قصة كتاب “البابية والإسلام” لفضيلة الشيخ الدكتور عبد الرحمن تاج
بقلم المترجم/ د. أسامة أحمد عبد الجليل
عندما يستبد الحكام بالشعوب ويسيء المسئولون استخدام مناصبهم وسلطاتهم لتحقيق مصالحهم الشخصية ومصالح الطبقات الراقية وأهل الحظوة على حساب الفقراء والضعفاء والمحتاجين من عامة الناس، فإنه سرعان ما يهرول أصحاب الحركات الهدامة والمعادية للإسلام والمسلمين إلى الاستفادة من هذا الوضع لتحقيق مآربهم من خلال إيهام البائسين بظهور المخلص.
ولقد ظهرت في بلاد فارس في نهاية النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري، التاسع عشر الميلادي صورةٌ من صور الحركات الهدامة التي تريد أن تجذب الناس إليها من خلال إيهامهم بظهور المُخَلِّص وهي حركة البابية التي خرجت من رحمها البهائية.
يبين الشيخ عبد الرحمن تاج في هذا الكتاب الذي بين أيدينا أن زعيم هذه الحركة قد قُدِّم إلى الشعب الفارسي على أنه المُخَلِّص في صورة “المهدي المنتظر”، وكان يبلغ من العمر خمسًا وعشرين سنة، وكانت نشأته في شيراز بإيران، وكان يُدعى الميرزا علي محمد، وعُرف بلقبه وهو “الباب”.
وعلى الرغم من اعتباره زعيمَ الحركة الدينية التي تعرف باسم “البابية”، إلا أن القائمين على هذه الحركة ومنظميها ودعاتها كانوا أشخاصًا ينتمون إلى فرقة شيعية يقال لها “الشيخية” وكانوا أعداءً ظاهرين للشيعة الإمامية التي ينتمي إليها غالب الشعب الفارسي.
وأصل فرقة البابية هـو الشيخية التي خرجت مـن الاثنا عشريـة، وقد عنيت هذه الفرقة كثيراً بمسألـة المهدي المنتظـر وخاصة بعد أن خرجت على مبدأ التشيع عامـة والاثنـا عشريـة خاصة في قضية المهدي الغائب محمـد بـن الحسن العسكري.
حيث كانت ترى موت محمد العسكري وأن روحـه طارت إلى الملأ الأعلى ولكنها ستعود لتحل مرة أخرى فـي إنسان جديـد يولد ولادة حقيقية من أب وأم وهذا مخالف لمذهب الاثنا عشرية.
لقد كرَّس زعماء الشيخية – ابتداءً من الشيخ أحمد الإحسائي إلى كاظم الرشتي – كل جهودهم للتبشير بقرب ظهور المهدي وكان من الذين تربوا على أفكار هذه الفرقة علي محمد الشيرازي الملقب بالباب الذي استحسن هذه الفكرة فادعى أنه المهدي المنتظـر وأنـه محل لظهور جميع الأنبيـاء حيث إن موسى وعيسى اتخذوا من شخصيـة الباب سبيلاً إلى العودة للدنيـا، كما تجسد في شخصـه كثيـر من الأنبياء حتى زعم أن الحقيقة الروحية المنبعثـة مـن الله قد حلت في شخصه حلولاً مادياً وجسمانياً، ومعنى هذا أن الله تعالى جعله الممثل الشخصي والمظهر الأكمل لجميع الأنبياء والرسل الذين سبقوه وأن روح الله تعالى حلت فيه، وأنه مظهر الله في كل شيء.
ولقد أرادت هذه الحركة البابية الاستفادة من الظروف الموائمة لمخططاتها العدائية، كما ساند هذه الحركة بعض ولاة الأقاليم رغبة منهم في تحقيق طموحاتهم السياسية وإرضاء شعورهم العدائي نحو الإسلام.
وهذا يكشف لنا عن الدور الذي كان يقوم به الاستعمار آنذاك في مساندة هذا المذهب البابي المزعوم، فوجود شخصيات غامضة مثل أحمد الإحسائي وكاظم الرشتي وغيرهما يكشف حقيقة هذه الفرقة ومصادرها حيث يذكر الأستاذ فتحي يكن في موسوعته الحركية أنه لما سقطت حكومة روسيا القيصرية عام 1917م ، قامت الثورة الشيوعية بإذاعة التقارير السرية بقصد الكشف عما كانت عليه الحال في عهد القيصر وحكومته بغية فضحهم، وكانت إحدى هذه التقارير المذاعة تؤكد أن حكومة القيصر أرسلت قسيسين إلى إيران باسمين مستعارين: أحمد الإحسائي وكاظم الرشتي.
وهذا يدل على طموح قياصرة روسيا للاستيلاء على بعض البلاد العربية والإسلامية وبث الفتن فيها لتطويق الدولة العثمانية فسعت إلى إيجاد مذهب باطني باسم الإسلام يخدم مصالحها ويتجسس لحسابها ويساعدها على الوصول لأهدافها، ولذلك بعثت حكومة القيصر هذين القسيسين المذكورين؛ لبث بذور هذا المذهب وتشجيـع الأفكار الباطنية ومنها فرقة البابية، ولكن إذاعة الثورة الشيوعية لأسرار وحقيقـة هـذه الفرقة، دفع الحكومـة البريطانية لتبني الحركة البابية ومساعدتها ومساندتها.
ومما يؤكد علاقة هذه الفرقة بروسيا وبريطانيـا تدخل الروس والإنجليز وبقوة لإنقاذ الباب وأتباعه من بطش الحكومة الإيرانية. وألحوا على الدولة في إطلاق سراحه ونقض الحكم الصادر ضده.
وكتب أحد كبار مؤرخي إيران محمد مهدي فقال إن الحكومة القيصرية الروسية كانت تزود البابيين بالأسلحة ليقاتلوا بها المسلمين، وتعلمهم فنون الحرب والقتال وتمولهم بالمال والعتاد، بل فتحت أبوابها لهم ليعيشوا تحت حمايتها بكل راحة وحرية، ليبثوا سموم الفتنة والفساد في إيران ويدبروا المؤامرات وجعلت عشق آباد وهي المدينة المتاخمة للحدود الإيرانية مأوى وملجأ لهم وبنوا هنالك أكبـر وأول معبد لهـم، كما جعلت مدينـة “ماكـوا” تحت تصرفهـم فبنـوا هنالـك معبـداً آخر.
إن هذا ليدل بوضوح على مدى ارتباط هذه الفرقة الباطنيـة الهدامـة بأعداء الإسلام وتآمرها على المسلمين وعمالتها الواضحة لروسيا وبريطانيا من أجل تحقيق أهدافهم الرامية إلى حصار الإسلام ومحاربة المسلمين .
ومن عقائد البابية تأليه الباب واعتباره الرب الموجود، فلقد كتب في أحد الرسائل يقول: ” الله أكبر تكبيراً ، هذا كتاب من عند الله المهيمن القيوم، قل كل من الله مبدأون، قل كل إلى الله يعودون، هذا كتاب من علي قبل نبيل –يقصد نفسه- ذكر الله للعالمين من يعدل اسمه اسم الوحيد ذكر الله للعالمين، قل كل من نقطة البيان ليبدأون أن يا اسمه الوحيد فاحفظ ما نزل في البيان وأمر به فإنك لصراط حق عظيم “.
كـل هـذا جعل البابيين يسمونـه الرب حتى أن كتّاب التاريخ البابي كانوا يقولون: “حضرة الرب الأعلى” بـل إن حسين علي البهـاء كان يسميه الرب والإله.
وذكرت دائرة المعارف للأديان والمذاهب: “إن البابيين كانوا يعتقدون في الشيرازي الربوبية ويخاطبونه بحضرة الرب الأعلى … إنه كان فائزاً على مقام الألوهية ومرتبته”.
ويقول داعية البهائيين أبو الفضل في مقدمة كتابه الفرائد: “نحن لا نعتقد في الميرزا علي محمد الباب إلاّ أنه رب وإله”.
فهذه هي حقيقة الباب بدأ بالشوق إلى رؤية المهدي المنتظر الموعود الغائب ثم البابية ثم المهدية ثم النبوة المستقلة وأخيراً الألوهية والربوبية. كما فعل من سبقه من أصحاب الفرق الباطنية الضالة.
ويعتقد البابيون أيضا في التناسخ – الذي هو من اعتقاد الفرق الباطنية القديمة، حيث قام جماعة من أتباع الباب وادعى بعضهم أنه الحسن وبعضهم أنه الحسين وبعضهم أنه غيرهما من الأئمة وتابعيهم، وأيد الباب هذه الدعوى بقوله: “إن شخصية الشخص التي باعتبارها يمتاز عن غيره، وينال اسماً خاصاً به كحسن أو حسين مثلاً إنما هي صفاته وأخلاقه التي يكون عليها، فمن وجدت فيه صفات شخص وأخلاقه وأحواله على وجه تام فهو هو في أي زمان كان”.
كما يعتقد البابيون أن روح الله قد حلت في الباب، وكان هو المظهر لها من لدن آدم إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم انتقلت الروح الإلهية من بعد محمد صلى الله عليه وسلم إلى علي ثم إلى من يظهر من بعد من يظهره الله، وكان الباب محلاً لظهور الروح الإلهية في تنقلها من شخص إلى شخص أبد الدهر.
ويؤكـد ذلك قول البـاب عـن نفسـه: “كنت فـي يـوم نـوح نوحاً، وفـي يـوم إبراهيـم إبراهيـم، وفـي يوم موسى موسى، وفي يوم عيسى عيسى، وفي يوم محمد محمداً، وفي يوم علي علياً … ثم يقول كنت في كل ظهور حجة الله على العالمين”.
وهذا بالنسبة لتناسخ بابهم وانتقاله بروحه في الأنبياء كما يزعمون، وأما بالنسبة للبشر عامة فيقولون : “إن الروح بعد مفارقتها للبدن إن كانت عملت خيراً فإنها تنتقل إلى مكان تنعم فيه بأخلاقها ومعلوماتها التي اكتسبت قبل مفارقة البدن، وإذا كانت عملت شراً فإنها تنتقل إلى مكان تتألم فيه وتعذب حتى تزول عنها كل الشرور التي اكتسبتها في أثناء وجودها في البدن وبعد تطهيرها من الشرور والآثام تعود إلى عالم الأجسام مرة ثانية”.
وأدى زعمهم هذا إلى إنكار جميع أمور الآخرة من القيامة والبعث والجنة والنار وغير ذلك.
أما القيامة فيقول الباب عنها: “إنها عبارة عن ظهور شجرة الحقيقة في كل الأزمنة، مثلاً إن بعثة عيسى كانت قيامة لموسى، وبعثة رسول الله قيامة لعيسى، وبعثته هو قيامة لرسول الله، وكل من كان على شريعة القرآن كان ناجياً إلى ليلـة القيامة أي من يوم الساعة، وهي الساعة الثانية والدقيقة الحادية عشرة من غروب الشمس من اليوم الرابع وأول الليلة الخامسة من شهر جمادى الأولى سنة 1260هـ ” يعني الساعة التي أعلن فيها الباب أنه القائم أو المظهر الإلهي الجديد، وزعم أن كل من لا يؤمن به من هذا الحين، ولا يعمل بشريعته وأحكامها فهو كافر جاحد مهدور الدم.
وأما البعث عندهم : “فهو اليقظة الروحية لمن هم نيام في قبور الأوهام والجهالة والشهوات”.
وأن الجنة كناية عن الدخول في دينه، والنار كناية عن الكفر به، واليوم الآخر كناية عن يوم ظهوره، ولقاء الله كناية عن لقائه، والنفخ في الصور كناية عن الجهر بدعوته والمناداة بها، وصعق من في السموات والأرض كناية عن نسخ الأديان بدينه وقيام أمته مكان الأمم.
هذا هو اعتقاد البابية في اليوم الآخر، فهم لم يأتوا بشيء جديد من عند أنفسهم، ولكنهم نبشوا ما قبرته الأيام من ضلالات الإسماعيلية والدروز والنصيرية وغيرهم، ثم أخذوا يبثونها بين المسلمين لتمزيق الصف، وإحداث التشويش على عقائد المسلمين وزرع الخلافات لتمكين الاستعمار من تحقيق أهدافه.
والناظر في أصول هذه الحركة ومعتقداتها يدرك يقينا أنها لا يمكن أن تكون دينا أو أن يكون ثمة تقارب بينها وبين الأديان السماوية، فلقد زعم صاحبها في البداية أنه باب المهدي ثم المهدي نفسه ثم النبوة ثم زعم في نهاية الأمر الألوهية وأنه تجسيد لله.
ويتساءل الشيخ تاج بعد هذه المفارقة، أين يمكن، أم أين يجب تصنيف البابية؟ ثم يجيب بأنه لا يوجد لا في البيان -ذلك الكتاب الخاص بالعقائد والأحكام والشرائع البابية- ولا في غيره من كتب الباب العديدة ثمة ما يقرب هذا الدين الباطل من أي دين سماوي جاء عن طريق الوحي.
ثم يتساءل من جديد: إذا لم يكن من الممكن وضع البابية بين الأديان السماوية، فهل يمكن اعتبار البابيين أصحاب فرقة إسلامية؟ إن الإجابة على هذا السؤال تحتاج إلى التمييز بين فرقة إسلامية بمعنى مجموعة من الناس تستند إلى أصول دين الأمة الإسلامية مع اختلافهم معها في بعض المسائل الفرعية التي لا تتعلق بأركان الإسلام، وبين فرقة تزعم انتسابها للإسلام لكنها لا تلتزم كليًّا أو حتى جزئيًّا بأركان هذا الدين.
فالفرقة الشيعية الاثنا عشرية المعتدلة على سبيل المثال أو الزيدية يجب تصنيفها باعتبارها فرقة من الفرق الإسلامية الصحيحة، على الرغم من ابتعاد أصحابها عن تصور جمهور المسلمين في مسألة الخلافة ومسألة المهدي المنتظر أو غير ذلك من المسائل الفرعية التي لا تتعلق بأركان الدين الإسلامي.
فعقيدتهم في توحيد الله وصفاته والحياة الآخرة هي نفس عقيدة جمهور المسلمين، وعلى الرغم من أن بعض هؤلاء الشيعة يعطون مسألة الخلافة أهمية خاصة وكبيرة تكاد توهم أن هؤلاء الشيعة يعتبرون هذه المسألة شديدة الارتباط بالعقيدة الإسلامية، فإننا نقول: إن هذا الاعتقاد لا يؤثر شيئًا في أركان الإسلام، والمعتزلة الذين يختلف فهمهم لصفات الله -كما رأينا- عن فهم الأشاعرة وهم مع ذلك مسلمون حقيقيون، وإذا أردنا اعتبارهم فرقة فإنه لا يستطيع أحد أن يقول: إنهم ليسوا بفرقة مسلمة؛ لأن إنكارهم لقدم صفات الله راجع إلى اعتقادهم بأن القول بقدم الصفات من شأنه أن يؤدي إلى الاعتقاد بوجود آلهة أخرى قديمة مع الله، وهذا لا يجعل المعتزلة بمنأى من ناحية المضمون عن عقيدة الأشاعرة؛ لأنهم يقولون: إن جميع الأدوار المنوطة بهذه الصفات ما هي إلا مظهر للذات الإلهية الواحدة التي هي بذاتها عليمة وقادرة.
وكذلك الحال بالنسبة للمسائل التي قال فيها المعتزلة بآراء خاصة بهم مثل مسألة الأصلح وحرية الاختيار وولاية العقل الإنساني في التمييز بين الخير والشر… إلخ، وعلى الرغم من تعلق هذه المسائل إلى حد ما بالعقائد الإسلامية فإنها لا تؤثر فيها لا من قريب ولا من بعيد.
ولكن عندما نتحدث عن البيانية والجنهية والخطابية والقرامطة والنصيرية وغيرها من الفرق فإن الأمر يختلف تمامًا؛ لأن هذه الفرق تقوم على مفهوم التجسيد الإلهي وتأليه الإنسان بناءً على ذلك التجسيد وإنكاره الحياة الآخرة والتناسخ الذي يؤدي إلى ذلك الإنكار، وبالتالي فإننا نقول: إن هذه المذاهب تبعد أصحابها عن الإسلام، وعليه فإنه لا يحق لهذه الفرق أن تزعم نفسها “فرقًا إسلامية”.
وبذلك يتضح أن هناك اختلافًا ملحوظًا بين فرقة مسلمة وبين فرق أخرى تتظاهر بانتمائها للأمة الإسلامية دون أن تلتزم بأركان الدين الإسلامي، وبالتالي فإن النوع الثاني من هذين النوعين اللذين تناولناهما بالذكر لا يعد مطلقًا فرقة إسلامية.
وحينئذ يمكن الإجابة على السؤال المطروح الذي يتعلق بمعرفة إذا كان من الممكن تصنيف الفرقة البابية على أنها فرقة من الفرق الإسلامية.
إن الفرقة البابية التي اتبعت مذاهب الفرق غير الإسلامية المختلفة وخرجت من رحم الأمة الإسلامية بنفس الطريقة التي خرجت بها تلك المذاهب لا يمكن ولا ينبغي اعتبارها فرقة إسلامية.
فلقد نشأت هذه الفرقة وقامت على مذاهب غير إسلامية ولا تنتمي إلى أي دين من الأديان السماوية فعقائد هذه الفرقة -بالرغم من المظهر الذي تريد الظهور به- ليست سوى وثنية خالصة.
وانتهى الشيخ في هذا البحث إلى أنه لا يجب أن ننخدع بتلك المظاهر التي أراد البابيون ويريدون خلعها على الحركة البابية ونرى أن هذه الحركة ليست حركة دينية وأن هذه الفرقة ليست فرقة إسلامية، فكلمة “فرقة” -لا سيما في الشرق- تبعث على الإيهام؛ لذلك فإنه كما يقول الشيخ الإمام: إن البابيين ليسوا إلا مجرد مجموعة سرية من الناس لا تسعى إلا لتحقيق مصالحها الخاصة التي لا علاقة لها بالسعادة المادية أو الروحية للإنسانية.
وفي الختام يقول: إذا كانت حقيقة البابية قد استطاعت أن تختفي وراء أقنعة مختلفة فإنه يسعدني أن أقول: إن تلك الأحجبة السميكة التي تغطي حقيقتها قد بدأت تتساقط واحدًا وراء الآخر مما يتيح للحقيقة أن تظهر واضحة جلية.
والآن وقد بدأ مستوى الثقافة يرتفع عند الناس، وأخذت الروح النقدية التي تكونت لديهم تتشكك في دعاة البابية.
وأما المثقفون الذين لا زالت قلوبهم عامرة بالإسلام فإنهم لا زالوا على حذر منهم، وهكذا لم يبق من البابية سوى أولئك الذين يسعون من وراء البابية إلى تحقيق مصلحة مادية خالصة وشخصية أنانية، وأولئك المقيمين في أمريكا الشمالية من كبار السن والمتقاعدين ممن يبحثون في وقت متأخر عن النجاة الموعودة من خلال بعض الممارسات الغامضة التي يدفعون أجرها، في حين أنه من السهل أن يحصل الناس على النجاة يومًا إذا ما استمسكوا بالأحكام العامة والمبادئ المشتركة التي جاء بها وحي السماء.
وبعد، فما سبق مقدمة متواضعة لما جاء في هذا السفر النفيس ولهذا السفر حكاية:
يعد هذا الكتاب في الأصل رسالة مقدمة باللغة الفرنسية من شيخ الأزهر الدكتور عبد الرحمن تاج عام 1942 إلى جامعة السوربون بفرنسا لنيل درجة العالمية الدكتوراه، ثم أوصت لجنة المناقشة بطبعه على نفقة الجامعة وتداوله بين الجهات المختصة للاستفادة منه، وطبع هذا الكتاب باللغة الفرنسية في العام ذاته، وعلى الرغم من طباعته باللغة الفرنسية إلا أنه أثار حفيظة البهائيين في جميع أنحاء العالم للأسباب التالية:
أولا: تضمين الكتاب صورة من مخطوطة كتاب البيان العربي والذي لا يطلع عليها أحد إلا بصعوبة بالغة حدثنا عنها المؤلف.
ثانيا: تفنيد مذهب البابية والذي خرجت من رحمه البهائية تفنيدا لا يدع مجالا للشك بأنه مذهب باطل يناقض العقل والشرع ولا يمت بأدنى صلة إلى الدين الإسلامي.
ثالثا: سعي البهائيين الحثيث من أجل إخفاء جميع مصادر البابية وكتبها لا سيما البيان المشار إليه آنفا.
لهذه الأسباب وغيرها مما يطلع عليه القارئ في هذا الكتاب حاول البهائيون القضاء على هذا العمل فظل الكتاب رهن المحبسين: محبس اللغة الأجنبية ومحبس المحاربة البهائية ما يزيد على سبعين سنة.
وشاءت إرادة الله أن يخرج العمل إلى النور من جديد ولكن هذه المرة باللغة العربية بعدما تم العثور على نسخة نادرة في إحدى المكتبات القديمة في مصر، فلما عرضت عليّ وجدت أن الكتاب من الأهمية بمكان فاستعنت بالله وقمت بترجمته إلى اللغة العربية.
ولقد وجدت صعوبة بالغة في ترجمته إلى اللغة العربية حيث يشتمل على كثير من الألفاظ الفلسفية والعقدية شديدة التعقيد، فلم أكن أمام باحث عادي وإنما كنت أمام عالم وفقيه ومحدث ولغوى ومؤرخ وأديب، فأفدت كثيرا من هذه الترجمة ليس على مستوى اللغة الفرنسية التي كتب بها فحسب وإنما أيضا على مستوى ما حوى من نفيس الكنوز.
وتجدر الإشارة إلا أن هذا الكتاب المطبوع لم يتبق منه على حد علمي في مصر سوى النسخة التي وقعت في يدي فقمت بتصويرها وسوى نسخة بأحد الأديرة المسيحية اطلعت عليها أيضا وعليها إهداء من الشيخ عبد الرحمن تاج.
وقبل أن أترك القارئ لينهل من فيض علم فضيلة الشيخ الإمام الدكتور عبد الرحمن تاج، أحب أن أعطر الأنفاس وأنقل ما يمكن أن يشنف الآذان عن سيرة صاحب الفضيلة:
حياة فضيلة الشيخ الإمام عبد الرحمن تاج[1]
ينتسب فضيلة الشيخ الإمام الأكبر شيخ الأزهر الدكتور عبد الرحمن حسين على تاج لأسرة من بلدة منية الحيط، إحدى قرى مركز إطسا بمحافظة الفيوم. وانتقل والده مع جده للعمل في أسيوط. وعندما تجاوز الخامسة من عمره التحق بالكتاب وحفظ القرآن وهو في العاشرة من عمره، ثم جوَّده وتلقَّى بعض الروايات في قراءاته على يد كبار القُرَّاء، كما تلقَّى بعض مبادئ العلوم الدينية والعربية، وحفظ عددًا من متون العلوم. وأثناء تجول وزير المعارف آنذاك سعد زغلول باشا في الصعيد أعجب بذكاء الطفل وسرعة خاطرة وجوابه السديد ورأى أن يكافئه ويشجعه فقرر إلحاقه بالمدارس الأميرية على نفقة الدولة في جميع مراحل التعليم، إلا أن جد الصبى أبى إلا أن يكون مجال تعليم حفيده بعد الكتاب هو الأزهر الشريف، وانتقلت أسرته إلى الإسكندرية، فانتقل معها الشيخ والتحق بالسنة الثانية الابتدائية بمعهد الإسكندرية الديني سنة 1910م، وكان المعهد يمتاز عن بقية المعاهد بما تمَّ فيه من إصلاح سبق به غيره، وظل الشيخ الإمام عبد الرحمن تاج يواصل الدراسة فيه، وكان حريصًا على أن يقرأ الدروس قبل أن يتلقاها على أساتذته، ويناقشهم فيها أثناء الدرس مناقشة الفاهم الواعي، فكان أساتذته يثقون به حتى أتاحوا له أن يُلقيَ الدروس في آخر كل أسبوع أمامهم نيابة عنهم، وشهدوا له بالنبوغ، وكان ترتيبه الأول في معظم مراحل التعليم حتى نال شهادة العَالِمية سنة 1923م. كما التحق بقسم تخصص القضاء الشرعى ونال شهادته وعين مدرساً في معهد أسيوط الدينى ثم في معهد القاهرة الدينى ثم اختير مدرساً بقسم تخصص القضاء الشرعى قبل أن يبلغ الخامسة والثلاثون من عمره، ثم اختير عضواً في لجنة الفتوى للمذهب الحنفى سنة 1935. وفي سن الأربعين وقع عليه الاختيار ليكون عضواً في بعثة الأزهر إلى فرنسا فالتحق بجامعة السوربون حيث حصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة وتاريخ الأديان عن رسالته في (البابيه والإسلام) وذلك رغم الظروف القاسية والمدمرة للحرب العالمية مما يدل على شخصيته الصامدة المتزنة الوقورة القادرة على مواجهة الصعاب. وبعد عودته من باريس سنة 1943 عين أستاذاً في كلية الشريعة بالأزهر، ثم مفتشا للعلوم الدينية والعربية، ثم عين شيخاً للقسم العام والبحوث الإسلامية بالأزهر الشريف.
وفي عام 1951 نال عضوية هيئة كبار العلماء حين تقدم إليها ببحث عن السياسة الشرعية كما عمل أستاذاً بكلية الحقوق بجامعة عين شمس أثناء وجوده في هيئة كبار العلماء ولجنة الفتوى ثم أصبح شيخاً للأزهر الشريف في 7 يناير 1954 ثم وزيراً في اتحاد الدول العربية عام 1958. ثم انتخب عضواً بمجمع اللغة العربية عام 1963، ثم اشترك فيه في لجنة القانون والاقتصاد، ولجنة الأصول، ولجنة المعجم الكبير وعضوا بمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف. مُنح وسام الجمهورية من الطبقة الأولى عام 1955م كما مُنح اسمه وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى بمناسبة الاحتفال بالعيد الألفى للأزهر.
آثاره العلمية
لقد أثري الإمام المكتبة الإسلامية بالكثير من الكتب والأبحاث المتفردة والدراسات العميقة في تفسير القرآن الكريم، وعلوم اللغة، منها:
– البابية وعلاقتها بالإسلام (باللغة الفرنسية في ما يزيد عن خمسمائة صفحة) وهي رسالته التي نال بها درجة العالمية “الدكتوراه” من جامعة السوربون في فرنسا والتي نقدمها اليوم من جديد للقارئ باللغة العربية.
– السياسة الشرعية في الفقه الإسلامي، وهي الرسالة التي نال بها عضوية كبار العلماء.
– الأحوال الشخصية في الشريعة الإسلامية.
– مذكرة في الفقه المقارن.
– تاريخ التشريع الإسلامي.
– مناسك الحج وحكمها.
– الإسراء والمعراج.
– حكم الرِّبا في الشريعة الإسلامية.
-(لا) التي قيل إنها زائدة في القرآن الكريم وليست كذلك.
– الواو التي قيل إنها زائدة.
– الفاء وثم، ودعوى زيادتهما في القرآن الكريم، أو في غيره من فصيح العرب.
– إذ وإذا، ورأي أبي عبيدة، نشر في مجلة مجمع اللغة العربية سنة 1969م- 1970م (ص 181 – 196).
– أن الزائدة، وأن النافية، وكبوة الفرسان في مجال التفرقة بينهما، وهو بحث نشر في مجلة مجمع اللغة العربية سنة 1974م.
– درء مظاهر من الجرأة في تفسير الكتاب العزيز، نشر في مجلة مجمع اللغة العربية، (ص 24 – 33) من الجزء الرابع والعشرين، بتاريخ يناير سنة 1969م.
– القول في (غير) وحكم إضافتها إلى المعرفة، نشر في مجلة المجمع (ص 20- 29) في الجزء الخامس والعشرين، بتاريخ نوفمبر سنة 1969م.
– أكثر من واحد، وهو بحث نشر في مجلة مجمع اللغة العربية (ص 16- 22) في الجزء الثامن والعشرين، بتاريخ نوفمبر سنة 1971م.
– حروف الزيادة وجواز وقوعها في القرآن، نشر في مجلة مجمع اللغة العربية (ص 21-27) في الجزء الثلاثين بتاريخ نوفمبر سنة 1972م.
– الباء الزائدة في فصيح الكلام وفي القرآن الكريم، نشر في مجلة مجمع اللغة العربية (25-35) في الجزء الحادي والثلاثين بتاريخ مارس سنة 1973م.
– من الدراسات اللغوية في بعض الآيات القرآنية، نشر في مجلة مجمع اللغة العربية (ص23-34) في الجزء الثالث والثلاثين بتاريخ مايو سنة 1973م.
– بحث فيما تجب مراعاته في بيان معنى الألفاظ المشتركة الواردة في الكتاب العزيز واختيار أنسب معانيها لمقام ذكرها.
– بحث فيما يخرج منه اللؤلؤ والمرجان، وما قيل فيه من أنهما لا يخرجان إلا من البحار ولا يخرجان من الأنهار، وذلك في تفسير قوله تعالى:{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ}، (الرحمن:22).
– رسالة في أفعل التفضيل واستعماله.
مواقفه التاريخية
كان للشيخ في حياته مواقف وقف التاريخ أمامها وقفة إعزاز وإقدار، ففي أوائل عام 1955تلقى الشيخ عبد الرحمن تاج شيخ الأزهر دعوة رسمية من الرئيس أحمد سوكارنو رئيس دولة أندونيسيا لزيارتها، والمشاركة فى احتفالها بعيدها القومي، وفى الوقت نفسه سافر وفد للحكومة المصرية برئاسة قائد الجناح جمال سالم وأبرز قيادات ثورة 23 يوليو، ولقد سافر الوفدان على متن طائرة واحدة وكان من الطبيعي أن تهبط الطائرة في كراتشي بباكستان “هبوطا انتقاليا”.. وتم استقبال الشيخ عبد الرحمن استقبالا شعبيا ورسميا رائعا وطوقوا عنقه بالورود والزهور العطرة , وتم تجاهل جمال سالم ووفد الحكومة الرسمي.. فهاج جمال سالم وطلب أن يعود شيخ الأزهر إلى القاهرة دون أن يكمل الرحلة، ولكن الإمام عبد الرحمن تاج رفض رفضا قاطعا واستمر في الرحلة، واستمرت الاستقبالات الهائلة له عندما وصل إلى أندونيسيا. فأسرها الصاغ جمال في نفسه وتحين أقرب فرصة للرد، وتم إقالة الإمام من منصبه بعد سلسلة من المضايقات. وبالرغم من أن كثيرين يصنفون الشيخ عبد الرحمن تاج بأنه من الموالين لنظام عبد الناصر، خاصة بعد فتواه الشهيرة ضد الرئيس محمد نجيب، إلا أنه علينا أن نعترف بأفضال هذا الرجل على الأزهر، وحرصه على كرامته. وقد حدث أنه في أوائل عام 1957، فوجئ الشيخ بقرار جمهوري بتفويض علي صبري في جميع صلاحيات رئيس الجمهورية فى كل ما يختص بالأزهر. ورأى الإمام الأكبر فى هذا القرار مخالفة دستورية وقانونية للقانون رقم 26 لسنة 1936، ومحاولة لفرض وصاية وزير على الرسالة التي يحمل الأزهر أمانتها. وقرر الشيخ عبد الرحمن تاج ألا ينفذ قرار الوزير بإسناد منصب مدير إدارة الثقافة بالأزهر إلى الدكتور محمد البهى، و كان الشيخ تاج نفسه يعتزم إسناد هذه الوظيفة للدكتور البهى، و لكن دفاعا عن كرامة الأزهر رفض عبد الرحمن تاج تنفيذ قرار علي صبري, و أصدر قرارا بإلغاء إدارة الثقافة وإعادة الدكتور البهي إلى منصبه القديم أستاذا بكلية اللغة العربية, و لم ينجح علي صبري في فرض وصايته على الأزهر. وكان لابد حينئذ من البحث عن حيلة لإبعاد الشيخ عبد الرحمن تاج من مشيخة الأزهر , و فى أول سبتمبر عام 1958, تم تكوين أول اتحاد بين مصر وسوريا واليمن وصدر قرار بتعيين الدكتور عبد الرحمن تاج وزيرا فى الوزارة الاتحادية على اعتبار أنه شخصية دينية كبيرة, و أن الأمام أحمد حميد الدين إمام اليمن فى ذلك الوقت يسعده بأن يكون بجوار شخصيه دينية كبيرة، و هكذا تم إبعاده عن الأزهر وظل وزيرا حتى عام 1961 بعد الانفصال عن سوريا وظل الإمام بعدها يكتب ويعمل في صبر حتى وافته المنية -رحمه الله- في صباح يوم الأربعاء، العاشر من جمادى الأولى سنة 1395هـ، الموافق 20 من مايو سنة 1975 م. وقد أقام مجمع اللغة العربية حفلا كبيرًا لتأبين الإمام الراحل عبد الرحمن تاج، تحدَّث فيه جمع من كبار العلماء منهم الدكتور إبراهيم مدكور، والأستاذ الشيخ علي الخفيف، وعقَّب عليهما الأستاذ حسن عبد الرحمن تاج ابن الإمام.
ثناء العلماء عليه
أثنى العلماء على الإمام ثناءً حميدًا، فقال “الشيخ أبو بكر عبد الرازق” وهو من هو : “إن فضيلة الأستاذ قد حصل من الرتب العلمية والدرجات ما رفعه إلى مستوى لا مطمع لكثير من الناس أن يصلوا إليه، ولكن هو نفسه استطاع أن يبلغه، وأن يبلغ من الفضل مقاما فوق ذلك مظهرا أو أرفع قدرا، وأكبر مقاما، مقام تتهاوى دونه درجات العلماء ومقامات الخبراء، وتتخاذل دونه الألقاب. وترتد المطامع عنده، كان ذلك يوم انتخاب “الشيخ تاج” عضوا في مجمع اللغة العربية عام 1963. وقال “الشيخ علي الخفيف” في يوم رحيل “الشيخ تاج” عام 1975 م : “كان فقيدنا الدكتور الأستاذ الإمام – رضي الله عنه – من أولئك الذين حبوا بعلمهم، وسموا بأخلاقهم، وعملوا بعملهم فكتبوا لأنفسه الخلود بما تركوا من علم يتوارث. وأفكار تهدى، فكان فيه الأسوة الحسنة لمن أراد لنفسه سموا لمنزلة عليا، ولذكره بقاء، ولحياته خلودا. لقد فقدنا بفقده – رضي الله عنه – الشيخ الجليل، والإمام العظيم، فكان الخطب فيه جللا، والخسارة فادحة لا للأزهر وحده ولا لمجمع اللغة العربية فحسب. بل للأمة الإسلامية جمعاء).
لقد كان الشيخ الإمام عبد الرحمن تاج -رحمه الله- يتمتع بخلق قويم إلى جانب علمه الغزير، وقد صقلته التجارب العديدة التي خاض غمارها، وسمت به عقيدته الدينية إلى آفاق عالية، فقد كان -رحمه الله- شديد التمسك بالشعائر الإسلامية والفضائل الدينية علمًا وعملًا وتطبيقًا، فكان إمامًا في المعارف العلمية، وقدوة طيبة في الآداب السلوكية، وكان مع تواضعه يعتز بكرامته كل الاعتزاز، رحمه الله رحمة واسعة وطيب ثراه وجعل الفردوس الأعلى من الجنة مثواه.
والله أسأل أن يهدينا إلى سواء السبيل!
[1] راجع: الأزهر في اثني عشر عامًا، نشر إدارة الأزهر .شيوخ الأزهر، أشرف فوزي. مشيخة الأزهر منذ إنشائها حتى الآن، علي عبد العظيم، الأزهر الشريف في عيده الألفي: سعد فرهود وآخرون. 2- أبو بكر عبد الرازق: الشيخ عبد الرحمن تاج. 3- الإعتصام (مجلة)، عدد ديسمبر عام 1974. محمد مصطفى البسيوني، جريدة الأخبار (21/12/1990م). موقع الأزهر الشريف على الشبكة العنكبوتية (www.onazhar.com). موقع المعرفة على الشبكة العنكبوتتية (ww.marefa.org)