إنها مصر التي كرَّمها الله
بقلم الدكتور/ أحمد على سليمان
عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية
شرَّف اللهُ (عز وجل) مصر، وكرَّمها، وجعلها كنانته في أرضه، ووهبها مكانة سامقة إلى يوم الدين، فهي أم البلاد، وغوث العباد، وعلى الرغم من أن مصر تعرضت عبر تاريخها المديد لحروب وضغوط واستعمار ومحاولات استلاب من أعدائها ومن الطامعين فيها والمتربصين بها، فإنها لا تزال تعيش وتقاوم وستظل.. تتقلص حينًا، لكنها ما تلبث أن تنتفض عزة وكرامة وحضارة، تتآمر بعض الأنظمة عليها بعد أن أدبرت عنها، لكنها أيضا تفاجئ الدنيا ببنيها وقادتها وجيشها الأبي يصححون الأخطاء ويرتفعون بها إلى عنان السماء.
عجيبة هي مصر!! في ضعفها وقوتها وهبوطها وارتفاعها، والتفاف الناس حولها وانصرافهم عنها، وعجيبة في صلابة أهلها، وقوة نسيجها، ومتانة مكوناتها الثقافية والدينية والحضارية.. عجيبة تلك التي علَّمت الدنيا الحضارة وأضاءت مشاعل النور، ونشرت العلوم والآداب والفنون في كل مكان..
نعم.. إنها مصر التي استبقاها الخالق العظيم وسط العواصف شامخة..
إنها مصر الكنانة التي اختصها الله تعالى بخصائص فريدة لم تكن لغيرها… إن المتأمل في مظاهر تكريم الله تعالى لها ليرى:
- أن مصر هي البلد الوحيد الذى ذُكر فى القرآن الكريم أربع مرات صراحة؛ إذ قال تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (يونس: ٨٧)، وقال: (وَقَالَ الَّذِى اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِى مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا…) (يوسف: ٢١)، وقال سبحانه: (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) (يوسف: ٩٩). وقال: (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِى مِنْ تَحْتِى أَفَلا تُبْصِرُونَ) (الزخرف: ٥١). أما في قوله تعالى: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِى هُوَ أَدْنَى بِالَّذِى هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ…) (البقرة: ٦١)، فإن كلمة “مِصْرًا” جاءت بالتنوين، وهي قراءة الجمهور، قال ابن جرير: “.. ولا أستجيز القراءة بغير ذلك لإجماع المصاحف على ذلك”. وقال ابن عباس:” (اهْبِطُوا مِصْرًا) أي من الأمصار”. وبناء عليه لا تدل علي مصر الكنانة، وإنما تعني أي مدينة متحضرة في أي مكان، حيث جاءت مفعولا به منصوبا وهي منونة (مِصْرًا) وهو موضع واحد فقط. يقول ابن كثير: “والحق أن المراد: مصر من الأمصار، وليس مصر فرعون كما روي عن ابن عباس وغيره، والمعنى على ذلك؛ لأن موسى (عليه السلام) يقول لهم: الذي سألتموه ليس بأمر عزيز؛ بل هو كثير في أي بلد دخلتموه وجدتموه” كما جاء في تفسير ابن كثير.
وفي المواضع الأربعة الأخرى جاءت كلمة “مِصْرَ” ممنوعة من الصرف (أي غير منونة) ؛ لتدل علي (مِصْرَ) الكنانة، أي: الوطن الذي يعيش فيه المصريون. وهذه تفرقة لغوية دقيقة بين (مِصْرَ)، و(مِصْرًا).. ويسجل القرآن الكريم اعتراف اللغة العربية بعراقة مصر وحضارتها التي تضرب بجذورها طولا وعرضا وعمقا في أعماق التاريخ. والناظر في حال الأمم والدول التي ورد ذكرها في كتاب الله الخالد، يلحظ أن التاريخ طواها في وثائقه وجسَّد آثارها في متاحفه، وبقيت مصر معززة مكرمة مشرفة في كتاب الله الخالد.
- أن مصر ذُكرت بالتلميح كما ذُكرت بالتصريح في القرآن الكريم، في أكثر من ثلاثين مرة، وهو أمر لم يكن لأى دولة فى القرآن الكريم، وآيات التلميح لها مواطن كثيرة متفرقة، ومن ذلك قوله تعالى: (وَالطُّورِ. وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ) (الطور: ١-٢)، وقوله: (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ) (المؤمنون: ٢٠)، وقوله: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ . وَطُورِ سِينِينَ) (التين: ٢). وغيرها من الآيات.
- أن أغلب الآيات الكريمة التى ورد فيها ذكر مصر– تصريحًا أو تلميحا- تشع بالخير والبركة لهذا البلد الأمين، ومن بركاتها نهر النيل الذي نشأت على ضفافه حضارة شامخة، لا يزال إلى الآن لها طلع نضيد يحير الألباب.
- أن خليل الرحمن سيدنا إبراهيم (عليه السلام) عاش على أرضها وتزوج السيدة هاجر منها.
- ونشأ فيها نبي الله إدريس (عليه السلام)، وبعث ومات داعياً إلى التوحيد.
- ودخلها نبي الله يعقوب (عليه السلام) وأولاده، وسبقهم إليها نبي الله يوسف (عليه السلام) الذي أمضى حياته كلها فيها، فكانت له مقامًا طيبًا، وأتى بقومه جميعا من أرض فلسطين للإقامة فى مصر، قال تعالى (…ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ)، وجعلها الله سلة غذاء العالم وخزائن الأرض، وجاء إليها الناس من كل فج عميق؛ ليأخذوا نصيبهم من الغذاء، بفضل مشورة سيدنا يوسف الذي أنقذ مصر والعالم من المجاعة حينما ادخر القمح وخزَّنه فى سنابله (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلا قَلِيلا مِمَّا تَأْكُلُونَ) (يوسف: 47).
- وعلى أرضها ولد كليم الله سيدنا موسى وهارون (عليهما السلام)، وقد تجلى الله سبحانه فيها على موسى (عليه السلام)، وجعل محبته في قلوب الناس، قال تعالى: (..وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي..) (طه:39)، وكلَّمه الله وهو فى أرض مصر بطور سيناء. يؤيد ذلك علماء الجيولوجيا إذ يقولون: إن الجبال الموجودة حول الطور كلها متصدعة من خشية الله دون غيرها من جبال سيناء.
- وشرفت مصر بأن آوت سيدنا عيسى (عليه السلام) وأمه السيدة مريم ابنة عمران، وانتقلا منها معززين إلى القدس الشريف..
- وشاء الله تعالى أن تكون مكة البلد الحرام، ومصر بلاد الأمن والأمان، قال تعالى:(لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ) (الفتح:27). وقال: (…ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) (يوسف: ٩٩). وكلمة (آمِنِينَ) -كما قال د.خالد بدير في دراسته عن خصائص وفضائل مصر في ضوء القرآن والسنة- لم تأت في القرآن إلا في هذين الموضوعين ومن ثمَّ فقد خصَّ اللهُ مصرَ بما خصَّ به البلد الحرام من الأمن والأمان..
- أن مصر ذكرتُ على لسان سيدنا محمد (عليه الصلاة السلام)، فى أحاديث متعددة، حيث أوصى بالإحسان إلى أهلها؛ فقال (صلى الله عليه وسلم): (إنكم ستفتحون مصرَ، وهي أرضٌ يسمى فيها القيراطُ. فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلِها. فإن لهم ذمةً ورحمًا. أو قال: ذمةً وصهرًا) (أخرجه مسلم)، فالرحم هي أمنا هاجر أم أبينا إسماعيل عليه السلام، أما الصهر فهي السيدة “مارية القبطية” التي تزوجها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وأنجبت له ابنه إبراهيم.
- أن جند مصر هم خير أجناد الأرض؛ فهم وأهلها في رباط وحراسة للوطن والإسلام والعروبة إلى يوم الدين.
- أن مصر على الرغم من قوتها عبر التاريخ الإسلامي فإنها لم تكن معتدية أو غازية أبدا؛ بل كانت حامية للدين، وسندًا للعرب والمسلمين فى كل مكان، يقول الإمام ابن كثير في تاريخه:..فى عام الرمادة -والجوع والفقر يحاصران الأمة الإسلامية-كتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، لعمرو بن العاص حاكم مصر (رضي الله عنهما): “واغوثاه.. واغوثاه.. واغوثاه”، فقال عمرو بن العاص: “..والله لأرسلن قافلة من الأرزاق أولها فى المدينة، وآخرها عندى فى مصر”. كما شرَّفها الله بأن أرسلت كسوة الكعبة المشرفة على المحمل العظيم لألف عام.
- ومن مظاهر تكريم الله لمصر أنها استضافت كثيرًا من الصحابة الكرام، فقد دخلها في فتحها مائة رجل ونيف ممن صحب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، كما تشرفت بعيش عدد كبير من التابعين، وتابعي التابعين، وأولياء الله الصالحين فيها، ونشأ على أرضها الزهاد والعباد والعلماء والفقهاء والمصلحون، ووارى رفاتَهم الميمون ثراها الطاهرُ ليشرف بهم إلى يوم الدين.
- وقد حباها الله نهر النيل المبارك، الذي يعد مكرمة من الله لمصر، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ وَالْفُرَاتُ وَالنِّيلُ كُلٌّ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ) (رواه مسلم). قال الإمام النووي (رحمه الله): “وأما كون هذه الأنهار من ماء الجنة ففيه تأويلان ذكرهما القاضي عياض: أحدهما: أن الإيمان عمَّ بلادَها، أو الأجسام المتغذية بمائها صائرة إلى الجنة. والثاني: وهو الأصح أنها على ظاهرها، وأن لها –أي الأنهار- مادة من الجنة” (شرح النووي)، وهكذا “كانت البساتين بحافتي النيل من أوله إلى آخره، ما بين أسوان إلى رشيد لا تنقطع، ولقد كانت المرأة تضع المِكتل على رأسها، فيمتلئ مما يسقط به من الشجر” كما قال د. محمد موسى الشريف في بحثه فضائل مصر ومزايا أهلها. وهذا النيل هو سر حضارتها ورقيها وهو النهر الوحيد فى العالم الذى ذكر وصفه فى القرآن على لسان فرعون، قال تعالى: (أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِى مِنْ تَحْتِى)، وقد حافظ عليه القدماء وقدَّسوه واعتبروا تلويثه جريمة وجناية.
- ومن عظيم منح الله لمصر أن الله تعالى حباها الأزهر الشريف –قبلة العلم وشعاع النور- الذى أرسل علماءه إلى كل بقاع الأرض، وجاء إليه الدارسون من كل فج عميق؛ لينهلوا من معينه الطاهر الذي لا ينضب ولن ينضب بإذن الله. يقول الدكتور إبراهيم الهدهد: “يقوم التعليم في الأزهر الشريف على مرتكزات ثلاثة ليست متوفرة في أي مؤسسة تعليمية في العالم أجمع، المرتكز الأول: أن الأزهر الشريف يعلم أبناءه علوم المنقول أي القرآن والسنة. والثاني: يعلمهم علوم المعقول كعلوم الآلة التي تدرب الطالب على حسن الفهم، فيفهم الطالبُ الأزهري النصَّ فهومًا متعددةً لا متعالية. أما مَن رُبِّيَ على علوم المنقول وحدها، فليس أمامه إلا فهم واحد لا يحيد عنه؛ فيُخَطِّئ غيرَه، بل يكفر غيرَه، وليس هذا في الأزهر الشريف، والثالث: أن الأزهر الشريف يُدَرِّس لأبنائه –إضافة إلى العلوم الشرعية والعربية- ما يدرسه أندادُهم تمامًا من المواد الثقافية والعلمية والكتب التي تصدرها وزارة التربية والتعليم في المرحلتين الإعدادية والثانوية؛ فينشأ الطالب الأزهري رشيدًا، لا يخاصِمُ العقلُ عنده النقلَ، ولا يخاصِمُ الدينُ عنده الدنيا، ومِن هنا وُجِد التنوعُ المذهبي.. وُجِد قبولُ الآخرِ في مصر.. كما أننا نجدُ في البيتِ الواحدِ مَن يتعبد ربَّه على المذهبِ الحنفي، وآخر على المذهبِ الشافعي، وثالث على المذهبِ المالكي، دون أن يُثَرِّبَ أحدٌ على أحدٍ، ودون أن يُخَطِّئ أحدٌ أحدًا… وهكذا فالأزهر الشريف يربي أبناءه على هذا المنهج الرشيد. ويرتكز إلى أكثر من ألفِ عام.. وقد قبله العَالَمُ كلُّه، ومن ثم فهو قبلةٌ علميةٌ لشتى شعوب العالم.. ائتوني بمؤسسةٍ علميةٍ في العالمِ فيها هذا الزخم وهذا النور الكبير.. والأزهرُ الشريفُ وخريجوه في قرى مصر والعالم وفي مدن مصر والعالم، يلجأ إليهم الناسُ من كل صوبٍ وحدبٍ، يحتمونَ بهم، ويستهدون بهديِهم”.
ولا يزال عطاء الأزهر –جامعا وجامعة– متواصلا وفياضًا ومستمرًا ببعثاته الخارجية ووفوده الثقافية التي تقصد شتى دول العالم، وكذلك بمعاهده الممتدة وبمراكزه الثقافية والدعوية المنتشرة في كثير من الدول الأوروبية والأمريكية والآسيوية والإفريقية. ويدرس في الأزهر الشريف حوالي المليونين والنصف مليون من الطلاب: في المعاهد الأزهرية مليونا طالب، وفي جامعة الأزهر نحو نصف مليون طالب، منهم أربعون ألف طالب وافد من ست ومائة دولة حول العالم يدرسون في المعاهد والجامعة.
- لذلك -وكثير غيره من مظاهر تكريم الله لها- كانت مصر مثار إعجاب العباقرة عبر التاريخ، قال عنها الكندي في كتابه فضائل مصر المحروسة: “قد فضَّل اللهُ مصر، وشهد لها في كتابه بالكرم وعظيم المنزلة؛ وذكرها باسمها وخصَّها دون غيرها، وكرر ذكرَها، وأبان فضلها في آيات من القرآن العظيم”، وها هو أمير الشعراء أحمد شوقى يقول عنها:
وطنى إن شغلت بالخلد عنه … نازعتنى إليه فى الخلد نفسى
وقال نابليون بونابرت ممتدحا قوة مصر: “لو كان عندى نصف هذا الجيش المصرى لغزوت العالم”، ولما زارها العلامة الهندي أبو الحسن الندوى قال لأهلها: “أنتم الأساتذة ونحن الطلاب.. أنت القادة ونحن الجنود”..
وصدق الشاعر الحكيم حين قال:
مِصرُ الكنانةُ ما هانتْ على أحدٍ … الله يحرُسُها عطفاً ويرعَـــــــــــاها
ندعوك يا رب أن تحمي مرابعها … فالشمس عين لها والليل نجوَاها
والسنبلات تصلى في مزارعها … والعطر تسبيحا والقلب مرعاها
فهنيئا لمصر وأهلها هذا التكريم من الله العليّ العظيم.