مصر بين الهضم والاستفراغ
أ.د. محمد السعيد عبد المؤمن
من يسير في مصر على ضفتي النيل بين حلايب والاسكندرية، يتوقف متعجبا متسائلا متحيرا! كيف يمكنه تحديد الهوية المصرية؟ ولعل السبب في ذلك أنه حيثما سار وجد خليطا من آثار الحضارات المختلفة بين الفراعنة في أسر مختلفة، وبين الفرس واليونان والرومان والعرب والترك والأكراد والمغاربة والغرب، وعندها يمكنه أن يتصور أن الشعب المصري بلا هوية محددة! فلا هو فرعوني ولا فارسي ولا يوناني ولا روماني ولا عربي ولا تركي، ولا كردي ولا فاطمي، ولا يمكن احتسابه من النظام الغربي العالمي!
لكن نظرة محللة ناقدة بحق يمكن أن ندرك أن الشعب المصري له حضارة تتمتع بخاصية الهضم، فهو يستقبل كل ما يرد عليه من حضارات قديمة وووسيطة وحديثة، ثم يفهمها ويهضمها، بل ويستغلها في مسيرته الحضارية، لكنه لا يتوقف عندها، ولا يعتبرها حضارته، بل لعله يغير في تاريخها وعناصرها الثقافية والعلمية، ويضيف إليها أو يحذف منها، دون أن يهدمها أو يهاجمها. طبيعة الشعب المصري في اختلاطها بالعناصر الأجنبية طبيعة استثمارية، لكنها عادلة تعطي لكل عنصر حقه، ولا تضيعه، ولا تتعصب له أو عليه.
إن الله سبحانه قد أبان طبيعة الشعب المصري والأرض التي يعيش عليها، عندما جعل قدر هذا الشعب الإسلام وجعل لغته العربية، تقديرا لطبيعته التي ارتضت سنة الله، وعاشت بها آلاف السنين، فلم يتجل إلا على أرضه، وجعلها من بين الأراضي المقدسة التي أقسم بها، وجعل رسله يمرون عليها ويلجأون لها، وجعل نسلهم يحتمون بها، فجعلها ثاني اثنين من البلاد تتمتع بالأمن.
هوية الشعب المصري ليست فرعونية ولا فارسية ولا يونانية ولا رومانية ولا عربية ولا تركية ولا غربية، بل هي كنانة كل هذه الحضارات، والهاضمة لها، والمثبتة لها، والمطورة لها. إن الهوية الحقيقية للشعب المصري هي العقيدة الدينية الراسخة أصولها، المتطورة بتطور الزمان وتوالي الأجيال ونمو العقول.
لكن ماذا نسمي ما نراه على وجه الحضارة المصرية الآن، ونكرهه! بل ينبغي أن لا نكرهه، لأنه استفراغ لنفايات حضارات الشعوب والدول الأخرى التي لم يستطع الشعب المصري أن يهضمها، فالعصر الذي تعيش فيه مصر الآن هو عصر استفراغ قاذورات الحضارات الأخرى، بدليل أنه يظهر في الإعلام والفن والعلوم والآداب المأخوذة من هذه الحضارات الأجنبية نفسها! لأن الشعب المصري لا يهضم إلا الجانب الراقي فقط من هذه الحضارات.
إن قدر شعب مصر أن يكون سادنا للعقيدة الخاتمة ولغتها المقدسة، فعندما ينتهي من استفراغ هذه النفايات، لن تكون له إلا الهوية التي جعلها الله قدرا مقدورا عليه.
راجعوا آيات القرآن الكريم بدقة، وراجعوا الأحاديث النبوية الشريفة، وراجعوا تاريخ مصر ودورها الحقيقي وليس المزور، وادرسوها وناقشوها وحللوها واستقرئوها، فلن تجدوا ناتجا إلا أن الله قد اختار لها هذا القدر، وعليها أن تحمله، فإن لم تفعل، يكون عقابها كعقاب العالم الذي لم يستفد ولم يفد بعلمه ومكانته التي وهبها له الله!
كيف نحمل هذه الأمانة؟ ليس من وسيلة إلا أن نعود إلى التفقه في القرآن الكريم، وتقديس لغته العربية! بعدها يسهل أمامنا كل صعب، ويهدينا الله إلى أرقى السبل، وإلى صراطه المستقيم.
ألا هل بلغت اللهم فاشهد.