“وقفة مع مصابي كورونا”
بقلم: د. علي عثمان شحاتة
الاستاذ بجامعة الأزهر الشريف
فكرت كثيرا في كيفية التعامل مع مصابي فيروس كورونا، هل نعتبرهم ضحايا أم جناة؟من منطلق تعاملاتنا معهم، وتعاملهم هم مع المرض، ورأيت أنه ينبغي الإشارة هنا إلى عدة وقفات أوجزها فيما يلي: الوقفة الأولى: أن لا أحد يضمن لنفسه السلامة من هذا الوباء، فالكل معرض للإصابة بأي سبب من الأسباب، والله سبحانه وتعالى يقول: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} سورة الحديد: 22.
فإذا كتب الله لك السلامة فاحمد الله على ذلك، وليكن شكر الله على ذلك أن تساعد الآخرين وأن تسهم – في حدود ما تستطيع- في رفع المعاناة عنهم. الوقفة الثانية: هذا الوباء قاتل أودى بحياة الكثيرين على مستوى العالم، والمريض الذي ثبتت إصابته يعيش- في كثير من الأحيان- وهم انتظار الموت، وهو في هذه الحالة يحتاج إلى عون ومساعدة ولو بالكلمة، أو بالمشاعر الطيبة، أو بالدعاء له، طبعا مع أخذ كل أسباب السلامة – وهي كثيرة والحمد لله- وأقول إن أداء هذا الواجب للمريض قد يكون سببا، لنجاته وشفائه، وقد يكون سببا للمعافاة والنجاة من هذا المرض -بإذن الله تعالى- لهؤلاء الذين ساعدوه، ومن العيب الكبير والظلم البين أن يُترك المريض لمصيره، وما سمعناه وقرأناه عن حالات كثيرة، يَترك فيها الأبناء آباءهم، والزوج زوجته؛ دون طعام أو دواء، أو حتى كلمة طيبة، هذه مظاهر سيئة لا ينبغي أن تظهر في مجتمعاتنا الإسلامية، بل حتى تتناقض مع كل المشاعر الإنسانية، فأين عقولنا، بل أين قلوبنا!!
الوقفة الثالثة: مع المريض ذاته، عليه أن يكون حريصا على أهله وأقاربه وجيرانه وكل من حوله، بأن يعزل نفسه ويبتعد عنهم – قدر الإمكان- فلا ضرر ولا ضرار، ولا شك أن التباعد الجسدي لا يعني القطيعة أو التنافر أو أي مظهر آخر مما نراه في حياتنا، فهي مسئولية مشتركة بين المريض والمحيطين به، هو يخشى عليهم، وهم يطلبون له السلامة والعافية بالقول والفعل؛ فإذا قدر الله السلامة فهذا ما نرجوه ونسأل الله إياه، وإذا قدر الله شيئا آخر نسلم لأمره ونرضى بقضائه، ونبتهل إلى الله أن يعافي المرضى، ويرحم الأموات برحمته التي وسعت كل شيئ.
الوقفة الرابعة: ينبغي أن تتغير ثقافة الوقاية والوعي بمخاطر الأوبئة في مجتمعاتنا، في كثير من البلاد يخشى الناس لبس الكمامة وترك المصافحة بالأيدي؛ لأن الآخرين سيتندرون عليهم ويسخرون منهم، ويتهمونهم باتهامات كثيرة أقلها: أن هذا متكبر، أو أنه مصاب، أو غير ذلك، ولا يعلمون أن هذه الأشياء هي أقل ما يمكن فعله في زمن الأوبئة.
عرف ذلك سلفنا الصالح قبل أن يعرفوا وسائل التواصل الرهيبة في عصرنا؛ فعن سعد بن مالك، رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الطاعون: “إذا كان بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها، وإذا كان بأرض ولستم بها فلا تدخلوها” قال البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة 2/ 422 رواه أبو داود الطيالسي ورجاله ثقات، فاتخاذ أسباب الوقاية والسلامة هو من العقل والمنطق، بل من الشرع والدين.
الوقفة الخامسة: هي ما يمكن أن تتعلمه البشرية من انتشار مثل هذا الوباء، وما يمكن أن نتعلمه نحن كأفراد، فعلى المستوى العالمي، ينبغي أن تنفق البشرية من المال والجهد العلمي والتقني ما يمكنها في المستقبل من مواجهة مثل هذه الأوبئة والأمراض القاتلة، وعلى مستوى الأفراد، فيزداد يقيننا فيما أخبرنا الله تعالى به من أن الدنيا قصيرة، ومتاعها قليل، وهي متاع الغرور، قال تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} آل عمران: 185.
فالدنيا إذن متاع الغرور، فمتاعها زائل، وهو إلى جانب سرعة انقضائه وزواله قليل، قال تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} النساء: 77. كل هذه الحقائق أكدها ورسخها هذا الوباء، بل وأعاد التفكير فيها بجدية واقتناع وواقعية.
ولا شك أن هذا لا يعني الاستسلام للمرض، أو الاستهانة به، فالمؤمن يأخذ بالأسباب، ويرضى بقضاء الله تعالى وقدره، وليعلم أن{ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } التغابن: 11
أسأل الله تعالى بمنه وكرمه، أن يرفع عنا الوباء والبلاء وسائر الأسقام، وأن يعافي المرضى، ويرحم الأموات، إنه تعالى أكرم مسئول وأعظم مأمول، وهو حسبنا ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين.