الشيخ الشعراوى: أمير الثقافة الدينية الشفاهية
أ. د. محمد فتحى فرج
تمر فى هذه الأيام الذكرى الثانية والعشرين لوفاة إمام الدعاة الشيح محمد متولى الشعراوى ـ طيب الله ثراه (1329ـ 1419 هـ ؛ 1911ـ 1998م) ، وأجزل الله له العطاء ، كِفاء ما أدى لوطنه وأمته ودينه. فقد آثر الرجل جوار ربه ، ورحل عن دنيانا الفانية فجر الأربعاء: الثانى والعشرين من صفر 1419 هـ الموافق للسابع عشر من يونيو 1998.
وبرغم مرور هذه السنوات العشر ، التى طرأت خلالها متغيرات كثيرة ، وتبدلت فيها أحوال الدنيا ، وتلاشت قيم وحلت محلها قيم أخرى ، أقول برغم كل ذلك فلازال الرجل ـ يرحمه الله ـ ملء السمع والبصر والفؤاد ، ولازالت أحاديثه تمتع الملايين ، لاسيما بعد انتشار البث الفضائى ، الذى تعددت قنواته وأصبحت بالمئات ، فى أثير الدنيا كلها ، ليصل صوت الحق إلى كل مكان من عالمنا ، الذى أصبح الآن ، بفضل تقنيات الاتصال هذه ، أصغر بكثير مما عهدناه فى الماضى القريب!
الشعراوى والثقافة الشفاهية:
وقبل كل شىء نود أن نوضح المقصود بالثقافة الشفاهية ، وهى الثقافة التى تتم عن طريق المخاطبة بالكلام والحديث ، فيقال شافهه مشافهة وشفاها أى: خاطبة موجها حديثه إليه ، وبنت الشفة يُقصَدُ بها الكلمة. وكنا ـ صغارا ـ نقرأ فى الروايات والقصص: لم ينبس ببنت شفة ، أى: صمت ولم يتكلم ، وعلى هذا نخلص إلى أن المقابل الذى نعنيه بالثقافة الشفاهية oral هو الثقافة الكتابية written.
ولاشك أن لكل عصر ملامحه وخصائصه التى تفرض نفسها ، طبقا لسياق التطور العام ، وهذه سنة الله فى خلقه الذى يغير ولا يتغير ، فليس ثمة شىء ثابت أو دائم مما خلقه الله من مفردات هذا الكون ، وهذا هو تقدير العزير الحكيم. وقد تعرفنا أول ما تعرفنا على الشيخ الجليل فى أوائل السبعينات من القرن الماضى ، من خلال حوار معه ، فى برنامج تلفازى شهير ، كان يقدمه الإعلامى الراحل أحمد فراج ـ رحمه الله ـ هو برنامج “نور على نور” ، وكانت المناسبة الاحتفال بذكرى “الإسراء والمعراج” ، صلى الله على من أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، وفك الله ـ تعالى ـ أسر المسجد الأقصى من قبضة أكثر شرار الخلق طرا.
ومنذ الوهلة الأولى ، فوجئت ، وأحسب أنه قد فوجئ الكثيرون غيرى ، من مشاهدى هذه الحلقة ، بخطاب جديد علينا ، وتركيبة لغوية لم تألفها الأذن ، على كثرة ما كانت تسمع وتتابع ، رغم إن المفردات هى المفردات ، وقواعد اللغة لا تزال كما هى ، لم تتغير أو تتبدل. هذا ، إلى غزير علمه المتدفق ، وكثرة محفوظه ، مع امتلاك لا يبارى من ناصية اللغة ، التى كانت تتدفق عباراتها ، كنهر سلسل يفيض غزارة وعذوبة ورواء ، لا يشبع منه السامع أو يَمَل ، بل ويتمنى لو امتد البرنامج الساعات تلو الساعات ، فالرجل يتدفق حديثه وكأنه ينهل من نبع لا ينضب معينه. وهكذا انتهى البرنامج ، ولم ينته الحديث ، أحس ذلك المشاهدون ، وكذا مقدم البرنامج ، الذى كان يطمح إلى تسجيل وتقديم حلقة واحدة ، لرجل لا يعرفه معظم الناس من المشاهدين ، إلا أنه أحس مع ملايين المشاهدين ، أن الحديث لم ينته بعد ، ولا ينبغى أن ينتهى هكذا ، فتواصلت الحلقة وامتدت إلى عدة حلقات ، وهكذا عرف الناس من هو الشيخ الشعراوى؟
كان التليفزيون ـ حقا ـ هو الأداة التى عرفنا من خلالها الشيخ الجليل ، وكان حديثه هو جواز عبوره إلى قلوب وعقول الملايين ، الذين أحبوه وأعجبوا به وأصبحوا من مريديه بعد ذلك ومنهم كثير من المثقفين والفنانين والسياسيين وعامة الناس. وليس هذا بعجيب أو غريب ، فقد جاء الشيخ فى اللحظة المناسبة ، التى كان يسيطر فيها هذا الصندوق العجيب ، ويطغى على كل ما سواه من وسائل التثقيف والإعلام كالكتاب والدورية والصحيفة اليومية ، وحتى الراديو ، ذلك الفارس الذى أخذ بمجامع القلوب لفترات طويلة ، ولكن كما قلت فلكل وقت أدواته ووسائله وتقنياته ، والحق أن الرجل قد أدرك جيدا ما لهذه الأداة الإعلامية من خطر عظيم وسطوة هائلة ، فوضع نفسه فى المكان اللائق ، الذى يستأهله مثله كرجل مسئول عما يقدمه من علم ودين لبحر خضم من البشر ، مختلفى المشارب والثقافات والأهواء.
ولقد عرفنا قبله كبار كتابنا ومفكرينا ، على المستوى الدينى والأدبى ، من خلال الكتاب والدورية أو المجلة الثقافية أو من خلال الصحيفة اليومية ، وأحيانا من خلال المذياع أو الراديو ، فكانت كتب الشيخ محمد عبده فى التفسير وغيره من دروسه الثمينة كرسالة التوحيد وكتابه “الإسلام دين العلم والمدنية” وغيرها ، وكتب الأستاذ العقاد ككتابه ” الله ” و “الفلسفة القرآنية” والعبقريات ، وغيرها من كتبه على تنوعها الشديد ، كما كانت أيضا إسلاميات الدكتور طه حسين وأدبياته ، التى تعد نماذج فريدة للأدب الراقى الرفيع ، وإسلاميات الدكتور محمد حسين هيكل ، مثل ” حياة محمد” و ” فى منزل الوحى” وغيرها من الكتب الإسلامية والأدبية ،ة كل هذه الآثار كانت مما قدم هؤلاء الأعلام إلينا خير تقديم.
كما تعرفنا أيضا على الداعية الإسلامى الكبير الشيخ محمد الغزالى ـ رحمه الله ـ من خلال كتبه الكثيرة ، فى شتى المناحى التى تهم المسلم فى دينه ودنياه ، بأسلوب أدبى رفيع ، إلى غيره من القمم الثقاة كالشيخ مصطفى المراغى والشيخ مصطفى عبد الرازق والشيخ محمود شلتوت والدكتور عبد الحليم محمود وغيرهم كثيرون ، أقول تعرفنا إليهم من خلال ثمرات المطابع ، وليس بالطريق الشفاهى المباشر كما تعرفنا إلى الشيخ الشعراوى ، لاسيما وأن الشيخ آثر أن يكون إنتاجه على هيئة محاضرات وأحاديث بشكل مباشر ، والمحاضرات تستوجب حضور من تحاضرهم ، والأحاديث لابد وأن يُتَوجه بها إلى الناس بشكل مباشر. هذا إلى شىء آخر مهم ، وهو أن الشيخ مع إيثاره للمحاضرات والأحاديث لم يكن يهتم بكتابتها وإخراجها على هيئة كتب ، فهذه تستوجب المراجعة وإنفاق الوقت والجهد ، الذى يريد أن يصرفه على تعليم الناس ، والدعوة إلى الله كما كان يفعل السلف الصالح ـ رضوان الله عليهم.
وهكذا تدور الأيام ، وتعود طريقة بث العلم ونشره ، مثلما كان يفعل القدماء من مشايخنا الأجلاء ، الذين كان يطلق عليهم مشايخ الأعمدة ، كما يحدثنا عنهم الدكتور طه حسين فى كتابه الممتع “الأيام”.
علم غزير:
والعجيب أن الشيخ كان يُطوِّف بالسامع أو المشاهد فى مناحٍ شتى من نواحى العلم والمعرفة ، التى تتكامل فى شكل بديع عند الرجل ، ولا تشعر معها أنه يقحمها إقحاما فى الحديث ، فعلى الرغم من أن معظم ما قدمه إلى الناس هو دروس التفسير ، إلا أنه فى أثناء ذلك كان يُعرِّج على قضايا علمية ومجتمعية كثيرة ، ويدخل فى مناقشات مسهبة لمسائل علمية فى الطب والكيمياء والفيزياء والتاريخ والجغرافيا والفلك ، وغيرها ، فضلا عن العلوم اللغوية المختلفة كفقه اللغة وأصولها ، والبلاغة والنحو والصرف ، وغيرها ؛ أما علوم القرآن والحديث والتشريع وغيرها ، فحدث ولا حرج!
إلا أن الرجل ـ يشهد الله ـ لم يكن يستعرض فى ذلك علمه على الناس استعراضا ، إنما كان يستخدم كل هذه العلوم والمعارف والحقائق العلمية ، لخدمة التفسير وتجلية المعنى ، لتقريبه للسامع المعاصر ـ لاسيما ونحن فى عصر العلم والتخصص ـ كأفضل وأحسن ما يكون ؛ ومن ثمَّ ، فقد تعرَّض الشيخ لقضايا علمية غاية فى الخطورة لموقعها العميق والدقيق من النفوس العلمية ، التى تعرف التجربة والنظرية والتطبيق ، والتى يتعذر إقناعها بغير تجربة واضحة الخطورة ، جلية التوازن ، بيِّنة التكوين ، فتحدث عن تكوين الموجودات من إنسان ونبات وحيوان ، وعزى كل هذه الأشياء بما فيها الجماد إلى أصل واحد(1).
يقول عنه العالم الطبيب الدكتور إبراهيم بدران ، الذى كان مجلسه بجواره فى مقعد الوزارة بدءا من أكتوبر 1976 ، صلة روحية وعلاقة فى الله وللوطن ، وصلت إلى محبة واحترام وإعجاب ، يقول الدكتور بدران: لقد كان ـ رحمه الله ـ بوتقة ربانية انصهر فيها الدين والإيمان والثقافة والمعارف مجتمعة : لغة وتاريخا وعلما ، مزيج فريد له مذاق خاص ، يجتاح القلوب ، وكان مدرسا موهوبا وداعية جذابا لكل من يستمع إليه ، فى سلاسة و ” خفة روح” وتعليقات مرحة ، يطلقها لتأكيد معنى يريد غرسه فى أسماع الناس ، ليعملوا به إن كان خيرا وليجتنبوه إن لم يكن كذلك (2).
وأخيرا نقول مع الدكتور بدران: رحم الله شيخنا وأستاذنا الشيخ محمد متولى الشعراوى عالما لا يجود الزمان بمثله ، داعيا إلى الله بإذنه وفضله وقرآنه ، محققا المحبة بين أهل وطنه وإن اختلفت عقائدهم ، ومؤكدا الوسطية المعتدلة التى دعا إليها الإسلام فى كتاب الله وسنة رسوله(3).
الهوامش والتعليقات:
- د. السيد الجميلى (1981) . الشيخ الشعراوى : عالم عصره . مكتبة الثقافة الدينية . ص 49.
- د. إبراهيم بدران (1998). ذكرى محاسن الأفذاذ تتحول إلى عزاء للنفس. مقال للدكتور بدران ، أورده الأستاذ محمد زايد فى نهاية كتابه عن الشيخ بعنوان : مذكرات إمام الدعاة. دار الشروق ، القاهرة ، ص 133.
- المصدر السابق ، ص 134.