الوطنية ليست وثنية.. والقومية ليست كفرًا
بقلم : د. محمد إبراهيم العشماوي
أستاذ الحديث الشريف وعلومه في جامعة الأزهر
دأبت الجماعات المتطرفة على تبشيع فكرة الوطنية، وزعمت أن المسلم لا ينتمي إلى وطن، بل ينتمي إلى عقيدة، وأن الوطن ما هو إلا حفنة من التراب، وأن الوطنية ضرب من الوثنية، وأن تحية العلم الوطني كعبادة الأوثان، وبنوا على ذلك أن المسلم لا يقاتل من أجل وطنه، إنما يقاتل من أجل دينه، وأن المقتول دفاعا عن وطنه لا يسمى شهيدا!
ثم ادعت بأن فكرة القومية تضاد الإسلام؛ إذ اعتزاز المسلم ينبغي أن يكون بدينه لا بقوميته، وتلك القومية هي التي فرقت شمل المسلمين، ومزقت العالم الإسلامي إلى دول ودويلات، تعتز كل منها بقوميتها، وتتعصب لها!
وكل هذه مغالطات سمجة لا سند لها من العلم، وهي من الأسس التي ينبني عليها فكر الجماعات المتطرفة؛ ولهذا فهي تؤسس لفكرها تنظيمات دولية عابرة للقارات، تتواصل مع بعضها البعض، رغم تباعد أطرافها، وتعدد جنسياتها، واختلاف لغاتها، وترى نفسها أمة واحدة من دون المسلمين!
والحق أن الوطنية مفهوم إسلامي أصيل وقديم، رسخ له النبي صلى الله عليه وسلم تارة بإعلانه الحنين إلى وطنه الأول مكة وهو يودعها في حادث الهجرة، وأنه لم يفارقها إلا مضطرا، ولولا ذلك ما فارقها، وتارة بحبه لوطنه الثاني المدينة، ودعائه بالبركة لها، وانحيازه إلى أهلها، وتارة بتقليبه النظر في السماء حنينا إلى وطنه الأول مكة، راجيا أن يوجه إلى القبلة التي تقع فيه، إذ هي مسقط رأسه، فيها قضى طفولته وشبابه، وتارة بدفاعه عن وطنه الثاني المدينة ضد الغزاة والمستعمرين، وبناء نظام قوي للحكم والإدارة فيها، وتارة بفتح وطنه الأول مكة لتنعم بنور الإسلام، وعفوه عن أهلها، وتارة بعودته إلى وطنه الثاني المدينة ليدفن بين أهله الذين آووه ونصروه!
فأي معنى من هذه المعاني لا يمثل معنى الوطنية في أسمى صورها؟!
وأما تحية الوطن فهي معنى رمزي، كما نقبل الحجر، ونطوف بالكعبة وهي من حجارة، رمزا لإظهار التعلق بالله والانقياد له، ولا يعد تقبيلنا ولا طوافنا عبادة لهما، فالعلم رمز للوطن، فتحيته رمز لتقديره، لا تقديس له، واللغة الرمزية لغة عالمية، وتختلف من شعب إلى آخر، والإسلام لا يحجر واسعا في مسألة العادات الاجتماعية واللغات التعبيرية!
وأما أن المقتول من أجل وطنه ليس شهيدا؛ فحسبنا للرد عليه؛ بيان النبي صلى الله عليه وسلم في تعديد الشهداء؛ إذ عد المقتول دفاعا عن أرضه وعرضه وماله شهيدا!
وأما فكرة القومية فلا تضاد الدين مطلقا؛ إنما الذي يضاد الدين تقديم القومية على الدين إذا تنازعا، وتقديسها تقديس الدين، ولكننا نرى تضامن الشعوب الإسلامية بعضها مع بعض في أوقات الأزمات والشدائد، من غير نظر إلى القوميات، أو هكذا ينبغي أن يكون!
ويمكن ترشيد فكرة القومية بحيث تغدو أكثر إيجابية، وتصبح أداة للتجميع لا للتفريق، وذلك عن طريق إنشاء تكتلات سياسية واقتصادية عربية وإسلامية مشتركة، كبديل عن فكرة الخلافة، وهو المشروع الذي كان يدعو إليه الفقيه الدستوري والقانوني الكبير الدكتور عبد الرزاق السنهوري!
وبهذا تسقط هذه الشبهة من الأساس، وهي التي طالما دلسوا بها على الناس، وبالله التوفيق.