متابعة – عبد العزيز اغراز
قدم الدكتور منير القادري رئيس مؤسسة الملتقى ومدير المركز الأورومتوسطي لدراسة الإسلام اليوم، مداخلة حول موضوع “طلب معرفة الخلاق شرط التربية على الأخلاق”، خلال مشاركته في الليلة 89، ضمن ليالي الوصال التي تنظمها مشيخة الطريقة القادرية البودشيشية ومؤسسة الملتقى بتعاون مع مؤسسة الجمال، وذلك ليلة السبت 29 يناير الجاري، وبثت فعالياتها عبر الوسائط الرقمية لمؤسسة الملتقى.
استهلها بإبراز عظمة مقام العبودية لله وحده؛ التي اعتبرها أسمى الغايات في الحياة والممات وعليها انبنت دعوة الأنبياء والرسل موردا قول ابن القيم: « إن دعوة الرسل تدور على ثلاثة أمور: تعريف الرب المدعو إليه بأسمائه وصفاته وأفعاله، الأصل الثاني: معرفة الطريقة الموصلة إليه؛ وهي ذكره وشكره وعبادته التي تجمع كمال حبه وكمال الذل له، الأصل الثالث: تعريفهم ما لهم بعد الوصول إليه في دار كرامته من النعيم الذي أفضله وأجله ورضاه عنهم وتجليه لهم ورؤيته وجهه الأعلى وسلامه عليهم وتكليمه إياهم».
وبين في نفس السياق مدى حاجة الإنسان إلى أنماط من الصلة بالله تعالى تكون فيها الروح هي الحاضرة بالدرجة الأولى بعيداً عن معترك الحياة وشجونها وشؤونها، فالروح تسمو في أجوائها الخاصة وتتألق حيث تتراجع مصالح الجسد الآنيّة والعاجلة مذكرا بقول أبو سليمان الداراني “من كان اليوم مشغولاً بنفسه فهو غداً مشغول بنفسه ومن كان اليوم مشغولاً بربه فهو غداً مشغول بربه”.
وأكد أنه لا يمكن أن تتم عبادة بدون معرفة، وأنه لا يمكنك أن تعبد مالا تعرف ولا يمكن أن تعرف الله إلا إذا عرفت نفسك أولا ثم تجاوزتها مهاجرا إلى خالقها، وأضاف أن الله خلق الإنسان ليعرف نفسه ثم يعرف ربه فيتم بذلك للإنسان جلاء البصيرة الكامل والارتقاء الحقيقي عبر صراع الجسد والروح، مذكرا بما جاء في الأثر : «من عرف نفسه عرف ربه ».
وأوضح أن المعرفة الحاصلة في الدنيا هي التي تُستكمل في الدار الآخرة، فتبلغ كمال الكشف والوضوح وتنقلب مشاهدة، ولا يكون بين المشاهدة في الآخرة والمعلوم في الدنيا اختلاف إلا من حيث زيادة الكشف والوضوح، مذكرا بقوله وتعالى: { يوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } سورة التحريم الآية:8.
وواصل القادري مؤكدا أن معرفة الله هي الغاية القصوى من المقامات، والذروة العليا من الدرجات، فما بعد إدراك هذه المعرفة مقام إلا وهو ثمرة من ثمارها، وتابع من توابعها كالشوق والمحبة والأنس والرضا، أو مقدمة من مقدماتها كالتوبة والصبر والزهد.
وأضاف أن معرفة الله هي الغاية القصوى التي خلقنا من أجلها، مذكرا بقوله تعالى في محكم تنزيله { وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ والانْسَ إلاَّ ليَعْبُدُونِ} سورة الذاريات، الآية:.56، و فسر الآية بقول مجاهد: « إلا ليعرفون » فالمعرفة فعل القلب وهي سر الحياة، وما خلقنا إلا للعبادة ؛ أي للمعرفة التي هي أساس خلق الله سبحانه وتعالى للجن والإنس.
وزاد أن معرفة الله تعالى روح وجوهر العبادة وهو رجوع بالنفس إلى الفطرة وهو وفاء بعهد سابق حينما أخذ الله العهد على الأرواح بالميثاق الأعظم الذي أشهدهم عليه في عالم الذر، مستشهدا بقوله تعالى “وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ” (سورة الأعراف الآية 172)، إضافة الى أحاديث نبوية شريفة وأقوال العلماء.
وتطرق الى قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ *الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ *إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ *فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ لأِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ *أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ *الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [المؤمنون: 1 – 11] ، لافتا الى أن هذه السورة تبدأ بتقرير الفلاح للمؤمنين بهذا التَّوكيد: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾، ثُمَّ تصف هؤلاء المؤمنين بذلك الوصف المطوَّل المفصَّل، الذي يُعْنَى بإِبراز الجانب الخلقي لأولئك المؤمنين، موحياً إيحاءً واضحاً أنَّ هذه الأخلاقيات – من جهةٍ – هي ثمرة الإيمان، وأنَّ الإيمان – من جهةٍ أخرى – هو سلوكٌ ملموسٌ يُترجِم عن العقيدة المكنونة.
وأكد أن الأخلاق ليست شيئاً ثانوياً في هذا الدِّين، وليست محصورةً في نطاقٍ معيَّنٍ من نُطُقِ السُّلوك البشريِّ؛ إنَّما هي ركيزةٌ من ركائزه، كما أنَّها شاملةٌ للسُّلوك البشريِّ كلِّه، لأنها التَّرجمة العمليَّة للاعتقاد، والإيمان الصَّحيح؛ وتابع أن الإيمان ليس مشاعر مكنونةً في داخل الضَّمير فحسبٍ؛ إنَّما هو عملٌ سلوكيٌّ ظاهرٌ كذلك، وزاد “يحقُّ لنا حين لا نرى ذلك السُّلوك العمليَّ، أو حين نرى عكسه أن نتساءل: أين الحديث عن أن المعرفة العقلية للنصوص تكفي وحدها دون تربية قلبية قوامها الخشية من الله إذاً؟ اين هذه المعارف و المفاهيم العقلية وما قيمتها إذا لم تتحوَّل إلى سلوكٍ؟!”
وانتقد ظن كثير من الناس أن العبادة مقصورة على أمهات العبادات كالصلاة والزكاة والصيام والحج وإنها وحدها تكفي العبد في دنياه و آخراه ، مشيرا الى أنهم نسوا أو تناسوا احاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العبد المفلس وعن المرأة العابدة التي تدخل النار لأنها تؤذي جيرانها، مستشهدا بقوله تعالى : (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام:162-163]، موضحا أن معناها ” اننا متعبدون لله في وظائفنا، ومتعبدون لله في تجارتنا، ومتعبدون لله في مستشفياتنا و صحتنا ، ومتعبدون لله في طرقنا و مشاريعنا التنموية، ومتعبدون لله في سفرنا وإقامتنا، ومتعبدون لله في سرنا وجهرنا، متعبدون لله في أسماعنا وأبصارنا وألسنتنا وقواتنا، و متعبدون لله في حياتنا وموتنا”
وأضاف “أنه لو استشعر المسلم معنى الآية: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ما أخل بوظيفته، ولا غش في تجارته، ولا تهاون في أمانته، و لو استشعرنا معنى هذه الآية ما سمعنا عن الرشوة وأهلها، ولا سمعنا عن الغدر و الخيانة، ولا سمعنا عن الغش وأهله، و لو استشعر المسلم معنى هذه الآية لما مد يده للحرام، ولما وقع في الآثام، ولراقب العزيز العلام”.
وحذر من أن “أنكد العيش عيشُ قلبٍ مشتَّت، وفؤاد ممزَّق ليس له قصدٌ صحيح يبتغيه ولا مسار واضح يتَّجه فيه، تشعبت به الطرق، وتكاثرت أمامه السبل، وفي كل طريق كبوة، وفي كل سبيل عثرة، حيرانَ يهيم في الأرض لا يهتدي سبيلا، ولو تنقل في هذه الدروب ما تنقل لن يحصل لقلبه قرار، ولا يسكن ولا يطمئن ولا تقر عينُه حتى تدركه العناية الإلهية… يقول سبحانه و تعالى في مُحْكَم كتابه: (إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)( سورة العصر) “.
وبين أن الأجْدر بالمؤمن أن يتحرّى من الأصحاب من يدعوه إلى الخُلُق الحسن، وذلك لتوجيه النبي -صلى الله عليه وسلم-: (المؤمنُ مرآةُ المؤمنِ والمؤمنُ أخو المؤمنِ يكفُّ عليه ضيعتَه ويحوطُه من ورائِه) منسجما مع ما ورد في قوله تعالى ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ( سورة التوبة119)
و أضاف أن مَن أراد الله به السعادة شَرَح صدرَه للإسلام، فقَبِله وعمل عمله، ومَن أراد به جذب العناية وتحقيق الولاية، شرح صدره لطريق أهل مقام الإحسان، وهيّأ نفسه لصُحبتهم و التأسى باخلاقهم المستمدة من أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما زالوا يقطعون به مهام النفوس و تزكيتها حتى يقولون له: ها أنت وربك، فتلوح له الأنوار، وتُشرق عليه شموس المعارف والأسرار و المحبة الالهية، حتى يفنى ويبقى بالله خالصا في عبادته و معاملته لوجهه الكريم .
وتابع أن حقيقة المعرفة هي التربية الصوفية التي تطهر القلوب و تورث الخشية والمراقبة و الإخلاص لله في القول و الفعل ، وأن هذه المعرفة هي التي عليها مدار السعادة وبلوغ الكمال والترقي في درج الرفعة، ونيل نعيم الدنيا والآخرة، والظفر بأجلِّ المطالب وأنجح الرغائب وأشرف المواهب، وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
وأكد أن معرفة العبد للمعبود هي غاية التربية الروحية، والسلوك الصوفي، وذلك بالسير بالمريد عبر “مقامات” التربية، و”أحوال” التزكية؛ حتى يصل إلى تحقيق خُلَّةِ “اليقين و المشاهدة و المراقبة” في نفسه؛ خُلُقاً تعبديا أصيلا صادقا، يمتد في سلوكه وطبيعته إلى سائر المجالات لأن المعرفة تفيض مواجيدها في السلوك العام للإنسان. وهذا سر القوة في التربية الصوفية.
وأردف “أن التربية الصوفية تفتح باب الأمل دائما للناس؛ بما تسلك بهم من منازل على سبيل التدرج. والناس في الدخول إلى أول عتبات التربية جميعا مقبولون! وهذا معنى عظيم جدا ؛ فلا إقصاء لأحد! إذ التصوف يعتمد منـزلة التوبة بابَ أملٍ للعباد، مفتوحا أمام القلوب في كل وقت وحين، وهنا يكمن نجاح الفكر الصوفي السني في الاستيعاب الشامل للمجتمع، والإدماج الكلي للناس في حضنه الدافئ”.
و أكد أن طريق المجاهدة عند الصوفية يبدأ بتحقيق التوحيد و بالإيمان، ولا يبدأ بالمعرفة، وانه تجب عندهم أولا معرفة ما لا تصح العبادة إلا به من أمور الشريعة، ثم يعبدون، ويترقون إلى معرفة الله.
وأورد قول الإمام ابن تيمية في التصوف والصوفية : “أنهم مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطئ وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب، ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه عاص لربه ” الذي ذكره الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي؛ في ” طبقات الصوفية ” وذكره الحافظ أبو بكر الخطيب في تاريخ بغداد.
وأشار الى أن من أهم مميزات الخصوصيات المغربية في المجال الديني التصوف السني الجنيدي الذي هو جزء لا يتجزأ من الدين و هو مقام المراقبة و علم النية و علم من علوم الدين الإسلامي الذي أسهم بشكل كبير كرصيد تربوي عرفاني في تشكيل الوجدان الديني، والسلوك الاجتماعي الوطني للمغاربة؛ وأن أصحابه يساهمون في بناء الإنسان المسلم المتكامل في توازن بين بعده الروحي والمادي ، موردا قول الامام الغزالي ” أن طريقهم تتم بعلم وعمل “.
وأكد أنها حقيقة تاريخية راسخة وفلسفة هدفها الرقي روحيا وأخلاقيا بالنفس البشرية وتزويدها بقواعد وقيم ومبادئ تساعدها على تحقيق ذاتها والوصول إلى الحقائق عبر ممارسات روحية ، وأن كتاب قواعد التصوف للشيخ المغربي زروق خير دليل على المنهج السليم السني للصوفية في المغرب وتقديم المجاهدة لمحو الصفات المذمومة وقطع العلائق كلها، والإقبال بالكلية على الله تعالى، موردا مقتطفا من كلام أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس حفظه الله في رسالته السامية الموجهة إلى المشاركين في لقاء سيدي شيكر الأول يوم الجمعة 10 شتنبر 2004 التي أكد فيها هذا المعنى بقوله : ” لقد استوعب أبناء هذا البلد الطيب منذ اعتناقهم للإسلام أن جوهر الدين هو تزكية النفس وتطهيرها من الأنانية والحقد والتعصب وتحليها بمكارم الاخلاق والتسامي عن الشهوات المذلة للقلب والروح والعقل بضبط النفس ومراقبة سلوكها اليومي، ابتغاء للاكتمال الروحي المصطلح عليه ب “التصوف”.
والى جانب مداخلة الدكتور منير القادري، عرفت الليلة الرقمية التاسعة والثمانين ادراج عدد من الشهادات لعدة شخصيات من خارج المغرب حول تجربته الدينية والروحية في أحضان الطريقة القادرية البودشيشية، كما عرفت إسهامات علمية وذوقية لعلماء وباحثين باللغتين الإنجليزية والفرنسية الى جانب اللغة العربية، إضافة الى تقديم فقرات تعنى بالثقافة القانونية والتنمية الذاتية، ووصلات من بديع السماع والإنشاد، كما تم تقديم تعزية باسم مشيخة الطريقة القادرية البودشيشية ورئيس مؤسسة الملتقى في وفاة كل من النقيب إبراهيم السملالي، الأمين العام الأسبق لاتحاد المحامين العرب، والنقيب الأسبق لهيئة المحامين بالدار البيضاء، والفنان عبد القادر البدوي الذي قدم للمسرح المغربي الشيء الكثير، وكذا الفنان عبد اللطيف هلال المعروف بأعماله الإبداعية والفنية المتميزة ، إضافة الى الأديبة والشاعرة والإعلامية، عزيزة يحضيه عمر شقواري رئيسة رابطة كاتبات المغرب.