بقلم الكاتب: محمود خلف
تركب القطار، دائمًا ما تفضل القطار عن المواصلات الأخرى، تهوى الزحام بين الناس لعلَّك تجدُ مَن هو أكثرُ منك ألمًا، لكنك لم تجد.
ها أنت قد تجاوزت من العمر الثلاثين، لكن قلبك قد بلغ من الكبر عتيًا، اتخذت من قلبك خليلًا، فصار حمل قلبك كحمل الجبال أو أشد قسوة.
دائمًا ما تناجي قلبك وتبثه همومك التي لطالما ضاق بها صدرك، فأودعتها قلبك المسكين لتحظى أنت ببعض من الراحة الزائفة –أو هكذا خُيّل إليك– لكنك بحماقتك أودعتها المكان الخاطئ فأضحى الحمل حملين، لم يكن من طباعك الاهتمام بالناس ولم تبالِ بهم قط، فقط كنت تبحث عن ذاتك وسط الزحام، وكأن الزحام صار –بالنسبة لك– خمرًا معتقة وقد أدمنتها عن طيب خاطر.
صوت القطار الناتج عن شدة احتكاك عجلاته بقضبانه الصلبة صلابة ذاتك، وشبابيك القطار التالف زجاجها بسبب الاهتزازات القوية وقد نال الصدأ من أجزائها، وأحيانًا بواسطة ما يحمله بعض الركاب من أدوات حادة. مصابيح النيون التالف أكثرها، والبعض يحتضر بينما هناك بضعة مصابيح تقمن بأداء واجبهن حتى النهاية.
وبينما أنت جالس على أحد المقاعد المتهالكة إذ وقعت عيناك على بائعٍ للعطور يصعد العربة التي تركبها وطفق يلتفت مرة ذات اليمين وذات الشمال تجنبًا لمحصل التذاكر، في حين بدأ يعرض بعض زجاجات عطر من النوع الرديء على أشخاص ينتقيهم بعناية واضعًا أمله في أن يشتريَ منه أحدهم زجاجة أو أكثر قائلًا:
– برفان، حد عايز برفان، برفان يا هانم.. برفان يا بيه؟.
وما إن هم بالخروج من العربة في يأس بعدما أيقن أن تلك الأصنام لن تشتري شيئًا من بضاعته المزجاة، حتّى اتجه صوب الباب واضعًا جلُّ أمله في عربة أخرى، فيستوقفه شخص ما قائلًا:
– تعالَ يا ولد، أرني ما معك.
يلتفت برأسه وبابتسامة تخفي أكثر مما تظهر فيقول:
– هل تعلم أنى حاصل على ليسانس آداب؟. ويخرج له البطاقة ليريها له مبتسمًا ويتركه وينصرف ضاحكًا من شدة الغيظ.
يشعر المنادي بالخزي في حين ترجلت أنت من مقعدك واتجهت صوب الباب تبحث عمن هو أكثر منك ألمًا في مكان أخر، تبتلعك أمواج الزحام المتلاطمة رويدًا رويدًا فتختفي دونما أثر متخليًا عن مقعدك لشخص آخر ربما كان أقل منك ألمًا.