التّغافُل
عجبتُ من ذلك الشاب الأربعينيّ الذي كظم غيظه يومًا أمام صديقه حين أحرجه وضحك منه لأنه لا يتقن نطق بعض الكلمات الإنجليزية رغم تعليمه الجامعيّ.
وتسألتُ كثيرًا هل كظم الغيظ قناع يلبسه البعض هروبًا من مواجهة حقيقة مؤلمة يعيشونها؟! أم هدنة يُعد البعض أنفسهم فيها لرد الصاع صاعين لمن أساء إليهم حين تتاح الفرصة؟!!
فلم أجد جوابا شافيًا. وتذكرت جزاء الكاظمين للغيظ ومنزلتهم العالية وأجرهم العظيم عند الله، ووجدت نفسي مصرة ًعلى تخفيف هذا الضغط النفسي عن ذلك الشاب، فتطوعت – وأنا حذرة – ودعوته وصديقه للمشاركة في مسابقة اختيار أفضل الحاضرين تحدثًا باللغة العربية لمدة خمس دقائق متصلة، لعل ذلك يكون مخرجا لهذا الشاب الأربعينيّ يُظهر فيه تفوقًا على نظيره فيطفئ ذلك من النار المشتعلة داخله.
وتحمس الشابان للمشاركة في التحدي. وهنا أبهرني هذا الشاب الأربعينيّ مرة أخرى برقي خلقه؛ حين قال: قبلت التحدي وإن كنت أعلم أن صديقي أفضل منى بكثير..
هنا شعرت إني وضعته في مأزق جديد – فكثير من النوايا الطيبة قد لا تكفي وحدها لنصرة المظلوم، بل يحتاج أصحاب النوايا الطيبة لفراسة وحجة لحماية أنفسهم وغيرهم من سوء الفهم وسذاجة التصرف.
وعود الشاب الإنجليزي اللكنة العربي الملامح التباهي بفوزه بلقب رئيس اتحاد الطلاب في جامعته الأمر الذي تطلب منه إعداد خُطب حماسية والإشراف على مؤتمرات طلابيّة وتمثيل جامعته دوليًّا، فكان يستعين دوما بصديقه الشاب الأربعيني الذي لعب أكبر دوره في ظل صديقه طوال فترة دراسته بإخلاص وفي صمت.
وهنا لم أتمالك نفسي فقد وجدت مخرجًا لإنقاذ هذا الشاب من دائرة الظل التي يعيش فيها والسماح له بأن يصبح سيدَا للمسرح ولو لخمس دقائق واقترحت أن يبدأ هو بالتحدي لكنّه نظر إليّ نظرة رجاءٍ أن أبدأ بصديقه.
فذهبت إليه وسألته مباشرة لماذا تفعل ذلك؟ ألست الفصيح البليغ في هذا المجلس؟ رد قائلا: بلي؛ ولكني أفضل أن أبقي في الظل لأن صديقي يُعاني من الوحدة منذ فقد عائلته في حادث على طريق الساحل الشمالي وقد أبرمت عهدا مع نفسي أن أتغافل عن كل تصرفاته إبقاءً للود بيننا لأني حين أثأر لنفسي منه فإنما أمزق حبل الود والحب بيننا. فحبال الوّد تحتاج عفو وتجاوز وتغافل.
وتسألتُ متى كظمت غيظي؟ ولم أثأر لنفسي وتغافلت عن حقي إبقاءً للود بيني وبين من مروا في حياتي؟
ولا أخفيكم سرًا لقد مر شريط سينمائي طويل أمام عيني لكل مواقف التّغافلِ في حياتي، والتي استطعت أن أخمد فيها براكين الغضب والكره والثأر لنفسي.
فعلمتُ أن هذا الكظم الذي أرادتُ به وجه الله أولًا لم يكن ترفعًا عن التصادم ولا هجرًا للناس ولا قطيعةً وإنما كان إبقاءً للوّد.
ولعلك مثلي فعلت ذلك مرارًا وتكرارًا مع صديق أو زميل أو حبيب، طلبًا للأجر
تغافلوا وتجاوزوا عن المحيطين بكم؛ كي يبقى الوّد فالمرء بدون مشاعر الحب التي يغمره بها من حوله وحيد وسط الملايين واعلم أن أوجاع التغافل التي لم تحدثْ بها أحدًا هي المنجيّة لك حين تلقى الله، وإن بقيت حديثًا خاصًا – حديث للروحٍ – لا يعلمه إلا أنت ورب العالمين.