شبهات وردود
ما فائدة الكلام المكرر فى القرآن الكريم؟
وماذا لو حذفنا هذه الكلمات؟
د. محمد العربي
شبهة وجود كلام مكرر في القرآن الكريم يمكن حذفه دون إخلال بالمعنى؛ من الشبهات التي أکثروا اللغط حولها، واتخذوه كذلك منفذاً للطعن في القرآن الكريم بأنه ليس وحياّ من عند الله.
ورکزوا كل التركيز على تكرار القصص في القرآن وذكروا بعض القصص الذى تکرر، مع الإشارة إلى مواضعه فى سور القرآن، کما ذكروا تکرار بعض العبارات والجمل.
ولغوا لغواً كثيراً، حول تكرار قصة آدم في القرآن، وقالوا إنها تكررت خمس مرات، ونحن نقول بل تكررت سبع مرات.
کما فعلوا الشيء نفسه مع التكرار الوارد في سورة “الرحمن” وادعوا أن القراّن إذا حذف منه المكرر لم يبق منه إلا ما يملأ کراسة واحدة!
لذلك فإننا في الرد عليهم سنقف وقفة متأنية، نلقنهم فيها درساً بليغاً حول التكرار الوارد في القرآن المحفوظ وبخاصة في سورة الرحمن، وتكرار قصة آدم عليه السلام في مواضع سبعة لنقيم الحجة لله.
الرد على الشبهة:
يقع التكرار فى القراّن الكريم على وجوه:
1- مرة يكون المكرر أداة تؤدی وظيفه فى الجملة بعد أن تستوفی رکنیها الأساسيين.
2- وأخرى تتكرر كلمة مع أختها لداع، بحيث تفيد معنى لا يمكن الحصول عليه بدونها.
3- فاصلة تكرر في سورة واحدة على نمط واحد.
4- قصة تتكرر في مواضع متعددة مع اختلاف في طرق الصياغة وعرض الفكرة.
5- بعض الأوامر والنواهي والإرشادات والنصح مما يقرر حكماً شرعياً أو يحث على فضيلة أو ينهي عن رذيله أو يرغب فى خير أو ينفر من شر.
وتكرار القرآن في جميع المواضع التي ذكرناها، والتي لم نذكرها مما يلحظ عليها سمة التكرار، في هذا كله يبين التكرار القراّني ما يقع في غيره من الأساليب لأن التكرار وهو فن قولي معروف، قد لا يسلم الأسلوب معه من القلق والاضطراب فيكون هدفا للنقد والطعن، لأن التكرار رخصة في الأسلوب إذا صح هذا التعبير والرخص يجب أن تؤتى في حذر ويقظة.
وظيفة التكرار في القرآن:
مع هذه المزالق كلها جاء التكرار في القرآن الكريم محكماً، وقد ورد فيه كثيراً وليس فيه موضع قد أخذ عليه رغم دعاوى المغالين، فإن بينهم وبين القرآن تارات؛ فهم له أعداء وإذا أحسنا الفهم لكتاب الله فإن التكرار فيه مع سلامته من المآخذ والعيوب يؤدي وظيفتين:
أولاهما: من الناحية الدينية.
ثانيهما: من الناحية الأدبية.
فالناحية الدينية باعتبار أن القرآن كتاب هداية وإرشاد وتشريع، وأهم ما يؤدية التكرار من الناحية الدينية هو تقرير المكرر وتوکیده وإظهار العناية به ليكون في السلوك أمثل وللاعتقاد أبين.
أما الناحية الأدبية فإن دور التكرار فيها متعدد وإن کان الهدف منه فى جميع مواضعه يؤدي إلى تأكيد المعانی وابرازها في معرض الوضوح والبيان.
تكرار الأداة:
ومن أمثلتها قوله تعالى: ( ثم إن ربك للذين هاجروا من بعدما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ).
( ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ) .
والظاهر من النظر في الآيتين تكرار ” إن” فيهما، وهذا الظاهر يقتضى الاكتفاء بـ “إن” الأولى، ولم يطلب إلا خبرها، وهو في الموضعين أعني الخبر “لغفور رحيم” لكن هذا الظاهر خولف وأعيدت “إن” مرة أخرى ولهذه المخالفة سبب.
وهذا السبب هو طول الفصل بين “إن” الأولى وخبرها، وهذا أمر يشعر بتنافيه مع الغرض المسوقة من أجله “إن” وهو التوكيد، لهذا اقتضت البلاغة إعادتها للحظ النسبة بين الركنين على ما حقها أن تكون عليه من التوكيد.
على أن هناك وظيفه أخرى هی: لو أن قارئا تلا هاتين الاّيتين دون أن يكرر فيهما “إن” ثم تلاهما بتكرارها مرة أخرى لظهر له الفرق بين البيانين، قلق وضعف فى الأولى، وتناسق وقوة فى الثانية.
ومن أجل هذا الطول كررت في قول الشاعر:
وإن فجراً طالت مواثيق عهده *** على مثل هذا إنه لكريم
يقول ابن الأثير رائياً هذا الرأي: فإذا وردت “إن” وكان بين إسمها وخبرها فسحة طويلة من الكلام فإعادة “إن” أحسن فى حكم البلاغه والفصاحه كالذى تقدم من الآيات.
تكرار الكلمه مع أختها:
ومن أمثلتها قوله تعالى: (أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم فى الأخرة هم الأخسرون).
فقد تكررت “هم” مرتين، الأولى مبتدأ خبرها: “الأخسرون” ، والثانية ضمير فصل جئ به لتأكيد النسبة بين الطرفين وهي: هم الأولی بالأخسرية.
وكذلك قوله تعالي ( أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) تكررت هناأاولئك ثلاث مرات، ولم تجد لهذه الكلمة المكررة مع ما جاورها إلا حسناً وروعة، فالأولى والثانية: تسجلان حکماً عاماً على منكرى البعث: كفرهم بربهم وكون الأغلال في أعناقهم .
والثالثه بيان لمصيرهم المهين ودخولهم النار ومصاحبتهم لها على وجه الخلود الذى لا يعقبه خروج منها، ولو أسقطت أولئك من الموضعين الثانى والثالث لَرَكّ المعنى واضطرب، فتصبح الواو واو حال وتصبح الواو الداخلة على أصحاب النار هم فيها خالدون عاطفه عطفاً يرك معه المعنى، لذلك حسن موضع التكرار فى الآية لما فيه من صحة المعنى وتقويته وتأكيد النسبة فى المواضيع الثلاثه للتسجيل عليهم بسوء المصير…. وللحديث بقية.