السوشيال ميديا وحرمة الموتي
سلوكيات ضد الإنسانية
بقلم/ د. نجلاء الورداني
اعتنت شريعتنا الإسلامية السمحة بالإنسان خير عناية، وكرمته أفضل تكريم أينما كان وحل. أكد ذلك الله تعالى بقوله: “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا” الإسراء:70. ولم تنته عناية شريعتنا الكريمة بالإنسان بانتهاء حياته، بل امتدت لتشمل ما بعد موته، فجعلت حُرمة المتوفي كَحرمة الحي تمامًا، فحرمت أن يُوطأ قبره أو تُقضى عنده الحاجة، أو تُوضع القاذورات بالقرب من مدفنه، فضلًا عن حرمة حرق جثته أو نبش قبره وتشريح جسده دون مبرر … إلخ. وقد وضح لنا الهدي النبوي الشريف هذا، وأكد تلك العناية الممتدة وأيدها، فهذا حديث السيدة عائشة رضي الله عنها: يقول النبيُّ ﷺ: “كسر عظم الميت ككسره حيًّا“، رواه أبو داود بإسنادٍ على شرط مسلم، وهكذا أخرجه ابن ماجه من حديث عائشة بإسنادٍ مسلم رحمه الله.
ويدل هذا الحديث الصَّحيح على تحريم كسر عظم الميت، وأن كسره ميتًا ككسره حيًّا، أي أن إيذاء الميت وتقطيعه وتكسير عظامه كالحي لا يجوز، فالمسلم محترم حيًّا وميتًا، والواجب عدم التَّعرض له بما يُؤذيه ويُشوه خلقتَه وسمعته.
يقول “الحافظ بن حجر” في شرحه لهذا الحديث: “يستفاد منه أن حرمة المؤمن بعد موته باقية كما كانت في حياته”، ويقول الإمام “الطيبي” “إشارة إلى أنه لا يهان ميتًا، كما لا يهان حيًّا”، ويقول الإمام “الباجي” “يريد أن له من الحرمة في حال موته مثل ما له منها حال حياته، وأن كسر عظامه في حال موته يحرم كما يحرم كسرها حال حياته”.
ومن ثم؛ ما بالنا ونحن نستغل الموتى بعد موتهم أسوأ استغلال فتارة للدعاية، وأخرى للشهرة، وثالثة جدلية دخوله الجنة أم النار… تلك الظواهر التي طرأت على مجتمعاتنا العربية وبالأخص مجتمعنا المصري، ذلك المجتمع الذي كان لحرمة موتاه عبر التاريخ؛ ما تهابه البشرية بأكملها … ولجنائزه ثمة عادات وطقوس لها قدسيتها وأعرافها المجتمعية المتفق عليها، ولكيفية أدائها شروط لا يخالفها أحد.
أما اليوم فأصبحنا ننشر صور الموتى عقب وفاتهم، وقبلها وتفاصيل لا تهم سوى أصحاب النفوس المريضة وغير السوية، ونكتب من العبارات ما يروق لنا ويجذب انتباه القراء والعابرين لوضع لايكات وزيادة عدد المشاهدات … وغيرها الكثير، وما هدفنا في هذا إلا الشهرة والحصول على المال!
فهذا عليه غضب رب العالمين، وآخر الجنة مثواه، وتحديد مصادر أرزاق الموتى وحكم شرعيتها، وحجم معاناتهم مع المرض، وهل مرضهم عقاب أم ابتلاء، وانظر وجهه، وتأمل جسده، وشاهد ما حدث في قبره، … وهكذا.
إن العظة من الموت تُطلب، ولكن الإسلام حدد لها قيودًا وشروطًا يرجى اتباعها والالتزام بها، كامتلاك وسائل الدعوة المناسبة، وكلمات طيبة تغازل القلوب فتكون مفاتيح لها، كالموعظة الحسنة، والرسالة الهادفة، والعبارة الحكيمة، واللفتة الذكية.
فلا تدري لعلك بكلمة تقولها وصورة تنشرها… تُدمر بها أجيالًا وعائلات بأكملها… تلمسوا جميل القول والفعل.
وأخيرًا: لا بد من تعزيز ثقافة حقوق الموتي في الأوساط المجتمعية من خلال المحاضرات والندوات، وإفراد ذلك بالمناهج الدراسية التي تتناسب والمراحل الدراسية المختلفة، وتفعيل دور القانون فيما يرتكب من جرائم أخلاقية، والتي تعد جريمة عدم احترام الإنسان بعد وفاته أبشع أنماطها.