تأملات في زمن الأزمة
بقلم أ.د/ محمد فتح الله الزيادي
العميد السابق لكلية الدعوة الإسلامية – ليبيا
ملاحظة: هذه تأملات بمعني أنها ليست رأيًّا علميًّا مستندًا إلى مراجع علمية، وهي ليست رأيًّا دينيًّا يقوم على نصوص شرعية، وإنما هي مجرد تفكير قد يكون في الاتجاه الصحيح وقد يكون عكسه، ولذا أنبه القارئ بأن هذا تفكير في وسط اﻷزمة، وما أكثر التفكير في زمنها.
يعيش العالم كله اليوم أزمة حقيقية تواجه وجوده، أسمتها منظمة الصحة العالمية “جائحة” اجتاحت العالم كله دون استثناء مسلمًا وغير مسلم، غنيًا أو فقيرًا، متقدمًا أو متخلفًا. سبب هذه الجائحة فيروس سمي بــ “كورونا” صغير ﻻ يمكن رؤيته بالعين المجردة، لكنه قوي كبير في أثره، حتى أنه استطاع إيقاف الحياة في أكبر دول العالم وأعظمها قوة وإمكانات. بفعله خلت شوارع نيويورك وموسكو وبكين وباريس ولندن…. من المارة وتوقفت المواصلات الجوية والبرية في جميع انحاء العالم!!، وأغلقت الدول حدودها البرية والجوية، وعجز اﻷطباء -الذين وصلوا لدرجة من التقدم استطاعوا من خلاله إجراء العمليات الدقيقة بواسطة الروبوت وعن بعد أحيانا- عن إيجاد دواء يوقفه أو لقاح يمنعه، عجز العلماء واﻷطباء الذين وصلوا لدرجة اﻻستنساخ أن يواجهوه -حتى هذه اللحظة- على الرغم من صغره!!.
يا لله يا إلهي أيعقل أن يعصف فيروس صغير بالعالم كله وهو يدعي التقدم العلمي والتقني حتي وصل إلى صور من التقدم تصنف في إطار الخيال ، لقد كنتُ قبل أشهر قليلة في مؤتمر علمي بدولة الإمارات العربية قدمت فيه بحثًا عن التحديات التي تواجه العالم الإسلامي في زمن الثورة الصناعية الرابعة، واتيح لي من خلال هذا البحث أن أرى صورا من التقدم الذي وصلت إليه البشرية يعجز العقل عن تصديقها، ولكنها واقع ممارس في عدد من الدول، ولذا فان هذه اﻷزمة تجعلني أعتقد أنها فعلا ابتلاء إلهي للبشرية جمعاء؛ من اجل أن تُعيد حساباتها وبالخصوص الفكرية والإيمانية.
إن المَناظر التي نُشاهدها على شاشات التلفاز اليوم لمدن العالم وما آلت إليه قد قسمت البشرية إلى اتجاهات متعددة في التفكير؛ فالبعض ينظر إليها على أنها حرب بيولوجية بين دول عظمي، وآخرون يرونها حربًا اقتصادية الهدف منها تحقيق فوائد اقتصادية خيالية أو تحطيم اقتصاد متطور، وآخرون يرون أنها امتحان من الله للبشرية نتيجة غفلتهم عن عبادته أو عصيانا ﻷوامره…. إلى غير ذلك من التفسيرات، ولست بحاجة إلى تأييد هذا الرأي أو غيره أو معارضة رأي علي حساب آخر، وإنما الهدف أن نصل إلى اننا أمام خطب غير عادي، أمام “جائحة” عطَّلت الحياة في عالم متقدم بل هو في أزهي عصور تقدمه، امام “جائحة” تخطت حدود اﻷديان واﻷقاليم واﻷوطان والفوارق الطبقية واﻻجتماعية، بل تخطت حتي حدود التفكير، إذ لم تفكر البشرية من قبل في أن تمر عليها لحظات مثل هذه، ولو فعلت ﻻستعدت، ولكنها تقف الآن عاجزة حائرة، بل إن أكثر الدول تقدما تطلب المعونة وكل ذلك جرى بفعل مخلوق صغير ﻻ يري بالعين المجردة!!.
أنا ليست لي إجابة علي كثير من اﻷسئلة المثارة حاليًا والتي ولَّدتها اﻷزمة، ولكني من خلال ثقافتي الدينية أجدني أهرع إلى القرآن الكريم لعلي أجد فيه إجابة لما نشاهده، وحين فعلتُ وجدتُ كثيرا من اﻵيات التي تتحدث عن ابتلاء الله للإنسان بالخوف والجوع واﻷمراض والجوائح الطبيعية وغيرها، وقد شهد التاريخ البشري صورًا كثيرة لهذا الابتلاء وهذه الجوائح، غير أن ما استوقفني وشدَّ اهتمامي آية أرى أنها مناسبة لما نحن فيه -كما أتصور- يقول الحق تبارك وتعالي : (…حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ۚ…) (يونس: 24).
وبعيدا عن تفسير العلماء لهذه اﻵية، وبعيدًا عن سبب النزول، وانطلاقا من التأمل الذي بدأت به أقول: إن عالم اليوم قد وصل إلى درجة من التطور والتقدم أوصل الحياة إلى أن تأخذ زخرفها أكثر من أي وقت مضي، وأن تتزين بكل ما يطلبه الإنسان من سعادة ومتعة وهذا أمر طبيعي، ولكن غير الطبيعي، هو ما أشارت إليه اﻵية: (…وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا…) فإذا ظنَّ الإنسان أنه قادر علي التحكم في الحياة، وأنه قادر علي تحدي القدرة الإلهية، وأنه قادر علي صنع الحياة أو تدميرها، قادر علي الخلق والإفناء، فإن ذلك خروج بالإنسان إلى فضاء خارج عن قدرته، وخارج عن إرادة الله؛ وهذا يستدعي عقابًا إلهيًّا قد يكون جزئيًّا مؤقتًا، وقد يكون دائمًا؛ فالجزئي المؤقت هو ما يُشاهد اﻵن من تعطل جميع صور الحياة البشرية والذي قد يزول بين لحظة وأخرى كما هو متوقع، وقد يكون العقاب أبديًّا وهو انتهاء الحياة البشرية بصورةٍ كاملةٍ والذي نسميه بالقيامة، وعلي كل حال فإن ما يجري مؤشر كبير علي انحراف خطير انحدرت إليه البشرية، وهو فرصة كبيرة امام العلماء والمفكرين والباحثين للتفكير والتأمل ان أمد الله في أعمارهم. وإلى لقاء..