ضروة وسنديانة
قصة: حاتم السروي
ذهب شموئيل بن يهوذا بعد إسلامه إلى المسجد الجامع في المراغة، وحضر مجلس الوعظ، ولما وصل الشيخ إلى الكلام عن الصالحين وبركتهم قطع حديثه ورنا إليه بنظرةٍ فيها الرضا، وقال:
أنت السموأل الطبيب؟
نعم
أنت السموأل عالم الجبر
نعم
أيها العالم، لقد أسلمت باختيارك، وكنت من أحبارِ يهود، فهلا أشجيتنا بحكاية من التوراة؛ فإن أحاديثكم ملاحم وأعاجيب، ودونك مجلسي هذا فأنا أتركه لك.
نظر السموأل حواليه فوجد المصلين يهتفون: أجل، أجل، اذكر لنا حكايةً من التوراة.
أطرق السموأل وتنهد ثم رفع رأسه وقال:
في ذلك الزمان البعيد، وقبل ميلاد المسيح عيسى ابن مريم، كان بنو إسرائيل يجنون ثمار ما صنعته أيديهم، ويجلسون على ضفة النهر في بابل؛ فتأخذهم الذكريات، ويلقي بهم الحنين إلى حيث مهد الصبا وملاعب الصفا وأيام الشباب، أيامٌ ذهبت وذهبت معها شمس أورشليم، ولم يبق إلا التشرد في ليالي السبي الحالكة، ولم تبق إلا الغربة.
كان الله قد وعد إبراهيم خليله بأن يكثر نسله كأعداد النجوم وكالرمل على شاطئ البحر، والآن هم في بابل ينظرون إلى بعضهم، ويتجرعون المذلة كأسًا بعد كأس؛ فأما عددهم فهم قليلٌ مستضعفون، وأما عزهم فأصبح قصةً غابرة يحكيها لأبناءه عليل الروح مكسور الفؤاد، وفيما الدمع ينساب من عينيه يقف الأبناء مدهوشين وعقولهم لا تعرف إلى اليقين سبيلا..ما مقالة الآباء في أرضٍ ذهبت فيها ريحهم، وكيف لمن تربى على الخوف أن تؤثر فيه أمجاد سليمان وملاحم داوُد؟!.
وكان بنو يعقوب قلة، وقلة القلة رجالٌ وهبوا أنفسهم لله جل شأنه فباركهم وعمَّهُم بلطفه وشملتهم رحمته، وكان منهم عزريا.
عزريا ذلك الرجل البار، كان يسبح الله في كل أحواله وفي أي مكان، هل تصدقون أنه سبحه مع رفيقيه وهم يتمشون في وسط اللهيب؟ شأنكم وما تريدون، لكن هذا ما جاءت به الكتب والله لا تنقضي عجائبه وكرامات أوليائه حق، أليس هو القادر على أن يجعل النار بردًا وسلاما.
وقف عزريا مصليًا واللهب يحيط به، وتهدَّج صوته وهو يتلو في خشوع: مباركٌ أنت أيها الرب إله آبائنا وحميد، اسمك ممجد في كل الدهور وإلى الأبد؛ لأنك عادلٌ في جميع ما صنعت، وأعمالك كلها صدق ودروبك استقامة، وجميع أحكامك حق، وقد أجريت أحكام الحق في كل ما جلبته علينا وعلى مدينةٍ مقدسة كان آباؤنا فيها يعيشون، إنها أورشليم، بالحق وبالحق وحده عاملتنا بخطايانا، نحن المرتدون عنك المجرمون في كل شيء.
لا لم نسمع لوصاياك، ولم نحفظها ولم نعمل بها ليكون لنا الخير؛ فكان منا الإثم ومنك العدل؛ ولهذا أسلمتنا إلى أيدي أعدائنا وهم خاطئون وكفرة أولي بغضاء، وملكهم ذاك الظلوم أشَرُّ من في الأرض، والآن يا إلهي ليس لنا أن نفتح أفواهنا؛ فقد أصبحنا عارًا وخزيًا لعبيدك والقانتين لجلالك؛ فلا تخذلنا حتى الموت، ولا تصرف عنا رحمتك لأجل إبراهيم خليلك، وعبدك إسحاق، وقديسك يعقوب، الذين قلت إن نسلهم يكثر فيصير كحبات الرمال وأعداد النجوم، وها نحن أقل عددًا من كل أمة وأهون شأنًا في كل أرض، مشتتون لأجل خطايانا، وليس لنا رئيس ولا قائد ولا نبي، لا ولا ذبيحة ولا محرقة ولا بخور، ليست لنا تقدمة ولا موضع نقرب فيه أمامك البواكير فتأتينا رحمتك.
ولكن بذل أنفسنا وتواضع أرواحنا اقبلنا، ونحن الآن نتبعك بكل ما فينا ونتقيك ولا نبغي إلا وجهك؛ فلا تخزنا بل عاملنا بالرأفة، وأفض علينا رحمتك، وأرنا في خلاصنا عجائب القدرة؛ ليخجل أولئك الذين أروْا عبادك المساوئ، وتتحطم قوتهم، ليعلموا أنك الإله وحدك، المجيد في السماوات والأرضين.
وفيما عزريا سابح في مناجاته وقد سلبه الوجد وأخذ منه كيانه، كان خدام الملك الذين ألقوه في النار مع رفيقه يزيدون اللهب، ويوقدونه بالنفط والزرجون؛ فارتفعت النيران ما يقرب من خمسين ذراعا، وانتشرت، واحترق الذين صادفوها من الكلدانيين سكان بابل، أما عزريا وصاحبيه فنزل ملاكٌ من السماء، ودخل الأتون، وطرد عنه لهيب النار، ثم جعل في وسطه ريحًا نَدِيَّة.
حينئذٍ سبَّح ثلاثتهم بصوتٍ واحد، ومجدوا ربهم في حماسةٍ بالغة وإيمانٍ جارف، حتى لكأن الأرض وما فيها ومن فيها يتجاوبون معهم ويرنمون.
وفي بابل ومن بني إسرائيل كان “يواقيم” هذا الرجل الطيب يعيش في هدوء مع زوجةٍ طيبةٍ مثله وتقية، سُوسَنَّة الجميلة ابنة حلقيا، جميلةٌ جدًا كانت، أبواها بارين، ربياها على شريعة الكليم.
يواقيم لم يكن متواضع الحال، كان ثريًا كما يجب أن يكون الثراء، وداره الواسعة مزدانة بالرسوم بهية المنظر كثيرة الحجرات والمنافع، وتليها حديقةٌ غنَّاء.
وكان بنو ملة اليهود يجتمعون إليه في داره، حقيقةً كان فيهم وجيها.
في تلك السنة أقيم شيخان للقضاء في بني إسرائيل، وهما من الذين قالت عنهم التوراة: “إن الإثم قد صدر من بابل، من شيوخٍ قضاة يُحسَبون مدبري الشعب” وفي دار يواقيم يجلسان؛ فيأتيهما كل ذي دعوة.
ومتى انصرف اليهود من دار يواقيم عند الظهيرة كانت سوسنة تخرج إلى حديقة زوجها وتتمشى، وكان الشيخان يشاهدان جمالها الآسر فكأنها من سحر بابل؛ فلا يملكان هواهما ولم يكن إلا الشغف.
أفكار الشيطان تلعب وتجري وتعبث في ذهنيهما، أما القلب فلم تعد فيه نفحة الإيمان، والعين لا تنظر إلى السماء بل إلى سوسَنَّة.ي
ولم يكاشف أحدهما الآخر بما فيه، ولكن كل شيخ منهما يعلم رغبة الإثم في رفيقه كما يعلمها في نفسه، وكيف يختبئان من رغبة فضحت نفسها وهما يَجِدَّان في الترقب منتظران قدومها حتى يغتصباها نظرةً شهيَّة وشهوةً شقية.
قال أحدهما للآخر ذات يوم: فلننصرف إلى بيوتنا فهي ساعة الغداء؛ فتفارقا، وما كانت إلا برهة من الوقت وإذا هما ينقلبان إلى ذات الموضع؛ فتسائلا بينهما عن سبب الرجوع، وهنا كان الاعتراف، اعترافٌ تلاه اتفاق، وهكذا توافق شيطانان على خطةٍ رَدِيَّة يوقعان فيها بالعصفور البريء.
وفي اليوم الموعود كان الطقس يعلن عن غضبه، والشمس تلفح الرؤوس، والجبين يتفصد عرقا، أما سوسنه فسارت بمشيتها الملائكية نحو موضعٍ في الحديقة حتى تغتسل.
وقاضيا الخزي مختبئان، وقد أحالتهما الشهوة إلى هيئة القرود وسيما المراهقين، فيما سوسنة تطلب من جاريتيها دهنًا وغسولا، وأن يحكما غلق الأبواب.
وخرجت الجاريتان وحانت الفرصة؛ فإذا الشيخان يثبا من جحريهما ويصيحان: ها، إن الأبواب مغلقة، ولا يرانا إنسان، ونحن كَلِفَان بهواكِ، وافقينا وكوني معنا وإلا…
ذهلت سوسنة وارتسمت ملامح الرعب على مُحَيَّاها الطفولي، وقالت بصعوبة: وإلا ماذا؟.
ضَيَّقَ أحدهما عينيه وعلته ابتسامة ماكرة، وقال بهدوء: أبدًا، سنشهد عليك بأن شابًا وسيمًا كان معك؛ ولذا صرفتي عنكِ الجاريتين، لماذا يا سوسنة؟ هل قصر معكِ يواقيم؟ جزاء المعروف ضرب الكفوف؟! حرام يا سوسنة.
تنهدت بنت حلقيا وقالت: ضاق بي الأمر، واستحكمت البَلِيَّة؛ فإني لو فعلت لكان في هذا موتي، وإن لم أفعل فكيف نجاتي منكما، ولكن لن أفعل، خيرٌ لي أن أقع بين أنيابكما من الخطيئة أمام الله.
وصرخت الجميلة بصوتٍ عظيم؛ فصرخ الشيطانان بصوتٍ حقير، وركض أحدهما تجاه باب الحديقة، وفتحه للجمهور، وكانت الواقعة…
وسمع من في البيت تجاوب الصرخات؛ فوثبوا مفزوعين، وأسرعوا إليها من باب السر حتى يروا ما حل بها.
وتكلم الشيخان بحديث الإفك والعبيد يسمعون وقد انتابهم خجلٌ شديد؛ لإنه لم يقل إنسان على المرأة مثل هذا القول، وما جرى في خيالِ أحد.
ولما كان الغد اجتمعت اليهود كما عادتهم في دار يواقيم، وجاء الشيخان بنية أثيمة أضمراها في جوفٍ قذر، وقالا أمام الجموع: أرسلوا إلى سوسنة بنت حلقيا امرأة يواقيم.
وجاءت العفيفة ومعها بنوها وأبواها وجميع قرابتها، والترف يبدو في تفاصيلها، والجمال يلاحقها حتى في البلاء، ولم ينس الفاجران شهوتيهما؛ فأمراها أن تزيح البرقع ليرتويا من جمالها، وكان من يعرفها يذرف الدمع.
وضع الشيخان أيديهما على رأسها؛ فرفعت إلى السماء طرفها وتكلمت عنها الدموع، وصاح قلبها: عليك اتكالي يارب.
وقال شيخ: كنا نتمشى في الحديقة ودخلت سوسنة ومعها جاريتاها؛ فغَلَّقَتِ الأبواب وصرفت أمَتَيْها؛ فأتى شابٌ كان مختبئا ثم وقع عليها، أما نحن فكنا في زاوية من الحديقة، ولما شاهدنا الإثم أسرعنا إليهما فإذا هما يتعانقان، وهرب الشاب وما قدرنا عليه، أما هي فأمسكناها وسألنا من الشاب فلم تخبرنا، وهذا ما نشهد به.
ولأنهما كانا قاضيان صدقهما المجمع وحكم على سوسنة بالموت.
نظرت البريئة فوقها، ورفعت يدها إلى السماء، وقالت بأعلى صوت: أيها الإله الأزلي البصير بالخفايا، الذي يعلم كل شيء قبل أن يكون، يارب أنت العالم بأنهما شهدا عليَّ زورا، وها أنا ذا أموت ولم أصنع شيئا.
وبينما هي في طريقها إلى الموت نبه الله روحًا طيبة قدسية لشاب صغير واسمه “دانيال” فصرخ قائلا: أنا بريء من دم هذه.
والتفتت إليه الجموع وقالوا: أعد ما قلته.
فقام في وسطهم وقال: أهكذا أنتم أغبياء يا بني إسرائيل حتى تقضوا على أختكم بالموت؟؟ هلَّا تفحصتم الأمر، أليس من الممكن أن يكونا قد شهدا عليها زورا.
فعاد الشعب أدراجه، وقال دانيال: فرقا الشيخين عن بعضهما فأحكم فيهما.
فلما فرقوا كل واحد عن صاحبه دعا أحدهما، وقال: أيها العتيق في أيام الشر، لقد جاءت عليك آثامك التي عاقرتها على مدى السنوات، كم حكمت بالظلم وعاقبت الأبرياء، فالآن لو كنت رأيتها فأي شجرة كانت تحتها مع الشاب؟..فقال: تحت الضَّرَوَة..فقال دانيال: كذبك على رأسك؛ فلو بدلت الحق فإن ملاك الله قد أمر بشطرك نصفين..ثم نَحَّاه.
وقال للآخر: يا من يدَّعي أنه منا وليس منا، فتنك الجمال ومال الهوى بقلبك نحو الفساد، هكذا فعلتما مع بنات إسرائيل اللاتي أوقعتما بهن، أما التقية فما احتملت فجوركما؛ فالآن أخبرني تحت أية شجرة كانت مع الشاب..فقال: تحت السنديانة.
نظر دانيال إلى الجموع، وقال: انكشف الكذب وتعرت الخطيئة، ما حاجتنا بعدُ إلى كلام..فصاح الجميع مهللين، وقاموا على الشيخين فقطعوا غصنيهما، وأزالوا جذورهما، ونجت سوسنة، وسبَّح يواقيم وحلقيا لأن العفيفة ظهرت عفتها.
وصار دانيال موقرًا من شعبه، وما كان إلا قليل حتى مات الملك، وجاء كورش من فارس فأعتق اليهود؛ فهل أعتق اليهود أنفسهم؟؟
زفر شموئيل وقال بصوت عميق: أعتقنا الله من رق النفوس.
فأجابه المصلون: آااامين.
*تمت*