جمع القراّن الكريم.. شبهات وردود (2)
بقلم/ د. محمد العربي
مرحلة الجمع الثانية:
كانت هذه المرحلة في خلافة عثمان بن عفان -رضى الله عنه- وكان حافظاً للقراّن كله كما ورد في الروايات الصحيحة والسبب الرئيسى في اللجوء إلى هذا الجمع في هذه المرحلة هو اختلاف الناس وتعصبهم لبعض القراءات، إلى حد الإفتخار بقراءة على قراءة أخرى، وشيوع بعض القراءات غير الصحيحة.
وهذا ما حمل حذيفة بن اليمان –رضي الله عنه- على أن يفزع إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان، ويهيب به أن يدرك الأمة قبل أن تتفرق حول القراّن كما تفرق اليهود والنصارى حول أسفارهم المقدسة فنهض -رضى الله عنه- للقيام بجمع القراّن في “مصحف” يجمع الناس حول أداء واحد متضمناً الصلاحية للقراءات الأخرى الصحيحة، وندب لهذه المهمة الجليلة رجلاً من الأنصار (زيد بن ثابت) وثلاثه من قريش : عبد الله بن الزبير، سعد بن أبى وقاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام.
وزيد بن ثابت هذا كان هو رئيس الفريق الذى ندبه عثمان -رضى الله عنه- لهذه المهمة الجليلة لأنه -أي زيد بن ثابت– قد تحققت فيه مؤهلات أربعة للقيام بهذه المسؤلية وهى:
– كان من كتبة الوحى في الفتره المدنية.
– كان حافظاً متقناً للقراّن سماعاً مباشراً من فم رسول الله.
– كان هو الوحيد الذى حضر العرضة الأخيرة للقرآن من النبى عليه أفضل الصلاة والسلام على جبريل عليه السلام .
– كان هو الوحيد الذى جمع القراَن في خلاقة أبى بكر رضى الله عنه.
منهج الجمع في هذه المرحلة:
وقد تم الجمع في هذه المرحلة على منهح دقيق وحكيم للغاية قوامه أمران:
الأول: المصحف الذي تم تنسيقه في خلافه أبی بکر -رضي الله عنه- وقد تقدم أن مكونات هذا المصحف هي الوثائق الخطية التي سجلها کتبة الوحي في حضرة النبي عليه الصلاة والسلام سماعا مباشراً منه.
فكان لا يقبل شيئا في مرحلة الجمع الثاني ليس له وجود في تلك الوثائق التي أقرها النبي عليه الصلاة والسلام.
الثاني: أن تكون الآية أوالآيات محفوظة حفظاً مطابقاً لما في مصحف أبي بكر عند رجلين من أصحاب رسول الله وعلی الأقل فلا يكفي حفظ الرجل الواحد، ولا يكفي وجودها في مصحف أبی بکر، بل لابد من الأمرين معا: – وجودها في مصحف أبي بكر.
– ثم سماعها من حافظين، أي شاهدين، وقد استثنى من هذا الشرط أبو خزيمة الأنصاري، حيث قام حفظه مقام حفظ رجلين في آية واحدة لم توجد محفوظة إلا عند أبى خزيمة، وذلك لأن رسول الله عليه الصلاة والسلام جعل شهادته بشهادة رجلين عدلين.
قام هذا الفريق وفق هذا المنهج المحكم بنسخ القراّن، لأول مرة، في مصحف واحد، وقد أجمع عليه جميع أصحاب رسول الله (عليه الصلاه والسلام) ولم يعارض عثمان منهم أحداً، حتی عبد الله بن مسعود، وكان له مصحف خاص کتبه لنفسه، لم يعترض على المصحف الجماعي الذي دعا إلى کتابته عثمان -رضي الله عنه- ، ثم تلقت الأمة هذا العمل الجليل بالرضاء والقبول في جميع الأقطار والعصور.
ونسخ من مصحف عثمان، الذى سمى ” المصحف الإمام ” بضعة مصاحف، أرسل كل مصحف منها إلى قطر من أقطار الإسلام، مثل الكوفة والحجاز، وبقى المصحف الأم في حوزة عثمان -رضی الله عنه– ثم عمد عثمان إلى كل ما عدا ” المصحف الإمام ” من مصاحف الأفراد المخالفة أدنى مخالفه للمصحف الإمام، ومنها مصحف الصحابى الجليل ابن مسعود وأمر بحرقها أو استبعادها لأنها كانت تحتوى على قراءات غير صحيحة، وبعضها كان يدخل بعض عبارات تفسيرية في صلب الأيات أو في أخرها.
الفرق بين الجمعين:
من نافله القول، أن نعيد ما سبق ذكره، من أن أصل الجمعین اللذین حدثا في خلافتي أبي بكر وعثمان -رضي الله عنهما- کان واحداً، هو الوثائق الخطية التي حررت في حضرة النبي عليه السلام إملاء من فمه الطاهر على كتبة الوحي، ثم تلاوتها عليه وإقرارها كما تليت عليه هذه الوثائق لم تدخل عليها أية تعديلات، وهي التي نراها الآن في المصحف الشريف المتداول بين المسلمين.
وكان الهدف من الجمع الأول في خلافة أبي بكر -رضي الله عنه- هوجمع تلك الوثائق المتفرقة في مكان واحد منسقة السور والآيات، دون نقلها في مصحف حقيقي جامع لها، فهذا الجمع بلغة العصر “مشروع جمع” لا جمع حقيقي في الواقع.
ولهذا عبر عنه أحد العلماء بأنه أشبه ما يكون بأوراق وجدت متفرقة في بيت النبي فربطت بخيط واحد، مانع لها من التفرق مرة أخرى.
اما الجمع في خلافة عثمان -رضي الله عنه- فكان نسخاً ونقلاً لما في الوثائق الخطية، التي حررت في حياة النبي عليه الصلاة والسلام وأقرها بعد تلاوتها عليه، وجمعها في مصحف واحد في مكان واحد. واذا شبهنا الوثائق الأولى بقصاصات ورقية مسطر عليها كلام، كان الجمع في خلافة عثمان هو نسخ ذلك الكلام المفرق في القصاصات في دفتر واحد.
أما الهدف من الجمع في خلافة عثمان فكان من أجل الأمور الأتية:
– توحيد المصحف الجماعي واستبعاد مصاحف الأفراد لأنها لم تسلم من الخلل، وقد تم ذلك على خير وجه.
– القضاء على القراءات غير الصحيحة، وجمع الناس على القراءات الصحيحة، التي قرأ بها النبي عليه الصلاة والسلام في العرضة الأخيرة على جبريل في العام الذي توفي فيه.
– حماية الأمة من التفرق حول كتاب ربها، والقضاء على التعصب لقراءة بعض القراء على قراءة قراء آخرين.
وفى جميع الأزمنة فإن القرآن يؤخذ سماعاً من حُفاظ مجودين متقنين ولا يؤخذ عن طريق القراءة من المصحف؛ لأن الحفظ من المصحف عرضة لكثير من الأخطاء، فالسماع هو الأصل في تلقي القرآن وحفظه، لأن اللسان يحكي ما تسمعه الأذن، لذلك نزل القرآن ملفوظاً ليسمع ولم ينزل مطبوعاً ليقرأ.
فالفرق بين الجمعين حاصل من وجهين:
الوجه الأول : جمع أبي بكر -رضي الله عنه- كان تنسيقأ للوثائق الخطية التي حررت في حياة النبي عليه الصلاة والسلام على صورتها الأولى حسب ترتيب النزول سوراً واّیات.
وجمع عثمان -رضي الله عنه- كان نقلاً جديدأ لما هو مسطور في الوثائق الخطية في كتاب جديد، أطلق عليه “المصحف الإمام” .
أما الوجه الثانى فهو من حيث الهدف من الجمع، وهو فى جمع أبى بكر، كان حفظ الوثائق النبوية المفرقة في نسق واحد مضموماً بعضها إلى بعض، منسقة فيه السور والاّيات كما هي في الوثائق، لتكون مرجعاً حافظاً لاّيات الذكر الحكيم.
وهو في جمع عثمان، جمع الأمه على القرارات الصحيحة التي قرأها النبي عليه السلام في العرضة الأخيره على جبريل عليه السلام.
أما الستون (النصوص) التي نزل بها الوحى الأمين فظلت على صورتها الأولى، التي حررت بها في حياة النبى عليه الصلاة والسلام.
فالجمعان البكرى والعثمانى لم يدخلا على رسم الاّيات ولا نطقها أي تعديل أو تغير او تبديل، وفى كل الأماكن والعصور واكب حفظ القرآن تدوينه في المصاحف، وبقى السماع هو الوسيلة الوحيدة لحفظ القرآن على مدى العصور حتى الآن وإلى يوم الدين.
تنسيق المصحف :
نعني بتنسيق المصحف الفواصل بين سوره “بسم الله الرحمن الرحيم” وترقيم آيات كل سورة داخل دوائر فاصلة بين الآيات، ووضع خطوط رأسية تحت مواضع السجود في آيات القرآن، ثم الألقاب التي أطلقت على مقادير محددة من الأيات مثل:
الربع – الحزب – الجزء ، لأن هذه الأعمال إجراءات بشرية خالصة، ألحق بعضها بسطور المصحف، وهو ترقيم الآيات ووضع بعض العلامات تحتها، كعلامات السجود في أثناء التلاوة.
أما عدا هذين فهي إجراءات اعتبارية عقلية، تدل عليها عبارت موضوعة خارج إطار أو سور الآيات.
وليس في هذا مطعن لطاعن؛ لأننا نقول كما قلنا في نظائره من قبل:
– إنها وسائل إيضاح وتوجيه لقراء القرآن الكريم توضع خارج کلمات الوحي لا في متونها، وتؤدي خدمة جليلة للنص المقدس مقروءا أو متلواً.
ولا يدعی مسلم أنها لها قداسة النص الإلهي، أو أنها نازلة من السماء بطريق الوحي الأمين والمستشرقون الذين يشاركون المبشرين في تصيد التهم للقرآن، يتجهون هذا النهج التنسيقي في أعمالهم العلمية والفكرية، وبخاصة في تحقيق النصوص فيضعون الهوامش والملاحق والفهارس الفنيه لكل ما يقومون بتحقيقه من نصوص التراث، ولهم مهارة فائقة في هذا المجال ولم نر واحداً منهم ينسب هذه الأعمال الإضافية إلى مؤلف النص نفسه، کما لم نر أحداً منهم عدَّ هذه الإضافات تعديلاً أو تحريفاً أو تغييراً للنص الذي قام هو بتحقيقه وخدمته.
بل إنه يعد هذه الأعمال الإضافية وسائل إيضاح للنص المحقق وتيسيرات مهمة للقراء.
وهذا هو الشأن في عمل السلف –رضى الله عنهم– في تنسيق المصحف الشريف، وهو تنسيق لا مساس له ب “قدسية الاّيات” لأنها وضعت في المصحف على الصوره التي رسمت بها بين يدى رسول الله “عليه الصلاه والسلام “.
تاريخ القرآن:
هذا هو تاريخ القرآن منذ نزلت أول سورة منه، إلى آخر آية نزلت منه، کان کتاباً محفوظاً في الصدور، متلوا بالألسنة، مسطورا علی الرقاع، ثم مجموعاً في مصاحف، لم يخضع لعوامل محو ولا أفات ضياع، وضعته الأمة في أعينها منذ نزل فلم يضل عنها أو يغب، ولم تضل هي عنه أو تغب، تعرف مصادره وموارده ، على مدى عمره الطويل.
تعرفه كما تعرف أبناءها، بلا زيغ ولا اشتباه. هذا هو تاريخ القرآن، وضعناه وضعا موجزا، لكنه ملم بمعالم الرحلة كاشفاً عن أسرارها، وضعناه لنقول لخصوم القرأن والإسلام:
هل فى تاريخ القرأن ما يدعو إلى الارتياب فيه أو نزع الثقة عنه؟
وهل أصاب أياته المحكمة خلل أو اضطراب؟
وهل رأيتموه غاب لحظة عن الأمه، أو الأمه غابت عنه لحظة؟
وهل رأيتم فيه جهلاً بمصدره ونشأته وتطور مراحل جمعه وتدوينه؟
أو رأيتم فى اّياته تغيرا أو تبديلاً؟
تلك هي بضاعتنا عرضناها في سوق العرض والطلب غير خائفين أن يظهر فيها غشً أو رداءة، أو تصاب ببوار أو كساد من منافس يناصبها العداء.
هذا هو ما عندنا فما هو الذى عندكم من تاريخ الكتاب المقدس بعهديه؟