كن مهاجرًا إلى مولاك
بقلم/ عبد الرحمن علي البنفلاح
الهجرة انتقال من مكان إلى مكان وقد تكون مهاجرًا دون أن تتجشم عناء الانتقال والحركة والسعي إلى مكان ناء وإلى غاية بعيدة، وقد يتساءل البعض في استغراب ودهشة كيف يكون انتقال دون حركة أو سعي، وما عرفنا الانتقال إلا مليئًا بالحركة والسعي؟
تساؤل لا نستغربه من أحد، ونقول له ولأمثاله: نعم الهجرة على أنواع، هجرة أبدًا، وهجرة أبدان، وهجرة أرواح ولكل نوع منها أسبابه ووسائله. وحين نطلب من إنسان ما أن يكون مهاجرًا فنحن لا نقصد واحدًا من المعاني بعينه، وقد نقصدها جميعًا وهذا من ثراء اللغة العربية، وتفوقها على باقي اللغات.
عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» متفق عليه.
وأنت جالس في مكانك مطمئن في وطنك لم تجشّم نفسك عناء الانتقال والحركة تستطيع أن تحقق الهجرة في أعظم معانيها، وأبلغ دلالاتها حين تهجر المعاصي، وتتجنب الوقوع فيها مرة بعدم تجاوز الحلال إلى الحرام ومرة بعدم الاقتراب مجرد الاقتراب من المحرمات، وأن تحافظ على البوصلة الإيمانية التي تسدد لك المسير، وتدلك على الطريق، وتيسر لك السبل حين تختار لك الصراط المستقيم، وصدق الله العظيم: «وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله» (الأنعام 153). ولقد تحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الهجرة من مكة إلى المدينة عندما كانت مكة دار كفر، ودار حرب، فلما فتحتها الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وأنعم الله تعالى على الأمة الإسلامية حين نصرها على عدوها ووحد قبلتها إلى المسجد الحرام، قال صلى الله عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا» متفق عليه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك حين تحولت مكة من دار الحرب إلى دار السلام، فانتفت الأسباب الداعية إلى هجرة المسلمين الساكنين بمكة من مكة إلى المدينة، ومكة أحب البلاد إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم ولولا أن أهلها أخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم منها ما خرج، وكان يحن إليها ويتمنى العودة إليها كل وقت وحين، وكذلك كان الصحابة يفعلون، وكان بلال رضي الله عنه حين يتذكر مرابعه وطرق مكة ومحالها كان يبكي بكاء حارًا.
لقد فات المسلمون شرف الهجرة من مكة إلى المدينة وذلك بعد أن تحقق فتح مكة وصارت أرض إسلام وأمان، وتطهرت من أدران الأصنام، وصارت قبلة للإسلام وللمسلمين. إذا فمن فاته شرف الهجرة المادية من مكان إلى مكان، فإن الإسلام لم يحرمه من شرف الهجرة المعنوية الإيمانية فجعل له نصيبًا مفروضًا في الهجرة الإيمانية بهجرة المعاصي إلى الطاعات، وهجرة التفرق إلى الوحدة وهجرة التنازع إلى الائتلاف، وهجرة الظلم والاستبداد إلى العدل والرحمة.
إن المعاني التي يستطيع أن يحققها المسلم من خلال الهجرة ليس لها حد وفي قمتها هجرة الشرك إلى التوحيد، وهجرة سيئ الأخلاق إلى حسنها، وسيء العادات إلى الصالح منها. إذًا، فبإمكانك أيها المسلم أن تكون مهاجرًا بواحد من هذه المعاني أو بكلها، أو بما تستطيع منها… الميدان واسع والغايات كثيرة…