بقلم/ علي عطا
اعتزاز إيزابيل الليندي بكونها “ناشطة نسوية”، يفوق اعتزازها برواياتها التي تُرجمت إلى لغات شتى وتعدّ من الأكثر مبيعاً على مستوى العالم، كما أنّها تضعها بشكل دائم على لائحة المرشحين لنيْل جائزة نوبل في الآداب.
على الأقل، هذا ما يمكن أن يطلُع به قارئ كتابها “نساء روحي: عن الحب المتلهف، والعمر المديد، والساحرات الطيبات” (دار الآداب/ بيروت- مكتبة تنمية / القاهرة. ترجمة مارك جمال). ولم يوضح المترجم لماذا ترجم The Soul of a woman إلى “نساء روحي”، مع أنّ الأدق هو “روح امرأة”.
ربما أراد ألاّ تكون ترجمته حرفية، وآثر أن يكون العنوان بالعربية معبّرًا عن نساء ارتبطت بهن الليندي روحيًا، ورأت فيهن نماذج للنضال النسوي.
الكتاب هو سيرة ذاتية جديدة لصاحبته المولودة في 1942، ولكن من زاوية نسوية بالأساس، ومن منطلقاتها في هذا الصدد معارضتها قول الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث (1932 – 1963) التي ماتت منتحرة وهي في ريعان شبابها، إنّ مأساتها الكبرى هي أنّها ولدت امرأة. تقول الليندي: “ولادتي امرأة تمثل نعمة. كلما طال عمري زاد سروري بانتمائي إلى جنسي، ولاسيما لأني أنجبت باولا ونيكولاس”.
وتضيف أنّها تمنت في صغرها لو أنّها كانت رجلًا؛ “إذ بدا لي أنّ المستقبل الذي ينتظر شقيقيَّ أجدر بالاهتمام من ذلك الذي ينتظرني”.
وفي السياق ذاته، تلاحظ صاحبة رواية “ابنة الحظ” أنّه كانت هناك قاعدة واسعة الانتشار في تشيلي تقضي على البنات بخدمة رجال العائلة؛ “في الوقت الراهن، يشارك نيكولاس مشاركة فعّالة في إدارة مؤسستي، ويرى عواقب الذكورية يومياً ويعمل في سبيل التخفيف منها”. أما في الماضي، فقد “ساد تشيئ المرأة، إلى حدّ يسمح له باستعبادنا ونحن في طور الشباب”.
وعلى أية حال، فإنّ كتابها “نساء روحي” ليس الأول في سياق حرص الليندي على كتابة مذكراتها، فقد سبقه “بلدي المخترع” 2003، و”حصاد الأيام” 2008، كما انعكست سيرتها الذاتية والعائلية في روايات عدة لها مثل “باولا” و”فيوليتا”.
مرأة مختالة
ترى الليندي أنّه “يصعب التقدّم في العمر على المرأة المختالة مثلي”، مشيرة في هذا السياق إلى أنّ الشعور بأنّها مرغوبة يلائمها، وتسأل: “هل يتعارض ذلك مع النسوية؟”، ثم تجيب: “كل ما هنالك أنّ مظهري يُدخل على نفسي سرورًا. إنّها طريقتي في تحدّي الشيخوخة. الإيحاء يصنع المعجزات”.
وهنا تتذكر أنّه في عام 1987 خلال جولة أدبية، تعرّفت إلى ويليام غوردون، وهو محامٍ من كاليفورنيا، “فلم أتردّد في هجر بيتي في كاراكاس وانتقلتُ للعيش معه بلا متاع، ومن دون أن يدعوني إلى ذلك. بعد قليل تدبّرتُ حالي كي أرغم “ويلي” على الزواج مني، إذ كنت في حاجة إلى تأشيرة تسمح لي بدعوة ابنيّ إلى الولايات المتحدة”. في عام 2016 تعرفت إلى روجر كوكراس، وتوقعتْ أن يصبح زوجها الثالث!
تؤمن الليندي بأنّ تحرّر المرأة لا يتناقض والأنثوية، بل إنّه يكملها، وتقول صاحبة رواية “بيت الأرواح”: “طوال حياتي أثبتُ أني رومانسية عصيّة على الشفاء، ولكن رومنطيقية الأدب تمثل تحدّيًا هائلًا في وجهي. في عام 2015 عندما انفصلتُ عن زوجي الثاني ويلي، بعد ثمانية وعشرين عامًا من الحياة المشتركة، قرّرت العيش وحيدة في بيت صغير، لأنّ الزواج مرّة أخرى، من رجل عجوز تستحوذ عليه الهواجس والمتاعب الكثيرة، بدا لي وكأنّه كابوس. عند النساء يتضاءل الشغف الجنسي أو يختفي بالتقدّم في العمر، ما لم نقع في الغرام. لقد تدرّبت على مدى أعوام لأصبح عجوزًا شغوفة، مثلما يتدرّب آخرون على تسلّق الجبال أو خوض منافسات الشطرنج”.
كائنات خفيّة
كانت إيزابيل الليندي، التي تعيش في الولايات المتحدة الأميركية منذ العام 1988، في الخمسين من عمرها عندما فقدت ابنتها باولا، وفي كتابها “نساء روحي” الصادر وهي على عتبة الثمانين، باتت على قناعة بأنّ “وحده العمر يحرّرنا عندما نغدو كائنات خفيّة، ولا نعود مثارًا للشهوة”، أو “حين تضربنا مأساة فتهزنا من الأعماق وتضعنا أمام جوهر الوجود وجهًا لوجه”، في إشارة إلى مأساة فقدها ابنتها باولا. هي من الجيل الذي تخيَّل أهم ثورة في القرن العشرين ودفعها إلى الأمام، “ربما أمكن الزعم بأنّ الثورة الروسية التي اندلعت في 1917 كانت هي الأبرز، ولكن ثورة النسوية أشدّ عمقًا وأطول عمرًا، تركتْ أثرًا في نصف البشرية وامتدت حتى شملت الملايين والملايين من الأشخاص ولمستهم، بل إنّها تعدّ هي الأمل الأكثر رسوخًا في إمكانية استبدال حضارة أخرى أكثر تطورًا بهذه الحضارة التي نعيش فيها” ص 21.
تقول عن أمها بانتشيتا، إنّها هربت من القالب المعتاد للسيدات في محيطها، فغرست في نفسها بذرة التمرّد وهي لا تدري. لكن يظل أنّ الأم لم تستطع أن تعيش الحياة التي كانت تفضّلها – في الحقل محاطة بالحيوانات بينما هي ترسم وتتنزه فوق التلال -وإنما أذعنت لرغبات زوجها الذي كان يقرّر وجهته الدبلوماسية من دون الرجوع إليها في بعض الأحيان، ويفرض عليها نمط حياة جماعياً”. أما إيزابيل فقد استقلت بذاتها منذ كانت في ريعان الشباب… “بدتْ النسويةُ لأمي، التي تكبرني بعشرين عامًا، يوتوبيا محفوفة بالأخطار، من شأنها أن تدمّرني في خاتمة المطاف”. وتضيف الليندي: “في الخامسة عشرة من عمري نأيت بنفسي عن الكنيسة إلى الأبد، لا مدفوعة بعدم الإيمان بالرب – الشيء الذي أتى في وقت لاحق – وإنما بسبب الذكورية المتأصّلة في كل تنظيم ديني”!
نساء في حياتها
حين بات معروفًا أنّ شاميلا، الفتاة الباكستانية التي كانت تزامل إيزابيل في مدرسة داخلية في لبنان، قد أُرغمت، من قِبل والدها على الزواج من شخص يكبرها بثلاثين عاماً، قال لها رامون: “كوني ممتنة لأنك لا تعيشين في ذلك الواقع”.
ورامون هو والد أم إيزابيل، وقد نشأت في كنفه وتنقّلت معها ومع أمها في غير بلد، نظرًا لعمله في السلك الدبلوماسي. أما ستيفاني سنكلير، فقد كرّست جزءًا كبيرًا من حياتها لتوثيق الأمر من خلال الصور الفوتوغرافية التي تلتقطها لبنات تزوَّجن قسرًا برجال في عمر آبائهن أو أجدادهن، وأخريات صرن أمهات وهن في سن البلوغ، وأجسادهن لم تستعد للحمل والأمومة بعد.
تسأل الليندي: “من يقرّر ما تفرضه التقاليد والثقافة؟”، وتجيب متذكرة كتاب “الجنس الآخر” لسيمون دي بوفوار: “الرجال، طبعًا، أما النساء فيتقبلن من دون جدال”. وتضيف: “كان تبشيري بالنسوية يدفعه إلى التوتر (تتحدث عن جدها) لا نسوية من دون صخب”.
ولد ميغيل، زوجُها الأول، لأُمٍ إنكليزية وجدٍ ألماني، “تعلّم حب بريطانيا العظمى والفضائل الفيكتورية التي كانت قليلة النفع في تشيلي. كنتُ في العشرين من عمري حين تزوجنا”. أنجبا باولا ونيكولاس، “تبدّل حالي عندما التحقتُ بالعمل صحافية في 1967 في مجلة “باولا” الأنثوية / النسوية. منحتْني هذه المجلةُ الفرصةَ كي أجعل من القلق الذي شقيتُ به منذ الطفولة أفعالًا”. كانت تكتب زاوية عنوانها “هذبي رجلك البدائي”؛ “فشعر عددٌ من القارئات بالتهديد؛ لأنّ تلك الزاوية تضرب أساسات العالم المنزلي الذي يعشن فيه”.
وترى الليندي أنّ “إليسا سومرز”، بطلة رواية “ابنة الحظ” أكثر بطلات كتبها الشغوفات، شغفًا، انطلاقًا من الاعتقاد بأنّ “الحياة الهادئة الآمنة ليست مادة جيدة للخيال”. وتقول الليندي إنّ جدّتها تنبأت لها بالحظ السعيد لأنّها ولدت وعلى ظهرها علامة تشبه النجم… “فكرتُ أنّ الأمر سوف يجعلني مميّزة، ولكن ثبتَ أنّه أمر شائع جدًا، ويزول بمضي الوقت. والآن صرت أتنزه بهدوء في منطقة البديهة، التي تبدو لي أصلح أجواء للكتابة”. ومعروف أنّ إيزابيل الليندي أصدرت روايتها الأولى “بيت الأرواح” عام 1983، وكانت وقتها تعيش في كاراكاس.
وترى الليندي أنّ وكيلتها الأديبة الراحلة كارمن بالسِلز، “كانت هي الأم الرؤوم للغالبية العظمى من كبار كُتّاب “البوم” وغيرهم المئات من كبار كتّاب اللغة الإسبانية”. وتضيف: “أنا مدينةٌ لها بما حقّقتُ في هذه المهنة الغريبة، مهنة الكتابة. وقفت كارمن بجواري في اللحظات الأكثر أهمية، بدءًا بمرض باولا، وصولًا إلى الزيجات والطاقات، وظلّت حاضرة على الدوام تدعمني دعمًا غير مشروط”. وتشعر الليندي بارتياح لأنّ الوكالة التي أسستها بالسلز ما زالت تعمل بلا تعثر تحت إدارة ابنها لويس ميغيل بالو مارس.