بقلم – محمد البشاري:
يحمل العقل باعتباره سلة فكرية جامعة، العديد من الآراء والقيم المحددة للسلوكيات، إذ بنيت وتشكلت ملامحها بناءً على حمولتها المتراكمة، سيما أنها خليط «دسم» بين معطيات التراث والحداثة، ونزر من رشفات المستقبل.
وفي النظر للعقل، الديني منه على وجه الخصوص، فإن فهم أساليبه المنتهجة في طرائق التفكير، والحصول على أقرب صورة مشابهة له، تتطلب عناية بحثية تفكيكية، فاصلةً بـ«غربال» المنهجية والموضوعية العلمية بين الكم التراثي الفكري، والآخر المبني على الخرافة والتقليد، وفي ذلك مهمة صعبة المنال ولكنها ليست بالمستحيلة، سيما أن أقرب مثال حي على ذلك يتمثل في المحاولات الحثيثة لتنقية التراث الإسلامي من عوالق التراكمات، وتحريره من ثقلها الملتصق بقوة تارة في جسد ذلك التراث، وتارة «أقوى» في عقول وارثيه، إذ يقل ذلك التراث في قلوبهم قبل عقولهم موقع إرث الفلاحين القدامى لقطعة من الأرض، دون إدراك ما قد يعتريها من زلازل، أو يتغير عليها من مناخ.
ومن ذلك فإن حتى النظر في بنية العقل الديني، واستلهام طرائقه في الاستدلال والاستنباط، لا تكون من خلال نافذة جامدة تقر بالموافقة دون الفهم، بل إن الأحرى والأقرب للدقة بعد التمييز بين مادة الدين «التأسيسية» المتمثلة بالنصوص الدينية المقدسة كالقرآن الكريم والسنة النبوية في الدين الإسلامي، وبين النصوص الثانوية، التي تمثلها النتاجات العلمية والثقافية المبنية على الفهم الموروث والشروحات والتأويلات التي كان كل منها ذو علاقة مع «أبوية» زمانية.
وعليه، فلا يمكن فهم ألفبائية العقل الديني، دون فهم عناصر التفريق الآنف، والعمل على أساسه، إذ يقول المفكر محمد أركون فيما دون من مادة «التراث المقدس»، «دُوِّنت بعد فترة طويلة نسبياً من تاريخ النبوَّة، وبناءً على الذاكرة الشفهيَّة للصحابة أو الحواريين…إلخ (…)، وفي أثناء عمليَّة الانتقال من التراث الشفهي إلى التراث الكتابي تضيع أشياء، أو تُحوَّر أشياء، أو تُضاف بعض الأشياء، لأنَّ كلَّ ذلك يعتمد على الذاكرة البشريَّة، وهي ليست معصومة إلا في نظر المؤمنين التقليديين الذين يصدّقون كلَّ شيء. كما يعتمد [ذلك] على الصراع الإيديولوجي أو التنافسات الحادَّة على السُّلطة التي لا تخلو منها بدايات أيّ دين».
العقل الديني وأسس الاستدلال التي اتكئ عليها، لا يكون احتضان جوانبها دون إسفاف أو تبذير دون الوعي بالإشكاليات التي واجهت فهم ذلك العقل، أو شاركت في تكوينه، إذ هي متصلة والأسس التي آل للارتكاز عليها والاستدلال من خلالها، وكأنها منظار يوضح كل ما أشكل فهمه، ففي التكوين الديني للعقل، لا يمكن إهمال «الترسبات» الفكرية التي تحدد بوصلة اتجاهه في الحياة عامةً، سيما أن تطور العقل يعيش علاقة طردية نشطة مع الكم المعرفي والثقافي، ومن هنا اعتمد ابن خلدون على رأيه في أن النفس الناطقة للإنسان توجد فيه بالقوة، ولكن قدرتها على الخروج من طور «القوة» إلى طور «الفعل»، محكوم بمدى حصولها على «تحديثات» العلوم، وامتلاك ثروة «نظرية»، تجتمع مولدةً للإدراك الحقيقي.
ولو أن ذلك فُهم حد الإدراك، وأُدرك حد الفعل والتصرف، لما وقع كثر من العلماء والنظار في فخ «القداسة المزيفة»، وذلك من خلال استيعاب كنه الاجتهادات السابقة، وحسن تصنيفها، إذ هي تنزيل للمطلق من مصادر التشريع كـالكتاب والسنة، في حركة النّسبي، وليست صورة جامدة ممتدة في ذات «النوتة» على كافة المجتمعات الإنسانية جمة التحول، ولذلك السبب كان الدين «عالمياً»، فمن أين يجيء الإصرار لدى البعض على استنساخ التراث وإلصاقه بحذر، وذلك يخالف بالأساس ميزات العقيدة؟ تتجلى خلاصة الوصول للعقل الديني، والسير به على وجه الحقيقة إلى محطة الاستدلال القويم، في أي دين أو شرع وجد بحكمة إلهية قاصدة تذليل الصعاب للإنسان، وتوجيهه لإعمار الأرض، وإعانته في أداء رسالة وجوده، والغاية من ذلك الوجود، يستلزم القفز عن «المعضلات الكبرى» التي تتلخص في جهل منعقد بفهم التشريع (نصوص القرآن الكريم، السنة النبوية، …)، أو جهل منبعه قصور الفهم بالمنهجيات التي تعاملت مع أصول التشريع، أو جهل متصدر للمجتمعات والعقول من خلال تولية غير الكفؤ لمنبر الاجتهاد والحكم الشرعي.
وعليه فإنه لا يمكن التسليم لأي أفكار أو معتقدات تخالف مقاصد العلم الديني، الذي وجد لتوسيع المدارك، وحسن معرفة الخالق، والأخذ بيد الإنسان للأيسر والأقوم، ارتفاعاً به عما يعيق رسالة استخلاصه من مظاهر الفساد والخراب، والإرهاب، والكراهية، وتقريباً لطموحاته من كل ما هو نفيس في الفهم، والفكر، والفعل.
المصدر: صحيفة الاتحاد الإماراتية