جمع القراّن.. شبهات وردود (3)
د. محمد العربي
الشبهة الثالثة، حول تعدد مصاحف القرآن.. يقولون: لم تعددت المصاحف؛ أليس في ذلك دليل على الاختلاف المؤذن بالتحريف؟
الرد على الشبهة، وهى وثيقة الصلة بالشبهة السابقة، ونقول لهم التعدد الذى عندنا:
بدأ جمع القراّن في “المصحف ” في عهد أبى بكر رضي الله عنه وكان هذا جمعاً لما كتب في حضرة رسول الله “عليه الصلاة والسلام” كما تقدم .
ثم كان نسخ ما جمع في عهد أبي بكر في مصاحف أربعة أو سبعة في عهد عثمان –رضي الله عنه- فالجمع الأول كان بمعنى ضم الوثائق الخطية في حياة النبي وترتيب سورها سورة بعد أخرى، دون إعادة كتابتها من جديد.
وكان الجمع الثاني عبارة عن إعادة كتابة الوثائق النبوية في “مصحف” نقلاً أميناً لها دون أن يمسها أدني تغيير أو تبديل.
ومن “المصحف الإمام” الذي تم نسخه من الوثائق النبوية مطابقاً لها ثم نسخ مصاحف أربعة، أو سبعة وزعت على الأمصار الإسلامية في ذلك الوقت.
الحجاز – البصرة – الكوفة – الشام، وهذه المصاحف كانت أشبه ما تكون بالصورة الضوئية للوثائق الحديثة عندما يتم تصويرها فيتوغرافيا شديدة الوضوح، ووجه الشبه هو التطابق التام بين المصحف الأم والمصاحف التي نسخت منه، وأصل هذه المصاحف كلها هو “الوثائق الخطية النبوية”.
هذا لون من ألوان تعدد المصحف عندنا، وهو أول تعدد ظهر في تاريخ القرآن، لكنه تعدد (أوراق) لا تعدد (كلام)؛ فالكلام الذي كتب في جميع المصاحف كلام واحد، مثل الكتاب الذي تطبع منه مئات النسخ أواّلافها فإن كل نسخة منه تكرار حرفي للنسخ الأخرى.
أما اللون الثاني من تعدد المصاحف عندنا فهو مصاحف الأفراد التي كتبت بعد جمع القرآن لأول مرة في عهد أبي بكر أو كتبت قبله، قيل: إن عثمان جمع هذه المصاحف وحرقها، وقيل إنه لم يحرقها بل استبعد غير الصحيح منها، ومنها مصحف ابن مسعود لخلاف غير كبير بينه وبين المصحف الإمام.
تم تعددت نسخ المصحف بعد ذلك باتساع الأقطار الإسلامية، ومع هذا التعدد فإن النصوص الموحى بها من الله عز وجل واحدة في جميع المصاحف في العالم الإسلامي كله.
أما ما استحدث من إضافات فهي إجراءات خارجية لا صلة لها بالنصوص المنزلة، وكل المصاحف كانت تكراراً لمصحف عثمان، الذى جمع عليه الأمة وأعدم أو استبعد ما عداه من مصاحف الأفراد، لأن العمل الفردي عرضة للخطأ والسهو أو النسيان.
وإذا كان إعدام هذه المخطوطات الفردية يبدو فيه شيء من القسوة في الوقت الذي لم يوجد فيه بالفعل أي تحريف على الإطلاق، فإنه يدل مع ذلك على أن عثمان كان بعيد النظر، وعميقا في إدراك حقيقة الأمور ويرجع فضل تمتع المسلمين اليوم بوحدة كتابهم واستقراره إلى هذا العمل المجيد من جانب عثمان رضي الله عنه.
ومهما أضيف إلى المصحف العثمانى من علامات خارجيه ابتكرها أبو الأسود الدؤلى وأتباعه، ونصر بن عاصم ويحيى بن يعمر، والحسن البصرى، والخليل بن أحمد، فإن الكلام (الإلهى) باق کما هو على الدوام يتحدى فعل الزمن، ووجود بعض الحروف الزائدة (لحكمة) او الكلمات المدغمة التي اقتصرت على كتابة المصحف في جميع نسخ القراّن إلى اليوم، المطبوع منها والمخطوط، يعد شهادة بليغة على الأمانة التي انتقل بها البناء القرآني من جيل إلى جيل، حتى وصل إلينا بهذا الكمال المنقطع النظير.
فإن قالوا: إن بعض المصاحف تختلف في عدد سور القرآن من أربع عشرة ومائة سورة، إلى اثنتي عشرة ومائة سورة
وكذلك تختلف المصاحف في عدد آيات القرآن كله، وفي كلماته وعدد حروفه، فكيف تقولون إن تعدد المصاحف عندكم كائن على صورة واحدة وإن كل مصحف تكرار لما عداه من مصاحف؟
إن قالوا هذا قلنا لهم: إن الاختلاف في هذه الأعداد كلها لا يخرج “المصاحف” عن الوحدة والتطابق التام بينها؛ لأن النصوص الموحى بها من الله عز وجل إلى خاتم رسله واحدة في جميع المصاحف، فمثلاً من قال إن عدد سور القرآن ثلاث عشرة ومائة سورة اعتبر سورة الأنفال وسورة التوبة سورة واحدة؛ لأنهما لم يفصل بينهما بـ “بسم الله الرحمن الرحيم”.
وكذالك الاختلاف في عدد اّيات القراّن الكريم مرجعه جعل اّيتين اّية واحدة وهكذا، وسواء عدت الاّيتان اّية واحدة، أو عدتا اّيتين فنصها موجود في المصحف الشريف، والاختلاف في العدد لا مساس فيه بالمعدود وهو النصوص التي نزل بها الوحي الأمين فالنصوص مسطورة في المصحف، أما تعدادها فأمر اعتباری خارج عنها، ووصف عارض طارئ عليها، فالإصابة والخطأ فيه لا ينعكس بأي حال على حقيقة النصوص المذكورة في المصحف وإن قالوا: إن الشيعة يقولون إن عثمان -رضی الله عنه- حذف من القرآن شيئاً يتعلق بعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وبعضهم يذكر سورة باسم “سورة النورين” كانت مما نزل في القرآن واستبعدها عثمان عند جمع المصحف، وهذا يعد تعديلاً في النصوص الموحى بها فكيف تقولون إن القرآن لم يمس، وإن المصاحف متطابقة تماما؟
نقول: ما يدفع هذه الفرية عن عثمان -رضي الله عنه-، أن التشيع في خلافته كان خافتاً، بل وفي دور النشأة، وعلى يد عبد الله بن سبأ، الذي كان المسلمون يطلقون عليه: ابن السوداء وهو يهودي حاقد على الإسلام ومولد التشيع كان بعد حادثة التحكيم بين علي -رضي الله عنه- ومعاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-.
ومعنى هذا أن الحاجة إلى غمط حق على -رضى الله عنه- لم يكن لها وجود في خلافة عثمان. فما الذي يحمل عثمان إذن على غمط حقه؟ وهب أن ذلك حدث منه فهل كان حفاظ القراّن من الصحابة سيتركونه يعبث بكتاب الله؟ والأهم من هذا أن علياً نفسه -رضى الله عنه- أثنى على ما قام به عثمان من جمع القراّن، وكذلك كل أصحاب رسول الله “عليه الصلاة والسلام” الذين كانو أحياء في خلافه عثمان.