أحجبة الخرط.. فن إسلامي أصيل
بقلم / المنشاوي الورداني
نجحت العمارة الإسلامية في تحقيق التوازن بين المادة والروح، من خلال مجموعة من الأسس والقواعد والتراكيب المعمارية. وهي التي إن تتأملها تجدها متوافقة مع العقيدة الإسلامية البسيطة السمحة، ومع معطيات البيئة الموجودة. وحتى لو احتوت العمارة الإسلامية على فنون مستوحاة من الثقافات الأخرى؛ فإن المعماري المسلم استطاع بذكائه توظيفها لتتوافق مع قيمه وعقيدته وثقافته.
وقد واجه المعماري في ديار الإسلام مشكلة كبيرة بسبب تعرض معظم بيوتات الناس لضوء الشمس لفترات طويلة، خصوصاً أن المنطقة العربية وضواحيها في الدولة الإسلامية تقع في المنطقة شبه المدارية. واستطاع أيضاً بذكائه القضاء عليها بتقنين هذا الضوء باستخدام المشربيات أو المشرفيات، وهي: أحجبة من الخشب الخرط، استخدمت لتغطية الفتحات بالمباني، ولترشيد مرور شعاع الشمس بالخشب المخروط والبرامق المخروطة.
وسمحت هذه المشربيات بدخول الهواء، ومنعت دخول الشمس، وحققت نوعاً من الخصوصية، بجو جميل، يتمتع فيه الساكن بالرياح اللطيفة والهواء النقي، مع الضوء الخافت الهادئ. كما حجبت الرؤية عن المتلصصين الراغبين في النظر إلى داخل البيوت. وبذلك جاءت متوافقة مع الظروف المختلفة للمجتمع الإسلامي.
وكانت طبيعة المشربيات في ديار الإسلام، جزءاً بارزاً عن سمت حوائط المباني التي تطل على الشارع، أو على الفناء الأوسط للبيوت؛ حيث يستند هذا الجزء البارز إلى (مدادات) تربط الجزء البارز من المنزل، وتتم تغطيته بحشوات من (البرامق) المخروطة، لتعطي أشكالاً زخرفية وهندسية ونباتية أو كتابات عربية.
وقد استخدم المعماري المسلم أسلوب الخرط لتشكيل تلك البرامق، ويتم تشكيلها في ورش خاصة، حيث تدور بين يدي نجار محترف، أو يتم صبها في قوالب جميلة من الرخام أو الجص أو الأسمنت. والغالب في نظام خرط الخشب أن يقوم النجار باستخدام آلة حادة على هيئة أسطوانية ذات أطراف أقل اتساعاً في محيطها من الوسط، وتكون تلك المناطق في الأطراف هي نقاط الاتصال مع البرامق الأخرى، باستخدام أسلوب التعشيق دون الحاجة لاستخدام المسامير المعدنية أو مواد اللصق لصناعة المخروطات الخشبية من أي حجم.
ويفرق صناع المشربيات بين نوعين من الخرط، الأول: دقيق الحجم ضيق المسافات بين البرامق المخروطة، ويعرف بالخرط الميموني؛ بينما يتميز الثاني بالبرامق الكبيرة والمسافات الواسعة فيما بينها، ويعرف بالخرط الصهريجي. وفي كلا النوعين يتحقق الهدف الذي كان ينشده الفنان المسلم من إيثاره فن الخرط في المشربيات، حيث يتم كسر حدة أشعة الشمس والاستفادة من حرارتها وضوئها، بأسلوب رشيد فني جميل، كما يسمح لساكنات الوحدات السكنية القديمة بأن يضعن ثيابهن دون تلصص من المارين، وكذلك الاطلاع على العالم الخارجي دون أن يشعر أحد بسكان الدار. وتم تحقيق التوازن بين كل من الخرطين الميموني والصهريجي؛ فتم تخصيص الأول الضيق الفتحات للنوافذ الخارجية المطلة على الطريق والثاني الواسع الفتحات للشرفات المطلة على فناء البيت أو ساحة الدار.
وقد يتم استخدام الخرطين معاً في المشربية الواحدة، بحيث يضمن الساكنون التهوية والإضاءة من أعلى باستخدام الخرط الواسع الكبير الحجم، ويؤمنون الحجاب الساتر من أسفل باستخدام الخرط الضيق الدقيق الحجم.
وقد ظهر الخرط الصهريجي العظيم البرامق جلياً في مساجد القاهرة المملوكية، وتمتعت مساكن بغداد وجدة ومدن الخليج بالخرط الميموني الدقيق، وكان يعرف لديهم باسم الشنشيلة. ولقد أكد خبراء العمران أهمية دراسة العناصر البيئية والمناخية التي تؤثر على تصميم المباني والفراغات الخارجية؛ من أجل تهيئة المناخ المناسب وتوفيره لراحة الإنسان، سواء داخل المباني أم في الفراغات الخارجية في المحيط العمراني. كما أكدوا ضمن هذه العناصر أهمية الظلال، وهي من وسائل تحقيق الراحة الحرارية، لذلك استخدم العرب والمسلمون الوحدات الزخرفية الضيقة، أو ما نرشحها في هذا البحث بأحجبة الخرط والبرامق في الشرفات والنوافذ لكسر حدة أشعة الشمس، وتم استخدام البروزات في واجهات المساكن الإسلامية لزيادة كمية التظليل استلهاماً للإشارة القرآنية لغرفات الجنة: (لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا) (الإنسان/ 13)، وقوله عز وجل: (وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً) (النحل/ 81).
ولم يتوقف الفن في تركيب البرامق عند جماليات تباين الظل والنور التي تميز أحجبة الخشب الخرط؛ بل راح يزيد عليها خططاً تشكيلية تعظم القيمة الفنية والزخرفية لتلك الأحجبة، حتى ليظن أن الغرض من وجودها هو غرض جمالي، قبل أن يكون نفعياً.
فقد لجأ الفنان إلى تركيب البرامق داخل إطارات متنوعة الأشكال من مربعات أو مستطيلات مختلفة المساحات، ورص هذه الإطارات في أشكال زخرفية، ثم زاد بتشكيل البرامق ذاتها على هيئات زخرفية متنوعة، فمنها ما بات يعطي أشكالاً مثل المشكاوات والرسوم الهندسية أو النباتية المجردة، ومنها أيضاً ما احتوى على كتابات بالخط الكوفي المربع الذي تلائم طبيعته الهندسية أشكال البرامق الخشبية وطريقة اتصالها ببعضها.
ويلاحظ أن الفنان العربي عندما يتعامل مع العناصر النباتية والهندسية، وقوامها من الخطوط المنحنية والمستديرة والملتفة؛ إنه يفعل ذلك مع مراعاة التقابل والتوازن، ويلاحظ أيضاً عدم وجود بداية أو نهاية لها، وهي تمتد وتأخذ في الامتداد لتعبر عن الأزلي، وعن انطلاقة الروح إلى ما يسمى التآلف العذب للوصول إلى التيه الأعذب، بواسطة الدوائر المتماسة والمتحاورة والخطوط المنكسرة والمتشابكة، فضلاً عن وجود المثلث والمربع والشكل الخماسي والسداسي، كما يتضح لنا في تلك الزخارف التي أبدعها الفنان المسلم، وزخرف فيها أبنيته ومساجده ومنازله وأسواقه.
كما كان الفنان المسلم يبحث عن عوامل جذب الانتباه في ملامح إبداعاته، من حيث الشدة والحركة والتباين والموقع والاختلاف والائتلاف والتفرد. إنه -لو لاحظت عزيزي القارئ- قد استفاد من استعداد الإنسان لأن ينتبه إلى الأشياء المتحركة، فحول بفن، كأحجبة الخرط وما يشبهها؛ الكتلة الصماء إلى حركة دائبة وحيوية، وكأن الأقواس والعقود هي موسيقى الحجر، حيث تنتقل العين من جزء إلى جزء أعلى وأسفل يميناً ويساراً، محققاً الحركة من خلال تلك العناصر التكرارية، وترمز الحركة إلى ديمومة الحياة، والسكون إلى الموت والفناء. كذلك الوحدات والعناصر التكرارية كالمخروطات الخشبية والحجرية التي يسميها البعض دروات كالبصلات المقلوبة أو مدادات وكوابيل، أو كما اشتهرت حالياً بالبرامق وأحجبة الخرط؛ كل ذلك، وما يشبهها من المشكاوات والأطباق النجمية والزجاج المؤلف بالجص؛ كل هذه المعالجات شُكلت بعناصر تكرارية جعلت عين المشاهد تتجه إليها، لأنه ليس لها مثلية في الحضارات السابقة، بل هي إبداع إسلامي صرف تمخضت عنه عقلية الفنان المسلم فأبهر العالم كله، وهذا الإبهار والانبهار صفة لازمت الفنون الإسلامية، أكدتها العناصر والأساليب التكرارية، وهنا تظهر وظيفة التكرار في الذيوع والانتشار.
وإذا كانت أحجبة الخرط موجودة في نماذج بدائية منذ العصر اليوناني والروماني، وكذلك بعض البيوت والكنائس القبطية؛ فإن الفنان المسلم قد احتضن هذا الفن، وأضفى عليه طابعه الإسلامي الخالص. حيث ارتدت المشربيات أثواباً قشيبة تنطق بالجمال والروعة، بابتكار أشكال علاقات هندسية، لم تعرف في صناعة الخرط من قبل. حيث أبدع الفنان المسلم طرازاً هندسياً لم يكن مبتكراً من قبل، يبحث عن العلاقة بين مركز الدائرة والمثلثات والخطوط المتوازية والمتقاطعة، مع تكرار الوحدات، ويظهر ذلك بوضوح في واجهات العمائر الإسلامية، سواءً كانت منزلاً أم مدرسة أو سبيلاً، ويرجع معظمها إلى العصر المملوكي، كالقاطوع الخشبي المنقول من مدرسة السلطان حسن إلى متحف الفن الإسلامي بالقاهرة، وفي مجموعة المشربيات في منزل زينب خاتون وبيت السحيمي، وفي منازل القاهرة ورشيد وفوة، والتي ترجع إلى العصر العثماني.
وبتميز المشربيات بتلك البرامق الفنية، أو أحجبة الخرط؛ صارت زينة البيوت العربية، واستخدمت على نطاق واسع في العمارة الحجازية، وإن اختلفت المشربيات في تسميتها، حيث عرفت بالروشن أو روشان، وهي تعريب للكلمة الفارسية (روزن)، وتعني النافذة أو الشرفة، وقد تجلى ذلك على نطاق واسع في منازل مدينة ينبع وجدة، والطائف والمدينة المنورة، حيث بلغت من الكثرة بحيث يتصل بعضها ببعض، أما في اليمن وبصفة خاصة في مدينة صنعاء، وما حولها، فقد استعمل بها طراز يمني أصيل، عبارة عن مشربيات مصنوعة من الحجر، بدلاً من الخشب، ولم تعرف اليمن المشربيات الخشبية إلا في القرن 11هـ 17م، وذلك بتأثير من الفن العثماني، حيث عرفت باسم الشبابيك التركية، كما استعملت المشربيات في مدينة القدس دون غيرها من المدن الفلسطينية، كما يوجد في مدينة المنامة والمحرق في البحرين نماذج قليلة من المشربيات، كما اُتخذت في طرابلس بلبنان وسواكين في السودان، وفي بلاد المغرب، وإن اختلفت في بعض تفاصيلها عن المشربية المصرية.