إننا نعيش في واقع ليس ملائكياً، ولا شيطانياً، ولكن فيه الخير والشر، ومنا من يغلب خيره على شره، ومنا من يغلب شره على خيره، والتعامل مع النفوس البشرية يحتاج إلى صبر وحكمة ودراية بهذه النفوس، ولكن أحياناً ينسى الإنسان الأسس الصحيحة للتعامل مع الآخرين؛ مما يسبب مشاكل وخصومات أحياناً تصل إلى ساحات القضاء، ومن أشد أنواع الخصومات الخصومة الفاجرة، فصاحب هذه الخصومة ألد، أي تتسم خصومته بالشدة والعنف ومجاوزة حد الاعتدال، والانتقال من تأييد الرأي إلى التنديد والتهكم والسخرية وغير ذلك من الصفات الذميمة.
ومن الخصومة الفاجرة الشماتة في مصائب الناس خاصة المختلفين معنا، فقد تصل الشماتة حتى في الموت، بل ويصل الأمر إلى الحكم على من مات بأنه ضال أو فاسق أو كافر! أو أنه أراح الله منه البلاد والعباد…إلى غير ذلك من مظاهر الخصومة الفاجرة. واللدد في الخصومة شر للأمة؛ لأنه مضيعة لجهودها ومجدها وحضارتها ومصالحها، بل إنه يجعل الأمة في تنازع وفشل مما يؤدي إلى ذهاب قوتها، فتصبح لقمة سائغة لأعدائها، كما أن الخصومة الفاجرة شر للمتخاصمين؛ لأنها تؤدي إلى التحاسد والتباغض والتدابر وقطع الروابط بين الناس، وإشعال نار العداوة والحقد بينهم، مما يؤدي إلى فساد الأسر والمجتمعات، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْـخِصَامِ 204 وَإذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْـحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 204، 205]، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن أبغض الرجال إلى الله الأَلَدُّ الخَصِمُ»[1].
كما أن الفجر في الخصومة وخاصة المتعلقة بالأمور السياسية والشرعية يؤدي إلى التهاجر والتنابز وتبادل الاتهامات، حيث تتوالى التهم المعلبة والمجهزة بطريقة احترافية شيطانية على الرموز العلمية والفكرية والدعوية والسياسية، وقد تصل هذه الاتهامات إلى الرمي بالفسوق أو الكفر، وقد تنسي هذه الخصومات مصالح البلاد والعباد.
منهج الإسلام في الوقاية من الخصومة الفاجرة ومعالجتها:
للإسلام منهج واضح في علاجه للمشكلات والأمراض القلبية والخلقية وغير ذلك من الإشكالات التي تواجه الفرد والمجتمع، حيث يضع منهجاً وقائياً يحصن به الإنسان كي لا يقع فريسة في حبائل أهوائه ورغباته وشهواته وشيطانه، وإذا ضعفت هذه النفس البشرية أو خرجت عن نطاق الوقائية لا يتركه حائراً بل يقدم له العلاج الناجع، ومن هذا المنطلق حدد الإسلام منهجاً وقائياً وعلاجياً للخصومة الفاجرة، نذكر بعضاً منه لأهميته:
• اجتناب كل ما يؤدي إلى الخصومة الفاجرة، وقد جاء ذلك في نصوص شرعية كثيرة منها، قوله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً» [2].
• الرفق واللين بالمتخاصم حتى يرجع لرشده وتلين عريكته، قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله» [3]، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه» [4].
فعند التخاصم في النطاق الأسري بين الزوجين أو بين الأبناء بعضهم البعض، أو بين الآباء والأبناء يأتي الرفق واللين ليقي الأسرة نتائج هذا الخصام كما أنه يزيل الشقاق والنزاع، كما أن الرفق يقي أفراد المجتمع التصادم والتناحر.
• احترام الآراء وقبول الآخر، فليس هناك أحد يمتلك كل الحقائق وحده، والكل يحتاج إلى الآخر، فمشاركة العقول في الأفكار أهم من مشاركة الأبدان في الأعمال.
• حفظ الألسن وعدم الخوض في عرض المتخاصم، وعدم المبالغة في الخصومة حتى نترك للصلح موضعاً، قيل لأبي سفيان رضي الله عنه: ما بلغ بك من الشرف؟ قال: ما خاصمت رجلاً إلا جعلت للصلح موضعاً [5].
• التحذير أن نسلك طريق المنافقين عند الخصومة، قال صلى الله عليه وسلم: «أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فَجَر، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق، حتى يَدَعَها» [6].
• الاحتكام إلى الشرع وتنفيذ ما نؤمر به، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّـمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، والاحتكام في الأمور العلمية والثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية إلى أهل الخبرة في هذه المجالات.
[1] متفق عليه، من حديث عائشة رضي الله عنها.
[2] متفق عليه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] متفق عليه، من حديث عائشة رضي الله عنها.
[4] أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآدب، باب فضل الرفق، من حديث عائشة رضي الله عنها.
[5] تاريخ دمشق، لابن عساكر 23/471.
[6] متفق عليه، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.