الحجاج بن يوسف الثقفي مُحيّر الناس
صبري عبدالباقي علام
إمام وخطيب بوزارة الأوقاف
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي سيد الأولين والأخرين.
وبعد فكل إنسان منا له ما له من الحسنات وعليه ما عليه من السيئات، لكن طوبي لمن غلبت حسناته سيئاته.
وفي هذا المقال سوف نتعرض لنهاية رجل من أشد الشخصيات الإسلامية التي اختلف حولها بين من زعم أنه من أهل النار ومن رأى أن الله قد كتب له نهاية مرضية على الرغم من كل ما وقع منه من أفعال وأعمال بطش وقسوة وقتل لا تخفى على أحد من الناس جميعا، إنه الحجاج بن يوسف الثقفي.
وهو أبو محمدٍ الحجاج بن يوسف بن أبي عقيلٍ بن الحكم الثقفي، وقد كان اسمه كليب، ثم أسمى نفسه الحجاج، أما أمه فهي الفارعة بنت همامٍ بن عروةٍ بن مسعود الثقفي.
لقد كان للحجاج بن يوسف الثقفي مكانةً متميزةً بين أعلام الإسلام، تبعاً لملكاته ومواهبه في القيادة والإدارة، فلم يكد يخلو كتابٌ من كتب التاريخ إلّا وذُكر به، ولم يشتهر الحجاج بقدرته على القيادة فحسب وإنما علت شهرته بنسب المظالم إليه، حيث اعتبره العديد من المؤرخين مثالاً على الظلم، والتجبر، والطغيان، والاستبداد، فقد روي عنه الكثير من المفاسد وحبه لسفك الدماء، الأمر الذي أدّى إلى ضياع محاسنه وسط هذه الانتقادات.
وقد كان للحجاج عددٌ قليلٌ من المؤرخين المنصفين له، ويمكن القول إنه وبالرغم من طغيان الجانب المظلم على سيرته، إلّا أنه يوجد جانبٌ مشرقٌ يتمثل في إنجازاته العديدة في التاريخ الإسلامي.
مولد الحجاج بن يوسف الثقفي ونشأته
ولد الحجاج في مدينة الطائف في عام 41هـ أي 661م، ونشأ في بيتٍ كريمٍ من بيوت ثقيف، وكان لنشأته في الطائف أثرٌ كبيرٌ على فصاحته، حيث إنه كان يتصل بقبيلة هُذيل وهي من أفصح قبائل العرب؛ الأمر الذي جعله خطيباً بليغاً.
كما حفظ على يد والده القرآن الكريم، وكان يتردد باستمرارٍ على حلقات العلم التي كان يعقدها الصحابة والتابعين، مثل أنس بن مالكٍ، وعبدالله بن عباس، وقد عمل الحجاج في بداية حياته معلّماً للصبيان يُعلمهم القرآن الكريم كما كان يعمل والده، ولم يكن الحجاج يتقاضى أجراً على ذلك.
نبذة عن حياة الحجاج وولايته
بدأ الحجاج طموحه السياسي من بلاد الشام، على الرغم من بعدها عن مدينة الطائف، وعندما وصل الشام التحق بشرطة إمارتها التي كانت تعاني من مشاكل عديدةٍ؛ أهمّها سوء التنظيم، وعدم الالتزام بالنظام، وقلة عدد المجندين، مما أدى به إلى إبداء التزامه، وإظهار قوته وعزيمته، وسرعان ما بدأ يُنبّه أولياء الأمر إلى الأخطاء الواقعة.
وقد رأى فيه قائدُ الشرطة روح بن زنباغ صفات القائد الفذّ فمنحه مكانةً مرموقةً، وعمل على ترقيته ليصبح فوق أصحابه، وقد كان الحجاج شديداً يُعاقب مرؤوسيه لأدنى خللٍ أو خطأ، وانتهى الأمر بطاعتهم لأولياء الأمر طاعةً مطلقة.
ثم قدم قائدُ الشرطة الحجاجَ إلى الخليفة عبد الملك بن مروان، فما كان من الحجاج إلّا أن حمى الدولة الأموية من السقوط وأسّسها من جديد.
وقد سيّر عبد الملك بن مروان الجيوش لمحاربة الخارجين عن الدولة بقيادة الحجاج الذي كره ولاية الزبير وهبّ لمحاربته، وعندما علم الحجاج بعدم رغبة أهل الشام بالخروج في الجيش أمهلهم ثلاثة أيامٍ فقط فمن لم يخرج يقتله، ويحرق بيته، ويأخذ ماله.
وبالفعل بدأ الحجاج بالسير بين البيوت حيث قتل أحد المتخلفين عن الجيش، فخرج معه الأغلبية بالإجبار.
وفي عام 73هـ أراد عبد الملك بن مروان أن يتخلص من عبد الله بن الزبير، وعندها جهز جيشاً عظيماً بقيادة الحجاج لمحاربته في مكة، وسار الحجاج بعد أن اكتمل جيشة إلى مكة وحاصر عبد الله بن الزبير هناك، وبدأت الحرب بينهما والتي دامت عدة أشهرٍ، هُزم فيها ابن الزبير.
وفي عام 75هـ عزل عبد الملك بن مروان الحجاج عن الحجاز وولّاه على العراق، واستمرّت ولايته على العراق لمدة عشرين عاماً، وفي العراق خطب الحجاج خطبته الشهيرة، والتي توعّد وهدّد فيها أهل العراق في حال تخلّف أحد منهم وأعرض عن أوامر بني أمية، وفيها قال جملته الشهيرة: (إنني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، وكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى).
وقد أبدت هذه الخطبة شدّة الحجاج وسياسته الحازمة، فما كان من أهل العراق إلّا أن خضعوا لبني أمية وقائدهم الحجاج بن يوسف الثقفي.
بعض من إنجازات الحجاج بن يوسف الثقفي
من إنجازات الحجاج قيامُه بالعديد من الإصلاحات خلال فترة ولايته على العراق، وقد اشتملت الإصلاحات على مختلف نواحي الحياة الصحية، والاجتماعية، والإدارية، فقد ساعد على تعريب الدواوين، وأصلح العملة، واهتمّ بالفلاحين، وأصلح الأراضي الزراعية، ووفر الحيوانات التي تقوم بالحراثة لمساندة المزارعين وتشجعيهم على الاستمرار في الزراعة.
وقد أمر الحجاج بقتل الكلاب الضّالة، كما منع التغوّط في الأماكن العامة، ومنع بيع الخمور، وأمر بعدم النّواح على الموتى في البيوت، وبنى الجسور على الأنهار في العراق، وأقام الصّهاريج لتخزين مياه الأمطار بالقرب من البصرة بهدف توفير المياه للقوافل المارّة، كما أمر بحفر الآبار في المناطق المقطوعة لتوفير مياه الشرب للمارّة.
وفي عام 83هـ أي 702م، شرع في بناء مدينة واسط بين البصرة والكوفة، واستمر في بنائها ثلاث سنواتٍ وعند انتهائه منها اتخذها مقراً لحكمه.
واهتم الحجاج بتنقيط الحروف في المصحف الشريف، ووضع علامات الإعراب على كلماته، حيث أمر نصراً بن عاصم بالقيام بهذه المهمة والذي نُسب إليه عملية تجزئة القرآن، حيث وضع علاماتٍ تدل على نصف القرآن، وثلثه، وربعه، وفضّل أن يعتمد الناس قراءةً واحدةً للقرآن، وعندها اتخذوا قراءة عثمانَ بن عفان، كما كتب مصاحف عديدةً وبعثها إلى الأمصار المختلفة، وكان الحجاج يتأنّى في اختياره لولاته وعمّاله، وكان يختارهم من أصحاب الكفاءات والقدرات العالية، كما كان يراقب أعمالهم باستمرار، ومنعهم من التجاوز على الناس.
نهاية الحجاج بن يوسف الثقفي
مرض الحجاج في نهاية حياته مرضاً شديداً وغريباً، وقد ذكر المؤرخون اسم هذا المرض بالأكلة، والذي أصاب بطنه، وعندما دُعي الطبيب لينظر إليه أخذ لحماً وعلقه في خيط، ثم وضعه في حلقه لمدة ساعةٍ، وعندما أخرجه وجده وقد علق به الكثير من الدود.
كما سلط الله على الحجّاج البرد الشديد المعروف باسم الزمهرير، حتى إن النار كانت تمس جلده من الكوانين (المواقد) المشتعلة حوله ولم يكن يشعر بالحرارة أبداً، وعندما شكى الحجاج ما يحدث له إلى الحسن البصري كان رده عليه أنه قد نهاه عن التعرض للصالحين إلاّ أنه أعرض وأبى، أما رد الحجاج على الحسن البصري فكان أنه لا يريد منه دعاء الله بالتفريج عنه، وإنما أن يدعو الله أن يعجّل في موته ولا يطيل عذابه.[٥]
وقد بقي الحجاج مريضاً لمدة خمسة عشر يوماً، وتوفي سنة 95هـ في شهر رمضان في مدينة واسط ودُفن بها.
ويُقال في بعض المصادر إنه توفي في شهر شوال، عن عمرٍ يُناهز أربعاً وخمسين عاماً.
وقد بعث الحجاج إلى الوليد بن عبد الملك كتاباً يُخبره فيه بمرضه.
وورد عن ابن أبي الدنيا أن عبد الله التيمي قال إنه عندما مات الحجاج لم يعلم أحدٌ بذلك حتى جاءت جاريةٌ تبكي، وقالت: (ألا إن مُطعم الطعام، ومُيتم الأيتام، ومُرمل النساء، ومُفلق الهام، وسيد أهل الشام قد مات).
الخاتمة
وكان الحجاج يشعر بقرب موته، كما كان يستشعر شماتة الناس واعتبارهم بخلوده في النار، حيث كان ينشد في آخر أيامه أبياتاً من الشعر تتحدث عن المغفرة والعتق من النيران وهي لعبيد بن سفيان العكلي.
قال ابن عساكر في كتابه تاريخ دمشق:
“ذكر أبو علي الحسين بن القاسم الكوكبي نبأنا أبو العباس المبرد نبأنا الرياشي عن الأصمعي قال: لما حضرت الحجاج الوفاة أنشأ يقول:
يا رب قد خلف الأعداء واجتهدوا *** بأنني رجل من ساكني النار
أيحلفون على عمياء ويحهم *** ما علمهم بكثير العفو غفار
وأخبر بذلك الحسن: فقال تالله نجا فيهما.
ووجدته مسندا في كتاب العمدة من الفوائد والأثار الصحاح والغرائب:
أخبرنا علي وسعد الله قالا حدثنا محمد حدثنا إسماعيل حدثنا الحسين حدثني أبو العباس الهروي حدثنا الرياشي عن الأصمعي قال:
لما حضرت الحجاج الوفاة أنشأ يقول:
يا رب قد حلف الأعداء واجتهدوا … بأنني رجل من ساكني النار
أيحلفون على عمياء ويحهم … ما ظنهم بكثير العفو غفار
فأخبر بذلك الحسن فقال تالله نجا فيهما”. (انظر: تاريخ دمشق).
إذن، قال الحجاج بن يوسف الثقفي عند موته:
اللهم اغفر لي؛ فإنهم زعموا أنك لا تفعل.
وهذا صحيح، أخرجه ابن أبي الدنيا في كتابه (حسن الظن بالله) ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق من طريق علي بن الجعد، عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، عن محمد بن المنكدر، قال: “كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يبغض الحجاج فنفَسَ عليه بكلمة قالها عند الموت: “اللهم اغفر لي؛ فإنهم زعموا أنك لا تفعل”. قال أبو بكر: فحدثني غير علي بن الجعد أن ذلك بلغ الحسن البصري فقال: أقالها، قالوا: نعم. قال: عسى”. وإسناده صحيح.
وذكر أبو نعيم في كتابه (حلية الأولياء):
حدثنا محمد بن علي، حدثنا أبو العباس بن قتيبة، حدثنا إبراهيم بن هشام بن يحيى، حدثني أبي، عن جدي قال: قال عمر: “ما حسدت الحجاج عدو الله على شيء حسدي إياه على حبه القرآن وإعطائه أهله، وقوله حين حضرته الوفاة: اللهم اغفر لي، فإن الناس يزعمون أنك لا تفعل” .