قرآنا يمشي على الأرض ( رسالة العدل ٢ )
كتب : محمود سالم
العدل من أسمى الصفات التي تتميز بها رسالة الإسلام فقد جعل الله العدل هو أساس كل شئ ، وما دخل الناس في دين الله أفواجا من مشارق الأرض ومغاربها عربها وأعجمها إلا أنهم أحسوا بالعدل والإنصاف في دين الله لا فرق بين غني وفقير ، بيض أو سود فالناس متساوون في حقوقهم وواجباتهم كأسنان المشط ، فقد وجدوا ضالتهم في دين يحميهم ويستظلون تحت مظلته العادلة تنتشلهم من ظلام العنصرية والسخرة والاستعباد ، لعل ما نتحدث عنه اليوم هو من أحد الأسباب الرئيسية للتزايد المستمر لمعتنقي الديانة الإسلامية حول العالم إلى اليوم ! ، فقد سأمت الإنسانية من التمييز والاستضعاف لعروق وألوان من بني آدم ، وقد حث الله عز وجل في محكم التنزيل على مفهوم العدل وأهميته وأثره في أكثر من موضع في القرآن الكريم .
قال عزَّ مِن قائل في كتابه العزيز ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ) [النساء:135].
يقول ابن كثير : يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوَّامين بالقسط، أي: بالعدل ، فلا يعدلوا عنه يمينًا ولا شمالًا، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا يصرفهم عنه صارف ، وأن يكونوا متعاونين متساعدين متعاضدين متناصرين فيه.
وقوله:شُهَدَاءَ لِلَّهِ كما قال ( وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ) [الطلاق: 2] أي: ليكن أداؤها ابتغاء وجه الله ، فحينئذ تكون صحيحة عادلة حقًّا ، خالية من التحريف والتبديل والكتمان ؛ ولهذا قال: ( وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ) ، أي: اشهد الحقَّ ، ولو عاد ضررها عليك ، وإذا سُئِلتَ عن الأمر فقل الحقَّ فيه ، وإن كان مضرة عليك ، فإنَّ الله سيجعل لمن أطاعه فرجًا ومخرجًا من كلِّ أمر يضيق عليه .
وقال سبحانه: ( فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) [الشورى:15].
يقول تعالى ذكره : وقل لهم يا محمد ؛ وأمرني ربي أن أعدل بينكم معشر الأحزاب ، فأسير فيكم جميعًا بالحق الذي أمرني به وبعثني بالدعاء إليه ، وعن قتادة قوله : ((وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ قال: أمر نبي الله صَلَّى الله عليه وسلَّم أن يعدل، فعدل حتى مات صلوات الله وسلامه عليه)) والعدل ميزان الله في الأرض ، به يأخذ للمظلوم من الظالم، وللضعيف من الشديد ، وبالعدل يصدق الله الصادق ، ويكذب الكاذب ، وبالعدل يرد المعتدي ويوبخه)
وقد مدح الله عز وجل من يقيم العدل ويعمل به في مواضع عدة ، قال عز من قائل ( وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ )[الأعراف:181].
قال ابن كثير : يقول تعالى ( وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ ) أي: ومن الأمم أُمَّةٌ قائمة بالحق، قولًا وعملًا يَهْدُونَ بِالْحَقِّ يقولونه ويدعون إليه ، وَبِهِ يَعْدِلُونَ يعملون ويقضون.
– وقال عزَّ مِن قائل ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) [النحل:76].
يقول الله تعالى: هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ يعني: هل يستوي هذا الأبكم الكلُّ على مولاه ، الذي لا يأتي بخير حيث توجَّه، ومن هو ناطق متكلم، يأمر بالحقِّ، ويدعو إليه، وهو الله الواحد القهار، الذي يدعو عباده إلى توحيده وطاعته، يقول: لا يستوي هو تعالى ذكره، والصنم الذي صفته ما وصف. وقوله ( وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) [النحل: 76] يقول : وهو مع أمره بالعدل، على طريق من الحقِّ في دعائه إلى العدل ، وأمره به مستقيم ، لا يعوج عن الحقِّ، ولا يزول عنه) .
وقد أرسى النبي صلى الله عليه وسلم قواعد العدل ومعالمه ، وعلم أصحابه تطبيق العدل ، فما أجل من من مواقفه وسيرته التي حرصت كل الحرص على الترغيب والحث على إقامة العدل وحذرت كل التحذير من الظلم وويلاته في الدنيا قبل الآخرة .
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال ( بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكارهنا ، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله ، وعلى أن نقول بالعدل أين كنَّا، لا نخاف في الله لومة لائم )
– وقال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ المقسطين يوم القيامة على منابر من نور، عن يمين الرحمن، -وكلتا يديه يمين- الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وَلُوا )
فالعدل واجب في كلِّ شيء ، لكنه في حق ولاة الأمور آكد وأولى وأعظم ؛ لأنَّ الظلم إذا وقع من ولاة الأمور حصلت الفوضى والكراهة لهم، حيث لم يعدلوا
– وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( سبعة يظلُّهم الله تعالى في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه: إمام عدل، وشاب نشأ في عبادة الله ، ورجل قلبه معلَّق في المساجد ، ورجلان تحابَّا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال ، فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدَّق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه )
قال ابن رجب: (وأول هذه السبعة: الإمام العادل: وهو أقرب الناس من الله يوم القيامة ، وهو على منبر من نور على يمين الرحمن ، وذلك جزاء لمخالفته الهوى، وصبره عن تنفيذ ما تدعوه إليه شهواته وطمعه وغضبه ، مع قدرته على بلوغ غرضه من ذلك؛ فإنَّ الإمام العادل دعته الدنيا كلها إلى نفسها ، فقال : إني أخاف الله رب العالمين ، وهذا أنفع الخلق لعباد الله، فإنه إذا صلح صلحت الرعية كلها، وقد رُوي أنَّه ظلُّ الله في الأرض؛ لأنَّ الخلق كلَّهم يستظلون بظلِّه، فإذا عدل فيهم أظلَّه الله في ظلِّه .
ومن أكثر صحابتنا الكرام الذين ذاع صيتهم بالعدل في أرجاء الأرض عمر بن الخطاب وفي هذه القصة وهذا الحدث، كان عمر بن العاص أميرًا على مصر، وكان قد ولاه عمر بن الخطاب، ليقوم بمتابعة شؤون العباد وتحقيق مصالحهم، والقصة ابتدأت عندما أجرى عمرو بن العاص سباقًا للخيول، فيظهر كلّ من في مصر مهاراته في الفروسية، ومن ضمن الذين تقدموا للسباق، ابن عمر بن العاص، واسمه محمد، وفي نهاية السباق كان خيل المصري قد سبق خيل ابن العاص، فغضب لنفسه، وضرب المصري بالسوط وقال: خذها وأنا ابن الأكرمين، فما كان من المصري إلا أن يذهب إلى أمير المؤمنين يشكو مظلمته، ليردَّ له حقه، فأتى عمر بن الخطاب بأمير مصر عمرو بن العاص وولده.[١] فأمر ابن الخطاب المصري أن يضرب ابن عمرو بن العاص بالسوط الذي ضُربَ فيه بمصر، وقال: دُونَكَ الدِّرَّةُ فَاضْرِبْ بِهَا ابْنَ الأَكْرَمِينَ! اِضْرِبْ ابْنَ الأَكْرَمِينَ، وأما عن جزاء أمير مصر عمرو بن العاص فقد قال له القول المشهور: أَيَا عَمْرُو، مَتَى اسْتَعْبَدْتُم النَّاسَ وَقَدْ وَلَدَتهُم ْأُمَّهَاتُهُم أَحْرَارًا، وقد وردت هذه القصة بكتب التاريخ والأخبار وعلى ألسنة الناس.
وفي قصة أخرى شهيرة لما جاء “الهرمزان” ملك خوزستان أسيراً إلى عمر، كان لم يزل الموكَّل به يتقفي أثر عمر بن الخطاب _رضي الله عنه_ حتى عُثر عليه في المسجد نائماً متوسداً درّته، فلما رآه الهرمزان قال هذا والله الملك الهنيّ عدلتَ فأمنت فنمت، والله إني خدمت أربعة ملوكنا الأكاسرة أصحاب التيجان فما هبت أحداً منهم هيبتي لصاحب هذه الدرّة .
وصدق رسولنا الكريم حين تحدث عنه فقال ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ»
فإذا ذكر الفاروق عمر ذكر العدل وإذا ذكر العدل ذكر عمر .
واختتم بخطبة رسول الله في مرض موته ولا أجل من هذا موقف واسمى معبر عن عدله وعدل رسالته الخاتمة ..
أيها الناسُ، فإنّي أحمدُ إليكمُ اللهَ الذي لا إلهَ إلاّ هُوَ، وإنّه قد دَنا منِّي خفوقٌ من بينِ أظهرِكم، فمَنْ كنتُ جلدتُ له ظهراً فهذا ظهري فليَسْتَقِدْ منه، ومَنْ كنتُ شتمتُ له عِرضاً، فهذا عِرضي فلْيَسْتَقِد منه، ومَنْ أخذتُ له مالاً، فهذا مالي فليأْخُذْ منه، ولا يخشى الشَّحْناءَ من قِبَلِي، فإنّها ليستْ من شأني. أَلاَ وإنَّ أحبَّكُمْ إليَّ مَنْ أخذَ منِّي حقّاً، إنْ كانَ لهُ، أو حلَّلني فلقيتُ ربِّي وأنا طيِّبُ النَّفْسِ. وقد أرَى أنَّ هذا غيرُ مُغْنٍ عنِّي حتَّى أقومَ فيكم مِراراً.
جميع الحقوق محفوظة | جريدة صوت الشعب الإلكترونية 2020