أوهام المستشرقين حول القراءات القراّنية.. شبهات وردود
الرد على أوهام جولد زيهر
د. محمد العربي
المحاوله التي قام بها جولد زيهر هي إخراج القراءات القراّنيه من كونها وحياً من عند الله ،ونزل به الروح الأمين إلى كونها تخيلات توهمها علماء المسلمين ،وساعدهم على تجسيد هذا التوهم طبيعة الخط العربى ،لأنه كان في الفترة التي ظهرت فيها القراءات غيرمنقوط ولا مشكول ، وهذا ساعد على نطق الباء تاء في مثل “تقولون” أو”تفعلون ” ! فمنهم من قرأ بالتاء ” تقولون “ومنهم من قرأ بالياء ” يقولون “هذا من حيث النقط وجودا و عمداً، أما من حيث الشكل أي ضبط الحروف بالفتح أو الضم مثلا ، وأرجع إلى هذا السبت قوله تعالى : ( وهو الذي أرسل الرياح نشرا ..).
فقد قرأ عاصم : ” نشرا ” بضم الباء وقرأها الكسائي وحمزة : ” نشراً” بالنون المفتوحة بدلا من الباء المضمومة عند عاصم .
وقرأ الباقون : نشراً بالنون المضمومة والشين المضمومة بينما كانت الشين في القراءات الأخرى ساكنة وفي هذا يقول جولد زيهر نقلاً عن الترجمة العربية لكتابه الذى ذكر فيه هذا الكلام .
والقسم الأكبر من هذه القراءات السبب في ظهوره إلى خاصية الخط العربي ، فإن من خصائصه أن الرسم الواحد للكلمة قد يقرأ بأشكال مختلفة تبعا للنقط فوق الحروف أو تحتها ، كما أن عدم وجود الحركات النحوية، وفقدان الشكل ( أي الحركات ) في الخط العربي يمكن أن يجعل للكلمة حالات مختلفة من ناحية موقعها من الإعراب. فهذه التكميلات للرسم الكتابی ثم هذه الاختلافات في الحركات والشكل ، كل ذلك كان السبب الأول لظهور حركة القراءات ، فيما أهمل نقطه أو شكله من القرآن .
إن المتأمل في هذا الكلام ، الذي نقلناه عن جولد زيهر ، يدرك أن الرجل يريد أن يقول في دهاء وخبث: إن هذه القراءات تحريفات معترف بها لدى المسلمين خاصتهم وعامتهم ، وأن النصوص الإلهية المنزلة على رسولهم اّصابها بعض الضياع.. إنه لم يقل صراحة بالتحريف وإنما وضع المبررات لوجود التحريف في القراّن الكريم.
ثم أخذ يورد بعد ذالك أمثله من القراءات وينسبها إلى السببين الذين تقدم ذكرهما ، وهما :
– تجرد المصحف من النقط في أول عهده .
– تجرد كلماته من ضبط الحروف .
فإلى السبب الأول نسب قوله تعالى : ( ونادي أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغني عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون ) والشاهد في كلمة ” تستكبرون “وهي قراءة الجمهور، وقد قارنها جولد زيهر بقراءة شاذة ” تستكثرون ” بإبدال الباء تاء ، يريد أن يقول : إن الكلمة كانت في الأصل ” يستكبرون” غير منقوطة الحروف الأول و الثالث والخامس فاختلف في قراتها :
فمنهم من قرأ الخامس باء والأول تاء فنطق : تستكبرون ، ومنهم من قرأ الخامس ” ثاء فنطق تستكثرون .
هذا هو سبب هاتين القراءتين عنده وكذلك قوله تعالى : ( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه..) والشاهد في كلمة ” إياه ” ضمير نصب منفصل للمفرد الغائب الذكر . ثم قارنها بقراءة شاذة لحماد الراوية هكذا ” أباه ” بابدال الياء من ” إياه ” باء ” أباه ” أي وعدها ابراهيم عليه السلام أباه ؟
أما اختلاف القراءات للسبب الثاني ، وهو تجرد كلمات المصحف عن الضغط بالحركات ، فمن أمثلته قوله تعالى : ( ومن عنده علم الكتاب ) .
وقارن بين قراءاتها الثلاث ؛ من عنده – من عنده – من عنده ؟
هذا هو منهجه في إخراج القراءات القرآنية عن کونها وحياً من عند الله ، إلى كونها أوهاماً كان سببها نقص الخط العربي الذي كتب به المصحف أولاً عن تحقيق الألفاظ من حيث حروفها ومن حيث كيفية النطق بها ، وأفتى أثره كثير من المبشرين والمستشرقين .
الرد على هذه الشبهة :
لقد حظي كتاب الله العزيز بعناية منقطعة النظير ، في حياة النبی وبعد وفاته ، ومن الحقائق الراسخة رسوخ الجبال أن طريق تلقى القراّن کان هو السماع الصوتی .
– سماع صوتی من جبريل لمحمد عليهما السلام .
– وسماع صوتی من الرسول إلى كتبة الوحي أولا وإلى المسلمين عامة.
– وسماع صوتي من كتبة الوحي إلى الذين سمعوه منهم من عامه المسلمين.
– وسماع صوتي حتى الآن من حفظة القرآن المتقنين إلى من يتعلمون منهم من أفراد المسلمين.
هذا هو الأصل منذ بدأ القرآن ينزل إلى هذه اللحظة والي يوم الدين في تلقي القرآن من مرسل إلى مستقبل .
وليست كتابة القرآن في مصاحف هي الأصل ولن تكون ، القراّن يجب أن يسمع بوعي قبل أن يقرأ من المصحف ، ولا يزال متعلم القرآن فى أشد الحاجة إلى سماع القرآن من شيوخ حافظين متقنين ، وفي القرآن عبارات أو كلمات مستحيل أن يتوصل أحد إلى نطقها الصحيح عن مجرد القراءة في المصحف ، ولو ظل يتعلمها وحده أياما وأشهراً .
وبهذا تهوى الأفكار التي أرجع إليها جولد زيهر نشأة القراءات إلى الحضيض ، ولا يكون لها أي وزن في البحث العلمي المقبول ؛ لأن المسلمين من جيل الصحابة ومن تبعهم بإحسان لم يتعلموا القراّن عن طريق الخط العربي من القراءة في المصاحف ، وانما تعلموه سماعاً واعياً ملفوظاً كما خرج من فم محمد “عليه الصلاه والسلام ” ثم قيض الله لكتابه شیوخاً أجلاء حفظوه وتلوه غضاً طرياً كما كان صاحب الرسالة يحفظه ويتلوه كما سمعه من جبريل أمين الوحی .
أجل .. كان سيكون لأفكار جولد زيهر وجه من الاحتمال لو كان المسلمون يأخذون القراءة قراءة من مصاحف ، أما وقد علمنا أن طريق تلقي القرآن هو السماع الموثق ، فإن أفكار جولد زيهر تذهب هباء في يوم ريح عاصف .
ثانيا : إن القراءات الصحيحة مسموعة من جبريل لرسول الله “عليه الصلاه والسلام ” ، ومسموعة من محمد لكتبة الوحي ، ومسموعة من محمد وكتبه الوحى لعموم المسلمين في صدر الإسلام الأول ، ثم شيوخ القرآن في تعاقب الأجيال حتی يرث الله الأرض ومن عليها .
لقد سمع المسلمون من محمد المعصوم عن الخطأ في التبليغ ” فتبينوا ” و ” فتثبتوا في قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ) بالباء والياء والنون.
وسمعوها منه ” فتثبتوا ” بالتاء والثاء والباء والتاء وكلا القراءتین قرآن موحی به من عند الله ، وليس كما توهم جولد زيهر ، إنهما قراءتان ناشئتان عن الاضطراب الحاصل من خلو كلمات المصحف من النقط والشكل في أول أمره ؟ .
والقراءتان وإن اختلف لفظهما فان بين معنييهما علاقة وثيقة كعلاقة ضوء الشمس بفرصها : لأن التبين ، وهو المصدر المتصيد من ” فتبينوا ” هي التفحص والتعقب في الخبر الذي يذيعه الفاسق ببن الناس ، وهذا الدين هو الطريق الموصل للتثبيت ، فالتثبيت هو ثمرة التبين ومن تبين فقد تثبت ، ومن تثبت فقد تبين .
فما أروع هذه القراءات ، ورب السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما ، إن قراءات القراّن لهی وجه شديد الإشراق من وجه إعجاز القرآن ، وإن كره الحاقون .
وبعد : إن إرجاع القراءات القراّنيه لطبيعه الخط العربى الذى كان في أول مره خالياً من النقط واشلكل ، کما توهم جولد زيهر ومن بعده اثرجیفری فی المقدمه التى كتبها لكتاب المصاحف لأبى داود السجستانی ، وتابعها المستشرق جان بيرك ، ان هذه النظرية مجرد رقم سانده جهل هؤلاء الادعياء على الفكر الإسلامي مبدؤه ومنتهاه الحقد على الإسلام والتطاول على القراّن لحجات في نفوس “اليعاقيب “.
وقد قدمنا في إيجاز ما أبطل هذه الأوهام ، وبقي علينا في الرد على هذه الشبهة أن نذكر في إيجاز كذلك جهود علمائنا في تمحيمص القراءات ، وكيف وضعوا الضوابط الدقيقة لمعرفة القراءات الصحيحه من غيرها مما كان شائعا وقت جمع القرآن في عهد عثمان بن عفان “رضى الله عنه ” .
تمحيص القراءات : وضع العلماء الأقدمون ضوابط محكمة للقراءات الصحيحة التي هي وحی من عند الله . وتلك الضوابط هي :
1 – صحة السند ، الذي يؤكد سماع القراءة عن رسول “عليه الصلاه والسلام ” .
2- موافقة القراءة لرسم المصحف الشريف ، الذي أجمعت عليه الأمة في خلافة عثمان رضي الله عنه مع ملاحظة أن الصحابة الذين نسخوا القرآن في المصحف من الوثائق النبوية في خلافة عثمان ، نقلوه كما هو المصحف مكتوب من الوثائق النبويه بلا تغيير أو تبديل ، ورسم المصحف الذى بين أيدينا الآن سنة نبوية ؛ لأن النبي أقر تلك الوثيقة ، واحتفظ بها في بيته حتى آخر يوم في حياته الطيبة .
ولذلك أجمع أئمة المذاهب الفقهية على تحريم كتابة المصحف في أي زمن من الأزمان ، على غير الرسم المعروف بالرسم العثماني للمصحف الشريف ، ونقل هذا الإجماع عنهم كثير من علماء تاريخ القرآن .
3- أن تكون القراءة موافقة لوجه من وجوه تراكيب اللغة العربية؛ لأن الله أنزل كتابة باللسان العربي المبين.
4- أن يكون معنى القراءة غير خارج عن قيم الإسلام ومقاصده الأصول والفروع .
فإذا تخلف شرط من هذه الشروط فلا تكون القراءة مقبولة ولا يعتد بها .
وعملاً بهذه الضوابط تميزت القراءات الصحيحة من القراءات غير الصحيحة ، أو ما يسمى بالقراءات الشاذة أو الباطلة .
ولم يكتف علماؤنا بهذا ، بل وضعوا مصنفات عديدة حصروا فيها القراءات الصحيحة ، ووجهوها كلها من حيث اللغة ، ومن حيث المعنی .
كما جمع العلامة ابن جني القراءات الشاذة ، حاصراً لها ، واجتهد أن يقومها تقويماً أفرغ ما ملك من طاقاته فيه ، وأخرجها من جزءين كبيرين .
أما ذو النورين عثمان بن عفان رضی الله عنه ، حين أمر بنسخ الوثائق النبوية في المصاحف ، فقد أراد من محمد عبدالله دراز في بيانهما:
وفى رأينا أن نشر المصحف بعنايه عثمان كان يستهدف أمرين :
أولهما : إضفاء صفة الشرعية على القراءات المختلفة التی كانت تدخل في إطار النص المدون – يعني المصحف – ولها أصل نبوى مجمع عليه ، وحمايتها فيه منعا لوقوع أي شجار بين المسلمين بشأنها لأن عثمان كان يعتبر التمارى( أي الجدال ) في القرآن نوعا من الكفر.
ثانيهما : استبعاد ما لا يتطابق تطابقا مطلقاً مع النص الأصلى ( الوثائق النبوية ) وقاية للمسلمين من الوقوع في انشقاق خطير فيما بينهم ، وحماية للنص ذاته من ای تحریف ، نتيجة ادخال بعض العبارات المختلف عليها نوعاً ما أو أي شروح يكون الأفراد قد أضافوها الى مصاحفهم .
هذه هي عناية المسلمين من الرعيل الأول بالقرآن الكريم. وتعدد قراءاته ، وحماية كتاب الله من كل دخيل على نصوص الوحي الإلهى .
هذا وإذا كان جولد زيهر ، وآثر جيفري المبشر الإنجليزى، وجان بيرك قد أجهدوا أنفسهم في أن يتخذوا من قراءات القرآن منقذا للانقضاض عليه ، والتشكيك فيه ، فإن غيرهم من المستشرقين شهدوا للقرآن بالحق.
ونختم ردنا على هذه الشبهة بمستشرق نزيه، أثني على القرآن وقال إنه النص الإلهي الوحيد الذي سلم من كل تحریف وتبديل ، لا في جمعه، وفي تعدد مصاحفه ، ولا في تعدد قراءاته .
قال المستشرق لوبلوا : ( إن القرآن هو اليوم الكتاب الرباني الوحيد ، الذي ليس فيه أي تغير يذكر) كلاما طيباً في الثناء على القرآن ، وهو : ( إن المصحف الذي جمعه عثمان ، قد تواتر انتقاله من يد ليد حتى وصل إلينا بدون تحريف ، ولقد حفظ بعنايه شديده ، بحيث لم يطرأ عليه أي تغيير يذكر، بل نستطيع أن نقول إنه لم يطرأ عليه أي تغيير على الإطلاق في النسخ التي لا حصر لها ، المتداولة في البلاد الإسلامية الواعية ، فلم يوجد إلا قراّن واحد لجميع الفرق الإسلاميه المتنازعة وهذا الاستعمال الإجماعى لنفس النص المقبول من الجميع حتی اليوم ، حجة ودليل على صحة النص المنزل الموجود معنا و الذي يرجع إلى عهد الخليفة المنكوب ، عثمان الذى مات قتيلاً .