا في سنة 1916 ويتسبب في وفاة أكثر من ستة آلاف شخص. كان المرض في البداية يضرب الأطفال أساسا وكان يتسبب في وفاة أكثر من 25% من المرضى وترك آلاف آخرين يعانون من الشلل الدائم، كما أصبحت حياة البعض رهينة التنفس الصناعي.
كان العلماء يعرفون أن مرض شلل الأطفال سببه فيروس لكنهم كانوا يجهلون سبب إنتشاره. أصبحنا اليوم نعرف أن ذلك الفيروس ينتشر نتيجة استهلاك الأطعمة أو المياه الملوثة بالبراز. وكما هو الحال اليوم فإن الطريقة الوحيدة للحفاظ على السلامة تتمثل في الوقاية وتجنب إنتقال العدوى.
على غرار ما يحدث اليوم في الحرب على جائحة فيروس كورونا، تقرر في خضم المعركة ضد شلل الأطفال إغلاق المسارح ودور السينما والمسابح وحدائق الألعاب والمخيمات الصيفية في المدن التي قررت أيضا إلغاء المناسبات والمهرجانات والفعاليات الأخرى فيما ظل الأطفال رفقة آبائهم خوفا عليهم من الإصابة. أما أولئك الميسورون فقد قرروا الفرار في وقت إزدادت فيه حالات الإصابة بالفيروس. في الأثناء أعلن بدء التجارب على ثلاثة لقاحات في الثلاثينيات من القرن العشرين غير أن إثنين منهما كانا غير فعالين فيما اتضح أن اللقاح الثالث قاتل وتسبب في عدة وفيات.
أخيرا تنفس الجميع الصعداء. ففي شهر أبريل من سنة 1954 بدأت التجارب الإكلينيكية الواسعة على مدى سنة كاملة على لقاح تولى تطويره مختبر جوناس سالك في جامعة سانت بطرسبرغ بالولايات المتحدة الأمريكية. في نفس اليوم الذي التقى فيه المسؤولان الإعلاميان ذلك الحشد الكبير من المراسلين الصحفيين أعلنت نتائج التجارب الإكلينيكية التي استمرت على مدى سنة كاملة وقد تأكدت فعاليته العلاجية وسلامته على صحة الإنسان. تأكد أيضا أن ذلك اللقاح فعال بنسبة تفوق 80% في الوقاية من الإصابة بشلل الأطفال.
لم تكد تمر ساعات قليلة حتى قررت المحكمة الفيدرالية الأمريكية إعتماد اللقاح الجديد وإجازته لتطوى بذلك صفحة من صفحات معاناة البشرية مع الجوائح والأوبئة والأمراض والفيروسات، فيما سارع المصنعون إلى إعطاء إشارة البدء في إنتاجه. وعدت إحدى المؤسسات الخيرية باشتراك أول دفعة من الإنتاج بما قيمته 9 ملايين دور من أجل تطعيم طلاب الصف الأول والثاني الإبتدائي. كانت تلك بداية حملة وطنية شاملة لتطعيم كل الأطفال في الولايات المتحدة الأمريكية.
لم يكد يمر شهر واحد حتى توقفت تلك الجهود. فقد أبلغ المسؤولون عن حالة من الإصابة بشلل الأطفال مرتبطة بلقاح صنعته مختبرات «كاتر» في بيركلي بولاية كاليفورنيا الأمريكية. عندها طلب المسؤول الطبي العالم من المختبر المذكور استعادة ما أنتجه من لقاح.
طلبت المعاهد الصحية الوطنية من كل المصنعين تعليق الإنتاج حتى يتأكد من مواءمته الثابتة لشروط السلامة الجديدة. في الأثناء توصل المحققون في مختبرات «كاتر» إلى فشلها في قتل الفيروس في بعض اللقاحات التي أنتجتها والتي لم تتلاءم مع مواصفات السلامة. لقد تسببت تلك اللقاحات غير الفعالة في أكثر من مائتي إصابة بشلل الأطفال ووفاة أحد عشر شخصا.
أعيد أطلاق برنامج التطعيم من جديد بعد أن توقف مدة شهرين غير أنه اصطدم بالمزيد من المشاكل والصعوبات. فبعد أن إنخفض المخزون من اللقاحات سرت إشاعات تتحدث عن ترويجه في السوق السوداء وقيام الأطباء غير الملتزمين بأخلاقيات المهنة بفرض رسوم ضخمة على المرضى. كان أحد مصنعي اللقاحات يخطط لتطعيم أطفال موظفيه أولا قبل أن يبعث رسائل إلى المساهمين يعدهم فيها بأن أطفالهم وأحفادهم ستكون لهم الأولوية في التطعيم وهو ما يتنافى مع القانون والمبدأ الدستوري في المساواة.
راجت الولايات التي تطالب الحكومة الفيدرالية في واشنطن بضرورة وضع آلية تضمن توزيع اللقاح بشكل عادل كما عرض على مجلس الشيوخ مشروع قانون جديد ينص على تطعيم الأطفال ضد الشلل مجانا. بالمقابل عرض على مجلس النواب مشروع قرار ينص على مجانية تطعيم الأطفال من الفئات الاجتماعية المحتاجة وهو ما تحدثت عنه التقارير الصحفية الصادرة في تلك الفترة. بعد نقاشات حامية الوطيس تم تمرير قانون برنامج التطعيم ضد شلل الأطفال بقيمة 30 مليون دولار وقد تولى الرئيس الأمريكي آنذاك دوايت إيزنهاور التوقيع على القانون الجديد في شهر أغسطس من تلك السنة وقد خول للولايات حرية اتخاذ القرار الذي يناسبها بشأن مجانية التطعيم.
تراجعت معدلات الإصابة بشلل الأطفال بشكل كبير خلال الشهور الأولى القليلة بعد صدور القانون. في سنة 1958. وفيما تراجع الإهتمام بمرض شلل الأطفال سجلت إصابات كثيرة بين الأطفال الذين لم يشملهم التطعيم. كثرت الإصابات بعد من جديد في المناطق الحضرية في المدن، وخاصة بين الفئات الإجتماعية من الملونين الفقراء الذين لم يحصلوا على الرعاية الصحية اللازمة. في الأثناء قال علماء الجرثوميات أن حالات الإصابة الجديدة بمرض شلل الأطفال الجديدة تختلف عن الأنماط الماضية.
بعد مرور ثلاثة أعوام، وفي سنة 1961 وافقت الحكومة الفيدرالية الأمريكية على الترخيص للقاح شلل الأطفال الذي طوره مختبر ألبرت سابين في سينسيناتي والذي يحتوي في تركيبته على فيروس تم إضعاف قدرته وإبطال نشاطه. مع نهاية تلك السنة إنخفضت معدلات الإصابة بشلل الأطفال بأكثر من 90%، في سنة 1979 سجلت آخر حالة إصابة بشلل الأطفال في الولايات المتحدة الأمريكية.
بعد مرور عقود من حملات التطعيم المنتظمة والدورية لا تزال حالات الإصابة بالشلل تسجل في ثلاثة بلدان فقط في العالم. إستمرت المعركة ضد مرض شلل الأطفال قرنا من الزمن كما تطلب الأمر إلتزاماً صارماً بالتطعيم المستدام وهو التزام قد يضعف في ظل اهتمام العالم اليوم بالمعركة ضد تفشي جائحة فيروس كورونا.
هناك عدة فوارق رئيسية ما بين المعركة ضد تفشي جائحة فيروس كورونا والمعركة الطويلة والمضنية، التي خاضتها الإنسانية ضد مرض شلل الأطفال. فالقدرات العالمية في مجال بحوث تطوير اللقاحات وصناعة الأدوية تفوق ما كانت عليه في خمسينيات القرن الماضي. أما بروتوكولات ترخيص وتصنيع الأدوية والعقاقير فهي أكثر تطوراً وفاعلية مما كانت عليه في تلك الحقبة التاريخية. فبعد مرور أشهر معدودة على تفشي جائحة كورونا يجري الآن على قدم وساق تطوير اللقاحات المضادة لهذا الفيروس أكثر مما كان عليه الأمر في مكافحة شلل الأطفال.
لقد وضعت عدة ضوابط على مدى العقود الماضية غير أن العالم لا يعبأ بها كثيرا في خضم الجهود الرامية إلى التعجيل بتطوير اللقاح الفعال ضد فيروس كورونا. فالشركات المتخصصة في التقنية البيولوجية والمختبرات الجامعية وشركات صناعة الأدوية العملاقة تبذل قصارى جهدها، وهو ما يذكرنا بتلك الجهود التي بذلت والتي كللت بتطوير لقاح فعال ضد شلل الأطفال في سنة 1955.
إذا ما كللت الجهود بالنجاح وتسنى تطوير اللقاح الفعال المنتظر فإننا سنواجه نفس التحديات التي اعترضناها في تلك الحقبة التاريخية وفي مقدمتها إنتاج ما يكفي من الأمصال من أجل حماية السكان ودرء كل الأخطار التي تتهدد بني البشر ومن ثم توزيعها من دون التسبب في مزيد من الظلم والتفاوت الاجتماعي.
* إيلينا كوليس مؤرخة وأستاذة في كلية الصحافة بجامعة كاليفورنيا