السيد أحمد البدوي.. شبهات وردود!
أ. د/ محمد إبراهيم العشماوي
أستاذ الحديث الشريف وعلومه
كلية أصول الدين جامعة الأزهر بطنطا
كثر سؤالي أن أكتب ردودا على الشبهات التي تثار من آن لآخر حول السيد البدوي، فاستعنت الله تعالى، وكتبت هذه العجالة.
الشبهة الأولى: أن أحدا ممن عاصره من المؤرخين لم يؤرخ له، ولم تحتف بذكره كتب التواريخ والتراجم إلا بعد وفاته بقرنين فأكثر من الزمان!
الرد: أنه كان مؤثرا للخمول على الشهرة، كشأن كثير من العباد والزهاد، وإقامته في طنطا – وهي يومئذ قرية مجهولة غير مأهولة – جعلته بعيدا عن مسرح الأحداث، فلم تقع عليه أنظار المؤرخين، ولا وصلت أخباره إلى مسامعهم، وإنما كان يعرفه الواحد بعد الواحد، حتى إذا ظهرت بركاته بعد موته، وصار له أتباع ومريدون؛ بدأ الاهتمام بتاريخه، فترجم له ابن أزبك والمقريزي وابن الملقن والسيوطي والسخاوي والمناوي والشعراني وابن العماد ونور الدين الحلبي وعبد الصمد الأحمدي وأحمد حجاب وعبد الحليم محمود وأحمد عز الدين خلف الله وجودة المهدي وغيرهم من القدامى والمحدثين، ولكن بعد ضياع كثير من المعلومات عنه!
وهذه كتب التواريخ بين أيدينا تشهد على أنها لم تستوعب كل فضلاء العصر الذي ألفت فيه وله، بدليل المستدركات والذيول والتتمات التي ألفت عليها لاستدراك ما فات مؤلفيها من التراجم المنسية والمهملة!
والعقل يجوز وجود معلومات كتبت عنه في عصره، لكنها فقدت!
ومثل هذه الشبهة أثارها منكرو السنة، إذ قالوا: إن السنة النبوية لم تكتب إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه بحوالي قرن من الزمان، ويجعلون هذا الزعم الواهي وسيلة للطعن فيها وضياع كثير منها!
وهي أوهى من أن يرد عليها!
فقد اتضح لك أن المعين الذي تخرج منه هذه الشبهات واحد!
الشبهة الثانية: أنه لم يتزوج!
الرد: أن الزواج تعتريه الأحكام الخمسة التكليفية، فيكون واجبا ومندوبا وحراما ومكروها ومباحا، بحسب حال الرجل، ويبدو أن سيدي أحمد البدوي لم تكن له نهمة في الزواج؛ لانشغاله بعبادة ربه، واستغراقه في مناجاته، وخاف أن يضيع من يتزوجها، فكان الزواج في حقه مباحا في أقل الأحوال، والمباح لا إثم في فعله أو تركه!
على أن من الأنبياء – وهم أكمل البشر حالا – من لم يتزوج، كسيدنا يحيى عليه السلام، فقد كان سيدا وحصورا – والحصور الذي لا يأتي النساء مع قدرته عليهن – وهي صفة مدح لا ذم في قول جمهور المفسرين!
ومن الأولياء كذلك من لم يتزوج، كبشر بن الحارث الحافي، وهو من أكابر أولياء الأمة، وأثنى عليه الإمام أحمد بن حنبل، وفخم أمره جدا، وقال: وهل يراد بالعلم إلا ما وصل إليه بشر؟
مع أنه قال: لو تزوج لتم أمره!
وكذلك من العلماء من لم يتزوج، ولم يقدح هذا في فضله، كابن تيمية!
وقد اعتذر أتباعه عن تركه للزواج؛ بمثل ما نعتذر به الآن عن ترك السيد البدوي له، فما الفرق؟!
ولشيخ مشايخنا العلامة المحدث الشيخ عبد الفتاح أبي غدة كتاب لطيف سماه: (العلماء العزاب الذين آثروا العلم على الزواج)، ذكر فيه قدرا صالحا لا بأس به منهم!
فرجل له سلف في ترك الزواج، من نبي أو ولي أو عالم؛ فكيف يلام؟!
الشبهة الثالثة: أنه ليست له كتب ولا مؤلفات علمية!
الرد: أنه ليس من شرط العالم أن يكون له كتب أو مؤلفات، فالتأليف موهبة من المواهب، ويحتاج إلى التفرغ من الشواغل، ومن العلماء من يقتصر على المشافهة القولية في التعليم، ويهتم ببناء الرجال علما وعملا وحالا أكثر من اهتمامه بتأليف الكتب، حتى كان بعضهم يقول: كتبي صدور أصحابي!
وأكثر الصوفية كان اهتمامهم بالتربية العملية أكثر من اهتمامهم بالمعارف النظرية، وفي وصايا سيدي أحمد البدوي لتلميذه وخليفته الأول سيدي عبد العال المدفون إلى جواره – وهي التراث الوحيد المخطوط الذي يمكن أن يوثق بنسبته إليه -؛ أنموذج رائع من هذه التربية العملية!
وقد أنشأ السيد البدوي ما عرف عند رجال العلم والتربية بجامعة السطح الأحمدية – حسبما سماها شيخ الإسلام عبد الحليم محمود في كتابه عن السيد البدوي – وفي هذه الجامعة تخرج أشهر أولياء مصر المحروسة على مدار التاريخ، وقد كان يأتيه الأمي الجاهل الذي يبول على عقبيه، فما يلبث أن يصير من أهل العلم والصلاح، فأي كتاب يمكنه أن يصنع رجالا على هذا النحو؟!
على أن أكابر أولياء الأمة وصلحاءها، الذين تتلمذ لهم أكابر العلماء؛ لم تكن لهم كتب، وإنما بثوا علومهم في صدور الرجال، ومنهم أحمد بن أبي الحواري، وبشر الحافي، وإبراهيم بن أدهم، ومعروف الكرخي، وعبد العزيز الدباغ، وعلي الخواص!
فلم يكن السيد البدوي بدعا من هؤلاء السادة الأعلام!
الشبهة الرابعة: أنه كان جاسوسا شيعيا!
والرد: قلبنا الكتب التي أرخت له، فلم نجد أحدا وصمه بهذه التهمة، فمن أين جاءت؟!
والجواب: افتراها أحمد صبحي منصور، مدرس التاريخ والحضارة المفصول من جامعة الأزهر، بتهمة الطعن في السنة النبوية والإساءة إلى مقام النبي صلى الله عليه وسلم، والهارب إلى أمريكا، في كتابه التالف: (السيد البدوي بين الحقيقة والخرافة)، وذكر أنه رآها في مقال للإمام الأكبر الشيخ مصطفى عبد الرازق، منشور في جريدة السياسة الأسبوعية، ووقعه باسم مستعار، زعم فيه أنه رأى ذلك في مخطوط مغربي قديم، لمؤلف مجهول!
وهنا يجب أن يخجل الكذب، إذ كيف تثبت تهمة ذكرت في كتاب مجهول لكاتب مجهول، إلا إذا كانت تهمة مفتراة، وهل تثبت الحقائق العلمية بهذا الدجل؟!
وقد حكى شيخنا الدكتور جودة المهدي -رحمه الله- هذه التهمة في كتابه عن السيد البدوي، وكر عليها بالإبطال، وأكذب مدعيها بأنه تم التواصل مع أسرة الشيخ مصطفى عبد الرازق، فأنكروا ذلك تماما، وذكروا أن الشيخ لم يكن يوقع أبدا باسم مستعار!
ثم لو صحت هذه التهمة؛ فلحساب أي ملك أو سلطان أو دولة كان يعمل السيد البدوي جاسوسا؟ وما مظاهر تجسسه؟ وما آثاره؟ ومن معاونوه في هذه المهمة؟ وما المكافأة التي عادت عليه من ذلك؟ وهل هذه العيشة المتقشفة تناسب عيشة الجواسيس؟ وهل يبقى الجاسوس في مهمته مدى الحياة حتى يموت؟ وهل يعقل أن يخفى أمره على الحكام طيلة حياته، وعلى المؤرخين على مدى قرون لاحقة؛ حتى يكتشفه أحمد صبحي منصور؟!
أما تهمة التشيع فهي أوهى من تهمة التجسس، ويجب أن تواجه بالأسئلة ذاتها، ونزيد عليها: إذا كان شيعيا فلماذا لم يترجمه الشيعة في كتبهم؟ ولماذا لم يحتفوا بقبره؟ ولم يضموه إلى مقدساتهم؟ مع أنهم لو فعلوا لم يلزم منه تشيعه؛ فإنهم يحتفون بمولانا الإمام الحسين وهو بريء منهم!
وإذا كان داعية للمذهب الشيعي بهذه الخطورة؛ فلماذا لم يترك أثرا للتشيع في طنطا وما جاورها، إلا إذا كان قد فشل في مهمته؟ وهل يعقل ألا تكتشف الدولة المملوكية أمره؟ كيف وقد كان سلطانها بيبرس معظما له، بل استقبله وأكرمه – على ما قيل.
بل كان علماؤها أيضا من المعظمين له، وقصة ابن دقيق العيد وعبد العزيز الدريني معه مشهورة!
فهل يتواطأ السلاطين والعلماء على تعظيم رجل جاسوس شيعي؛ جاء لهدم دولتهم، إلا إذا كان قائل هذا الكلام لا يدري ما يخرج من رأسه؟!
الشبهة الخامسة: أنه كان رجلا قذر الثياب، يلبسها حتى تتقذر، وأنه كان يبول على الناس، ولا يشهد الصلوات، وكان يصيح كالمجانين!
والرد: أن قذارة الثياب أمر نسبي، يختلف من عين إلى عين، ومن حال إلى حال، وقد تبدو لي الثياب نظيفة وتبدو لك متسخة، ومع النسبية لا يمكن الجزم بأن ثيابه كانت قذرة!
على أن شأن الزهاد والعباد التقشف في أمر الثياب، وترك الزينة، انشغالا بما هو أعظم، وما يروى عن سيدنا عمر رضي الله عنه من لبس المرقعات، ووقائع السلف الصالح في الزهد والتقشف؛ كاف في الرد على هذه الشبهة!
وأما قصة البول على الناس؛ فهي قصة ثبت اختلاقها؛ إذ في وقائعها من لم يدرك حياة السيد البدوي!
ولو ثبتت فلعله من اختلال النظر!
وأما قصة ترك الصلوات؛ فيدفعها ما روي عنه من أنه كان له إمامان يصليان به، وشهود الجماعة في المسجد سنة على الراجح، وثواب الجماعة حاصل في أي مكان تصلى فيه، وقد اتخذ من السطح دارا وجامعا وجامعة!
وأما صياحه كالمجانين؛ فهو أمر لا يفهمه إلا من ابتلي به من أرباب الأحوال، وأرباب الأحوال مغلوبون، ولا يلام مغلوب حال الغلبة، إنما يلام حال الإفاقة!
ومعلوم أن الأحوال جلالية، ولها ثقل على النفس والجسد، فتحتاج إلى تصريف، في هيئة حركة أو صوت، وقد كان الوحي يثقل على النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إن جبينه ليتفصد عرقا في اليوم الشديد البرد، وكان يسمع مثل صلصة الجرس في أذنه، وهو أشده عليه، كما رواه البخاري في صحيحه من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها!
وواردات الأحوال من جنس واردات الوحي، مع ارتفاع مقام النبوة عن مقام الولاية بمراحل، بل لا مقارنة بينهما أصلا، والفرق بين النبي والولي كالفرق بين السماء والأرض!
الشبهة السادسة: أنه شخصية خرافية أسطورية، تسللت إلى الوعي الشعبي المصري، كما تسللت إليه كثير من الخرافات والأساطير!
والرد: أن هذا من التناقض الذي تتنزه عنه بداهة العقول؛ فإن هذا الكلام المسطور في هذه الشبهة؛ مناقض لكل الشبهات السابقة التي تثبت حقيقة وجوده، وهذه تنفيها، فأيها نصدق؟!
وعلى سبيل التنزل؛ فإنه لو فرض أن حقيقة وجود السيد البدوي لم تثبتها كتب التاريخ؛ فإن التواتر والشهرة كافيان في إثباتها، بل إنهما أقوى منها في إفادة اليقين، وقد اشتهر عند الخاص والعام، على كر العصور ومر الدهور؛ أن طنطا بلد السيد البدوي، الرجل الصالح المعتقد عند العامة، الذي تأتيه الوفود من كل مكان لزيارته، والترحم عليه، والتبرك به، والذي يعمل له مولد في كل عام، وهو أكبر تجمع بشري في العالم السني بعد تجمع الحج!
ومحال أن تتواطأ هذه الجموع الغفيرة على الكذب، فهذا ما نزه الله عنه أمة الإسلام!
وهناك أمور لا تحتاج في إثباتها إلى وسائل إثبات خاصة؛ لأن الشهرة فيها كافية، كما يشتهر أن فلانا هو ابن فلان؛ لأنه ولد في فراشه، مع احتمال أن يكون الأمر على خلاف ذلك!
ويمكن الرد إجمالا على هذه الشبهات؛ بأنه على فرض صحتها فهي ظنية، والأصل براءة المسلم، وهي يقينية حتى يعارضها ما هو أقوى، وإذا تعارض الظني مع القطعي قدم القطعي، والأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يقوم الدليل على خلافه!
وبعد:
فهذه رؤوس الشبهات التي تدور حول القطب النبوي، سيدي أحمد البدوي، جمعتها من ألسنة الناس، وكتبت الرد عليها من الذاكرة؛ لكثرة انشغالي، وتكدر بالي، واحتسبتها لله، محبة لسيدي أحمد البدوي، رجاء أن تشملني بركاته!
ومن يمن الطالع وعجائب القدر أنني أثناء كتابة هذه السطور؛ جاءتني بشارة من رجل صالح شريف؛ أن السيد البدوي يقول لك: “لك منا ردء”. والردء هو المعين أو الظهير، والله حسبنا ونعم الوكيل، وهو نعم المولى ونعم النصير!