كلما مرت الأيام والشهور والسنون ازداد تعلقنا به، وفهمنا لفلسفته وحكمته وكلماته البانية، ونمت أشجار الخير والعطاء التي غرسها في حياته، فازدادت ثمارها، وكثرت ظلالها، وتكشفت لنا بعض الخبايا والأسرار التي كانت بينه وبين الله (سبحانه وتعالى)، ومن ضمنها: أن أحد طلابه الذين كان يُشرف عليهم، انقطعت صلته به تمامًا، ( وكان كفيف البصر ) فظلَّ يسأل عليه، ويبحث عنه، ( ولنا أن نتخيل أن الأستاذ هو مَن يبحث عن تلميذه)،
حتى عثر على عنوانه، وكان من إحدى المحافظات المصرية، فقطع بنفسه مئات الكيلومترات بسيارته الخاصة، حتى وصل إلى منزل هذا الطالب، وتعرف على أسباب انقطاعه، والتحديات التي تواجهه في إعداد رسالته، فتواصل مع أحد أصدقائه من السادة المسؤولين الكبار في هذه المحافظة، وطلب منه أن يكلف شخصًا يساعد هذا الطالب الكفيف،
ويقرأ له، ويكتب ما يمليه عليه، حتى ينتهي من إعداد رسالته، وقد كان حتى ناقش الطالب وحصل على الدرجة العلمية.
ومنذ شهور اتصل بي الإذاعي الكبير سعد المطعني، وقال لي حازم عبد الوهاب مدير عام الإذاعات المصرية الموجهة للخارج ( أحد تلاميذ الدكتور مجاهد )، يريد أن يحدثك، فرحبت به، وقال لي: أستاذنا الدكتور مجاهد كان فلتة من فلتات الزمان، كان بشوش الوجه، جميلا جليلا، طيب القلب جدًّا، يعشق جبر الخواطر.
ولما كنت أمشي معه في أي مكان كانت الناس تهتف باسمه في الشارع وينادون عليه ويفرحون برؤيته، فقد كان مراعيًا للنفوس البشرية بشكل قلَّ نظيره في دنيا الناس، وكان يعلمنا ألا نشتري من بائع واحد على الدوام؛ بل نشتري من كثير من البائعين حتى نجبر بخاطرهم، وكان متواضعًا جدًّا مع كل الناس، لاسيما العمال والصغار.
ويستطرد مدير عام الإذاعات الموجهة : لقد كانت بداية تعلقي بالراحل العظيم أنني كنت في الفرقة الثالثة في كلية اللغات الترجمة جامعة الأزهر، وإذا به يبحث عني حتى حصل على عنوان بيتي في محافظة الجيزة. وذات يوم وجدت أحدًا ينادي عليَّ من أمام منزلي، فنظرت من الشرفة
فإذا بي أجد الدكتور مجاهد الجندي بنفسه هو مَن ينادي، فقال: انزل يا بُني، فنزلت من فوري، ففتح حقيبة سيارته، وجاء لي بزيارة (هدية) عبارة زجاجات شربات، وأكياس من السكر وجوال من الأرز، وفاكهة تسمى الشمام…إلخ، وقال هذه هدية نجاحك وتفوقك، فتعجبت! فقال: طلَّع هذه الأشياء عندك!، ثم قال لي: الحاج موجود يقصد الوالد؟ فقلت نعم: فطلع ليسلم على والدي ، وهو صاعد السلم ظل ينادي ببساطته وعلى سجيته: يا حاج عبد الوهاب.. يا حاج عبد الوهاب، أهنئك يا أخي، ألف مبارك، ابنك حصل على امتياز في مادتي، وحصل على جيدا جدا في التقدير العام، دي حاجة مشرفة،
وأنا أقسمت بالله أن الذي سيحصل على امتياز في مادتي، لازم أزوره، وأزور أهله، وأجيب له هدية!! ويا لها من مفاجأة عظيمة!!. وقال لوالدي: لازم ابنك حازم يأتي لزيارتي ويستفيد من مكتبتي، ابنك له مستقبل باهر، ولازم نكون على وصال مع بعض، وقد كان حتى قبيل وفاته رحمه الله… وقال: “الناس دائما تحكي حكايات وذكريات جميلة كثيرة جدا مع الأستاذ الدكتور مجاهد الجندي، تدل على أنه كان زبحق فريدًا وعظيمًا وكريمًا”.
وقد خصص الزميل الدكتور وليد كساب فصلا في كتابه الماتع “أحاديث وأسمار”، للحديث عن مؤرخ الأزهر (رحمه الله)، فقال: “قليلون هم الذين ينذرون حياتهم للعلم.. يبذلون من أجله كل نفيس.. يعيشون بين الأخفياء.. لا يثيرون كثير ضجيج.. لا يباهون بعلم حصَّلوه.. يواصلون العمل ويصلون الليل بالنهار من أجل العلم فحسب”.. ويستطرد: “عرفت د/ مجاهد الجندي (رحمه الله) عن قرب منذ عام 2001م، مع بداية عملي برابطة الجامعات الإسلامية بصحبة ابن شقيقتة الدكتور أحمد علي سليمان المدير التنفيذي لرابطة الجامعات الإسلامية؛ فعاينتُ حماسه الشديد للأزهر وحرصه على جمع كل ما يتعلق بتاريخه المجيد، منذ كان فكرة حتى صار مقصد المسلمين وقبلة الدارسين عبر السنين.
وكان قريبا من الشيخ جاد الحق شيخ الجامع الأزهر (رحمه الله)؛ إذ آنس منه حبًّا شديدًا للأزهر ورجاله، كما ربطته رابطة قوية بالشيخ محمد الغزالي (رحمه الله) وقت أن كان مبعوثًا في الجزائر مع الشيخ.
كان الدكتور الجندي معنيًا بعلم الأنساب والتدقيق في أصول العائلات، ولا أظنه سئل مرة عن أصل من الأصول أو بطن من البطون إلا كان عليمًا بها وخبيرًا بفروعها، حتى كان بعض الناس يسأله ولا يتوقع أن يجد منه جوابًا، فيتفاجأ بمعلومات الرجل الثرة الغزيرة التي تنبئ عن عالم ثبت راسخ القدم في التاريخ!. عرفته (رحمه الله) ودودًا مجاملا بارًّا بتلاميذه وأهله برًّا لا مثيل له، كذلك كانت تربطه بأهل قريته وشائج قوية متينة؛ وهذا مِن طبع الكرام، فكم رأينا أناسًا نسوا أصولهم، وتنكروا لأهلهم ومسقط رأسهم، وقطعوا كل سبيل بينهم وبين بني جِلدتهم.. كان الرجل لين الجانب سموحًا جوادًا كريمًا يفتح بيته لطلاب العلم فيمدهم بما شاءوا من الكتب والمراجع التي لا يستطيعون الوصول إليها، وكان رحيمًا بهؤلاء معتزًا بهم،
وهنا لابد لنا من وقفة متأنية؛ فالعلاقة بين العالم والمتعلم ليست علاقة عابرة قائمة على المصلحة؛ لكنها أصرة علم مقدس لا تنفك عُراها أبدًا، فالعلم رحمٌ بين أهله، وما نفع عالمًا بعد موته أكثر من علم يورث؛ لأنه لو حظي بالولد الصالح الذي يدعو سيكون ذلك لجيل أو جيلين؛ لكن العلم باق إلى يوم يبعثون. لقد كانت حياته في العلم عجيبة كل العجب. فما رأيته مرة إلا متأبطًا كتابًا أو ممسكًا بوثيقة نادرة، وكم أطلعني على أدوات نادرة للكتابة من عدة قرون، كان يُنفِق أموالا طائلة للحصول على هذه النوادر التي تنوء بها المؤسسات الكبرى… فرحمة الله عليه إلى يوم الدين”.
وأعود إلى يوم 26 من ديسمبر هو يوم أليم على نفسي وقلبي وعقلي ووجداني؛ سمعت فيه صرخات قلبي بأم رأسي فيه فقدت إنسانا تجسدت في نفسه كل معاني الإنسانية، بحيث لا تستطيع الكلمات أن تصف مقامه ومكانه ومكانته في سويداء قلبي… فيه فقدت أغلى وأرقى وأعظم إنسان
فقدت الرافد المتدفق بالعطاء والداعم والسند بعد الله تعالى.. فقدت الموجه والمعلم والمربي، باعث الأمل، وشاحذ الهمم.. ومهدئ الروع ناشر الخير، وباذل المعروف
الذي عاش في دنيا الناس على طبيعته وسجيته الطيبة وسجايا الطيبين والصالحين فقدت مَن علمني صناعة الخير، وصناعة الإتقان، وصناعة المجد، والتواضع مع كل مخلوقات الله، وفتل حبال العلائق الطيبة مع الجميع… فقدت مَن وضع أقدامي مبكرًا على الطريق الصحيح والمسار الآمن..
وما تزال أقواله وعباراته الخالدة تطرب القلب والعقل وتطرق الأذن والوجدان، ومن بينها: ( الخير قادم.. الخير قادم.. الخير قادم… والمستقبل يحمل الخير )، (وأنت ماشي لازم تراضي الناس وتجبر بخاطرهم وتتواضع معهم)، (الجواب اللين يصرف الغضب)، (إرضاء الناس غاية لا تُدرك وإرضاء الله غاية لا تُترك)، (الطعام الجيد يطرد المرض)،
وأيضا كان يحذر من الإفراط فيه فيقول: (مَن أكل كثيرًا نام كثيرًا، ومن نام كثيرًا فاته خير كثير)، ( اللي يتعب وهو صغير يستريح وهو كبير، واللي يستريح وهو صغير يتعب وهو كبير )،
وكان يعشق التاريخ فيقول : ( مَن حوى التاريخ في صدره، فقد أضاف أعمارًا إلى عمره) وغيرها من العبارات الجليلة التي دائما ما كان يرددها لتلاميذه، وفي كل مكان، وكان لصدقه وصدق أقواله تسري في أوصال طلابه ومحبيه، باعثة في نفوسهم الأمل والعمل والإتقان .
وأمس الموافق 26 ديسمبر 2021م تحل علينا الذكرى الثالثة لرحيل رجل من أغلى الرجال، وعالم كبير لا يُشق له غبار، إنه فضيلة الأستاذ الدكتور مجاهد توفيق الجندي، أستاذ التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية بكلية اللغة العربية جامعة الأزهر، وعضو اتحاد المؤرخين العرب، وعضو اتحاد الآثاريين العرب، وعضو إتحاد كُتَّاب مصر، وعضو الجمعية المصرية للحفاظ على التراث المصري، وعضو جمعية أصالة لرعاية الفنون التراثية والمعاصرة بوزارة الثقافة المصرية، والملقب بـ “مؤرخ الأزهر”.
وهو صاحب حملة: “يا سادة : أنقذوا ما بقي من تراث الأزهر”، التي نشرت في مجلة منبر الإسلام “العدد التذكاري” بمناسبة الاحتفال بالعيد الألفي للأزهر الشريف 1983م، وكانت لها دوي هائل لدى المسئولين، ووضعت بمقتضاها الخطط والترتيبات المالية لإنشاء مكتبة جديدة تليق بالأزهر العملاق في عهد الإمام الأكبر الراحل الشيخ جاد الحق شيخ الأزهر (رحمه الله)، وقد خصصت إذاعة القرآن الكريم بالقاهرة برنامجًا حواريًّا له بعنوان: “الأزهر تاريخ ورسالة” عام 2008م مع الإعلامي القدير عادل عبد القادر، مدير عام التنفيذ السابق بإذاعة القرآن الكريم، واستعانت به إدارة راديو وتليفزيون العرب ART في مراجعة عدة أفلام ومسلسلات إسلامية وتاريخية (مراجعة دينية وتاريخية) قبل عرضها، ومن بينها: “بستان الإسلام، وهدهد له أسرار” سنة 1992م. وأشرف على أكثر من 20 رسالة للماجستير والدكتوراه، وقام بعمل معرض “وثائق الأزهر وتراثه” في الأسبوع الثقافي الذى أقيم في مركز صالح كامل في جامعة الأزهر بالاشتراك مع جامعة اليرموك الأردنية، كما قام بعمل عدة معارض للخط العربي وأدوات الكتابة، في الجزائر والباكستان وعدة دول أخرى. وكان خطاطًا موهوبًا، وعازفًا بارعًا للناي،
وقد شارك في حرب أكتوبر 1973م وكان وقتها برتبة ملازم أول في سلاح المدرعات، وكان محبًّا للخير عطوفًا متيمًا بقريته وأهلها وذوي رحمه، والذي رحل عن عالمنا عصر يوم الأربعاء 17 ربيع الثاني 1440هـ/ 26 ديسمبر 2018م، عن عمر ناهز 76 عامًا، قضاها في العلم والبحث والتدريس والتوثيق والتأليف والإبداع في تربية تلاميذه.
مولده ونشأته ونتاجه:
ولد الدكتور مجاهد توفيق علي الجندي يوم 9 يناير عام 1942م بقرية بِلُوس الهوى – مركز السنطة – محافظة الغربية، وتتلمذ على كبار علماء عصره أمثال الدكتور بدوي عبد اللطيف، والدكتور محمد الطيب النجار، رئيسا جامعة الأزهر السابقين، والدكتور عبد العزيز غنيم،… وغيرهم، وكان شغوفًا بالتربية الإسلامية والتأريخ لها، وتميزت كتاباته بالموسوعية والتوثيق بالوثائق النادرة،
حيث ألَّف عدة موسوعات، من أبرزها: دراسات وبحوث جديدة في تاريخ التربية الإسلامية، وموسوعة تاريخ الأزهر الشريف في الاحتفال بالعيد الألفي للأزهر، وموسوعة الجامع الأحمدي شقيق الجامع الأزهر، وموسوعات في الكتابة العربية والفنون الإسلامية، وكان (رحمه الله) شغوفًا بالكتابة الموثقة بالوثائق النادرة عن العلماء والأدباء والمفكرين، وقضى عمره متجولا بين القرى والنجوع في شتى ربوع مصر؛ لجمع معلومات ووثائق عن العلماء والفقهاء وتوثيق تراثهم.
شخصيته:
اتسمت شخصيته بالأصالة والبساطة والتواضع والعفاف وحب الناس والكرم والسخاء لدرجة أنه كان يكاد يُخرج اللقمة من فمه ليعطيها للآخرين، خصوصًا الطلاب الوافدين، وكان منفتحًا ومستنيرًا على شتى التيارات الفكرية والثقافية، وكان من أرباب الصوت الجميل الخاشع بالقرآن العظيم، وكان (رحمه الله) رائدًا في رعاية طلاب العلم الوافدين من شتى البلاد للدراسة في الأزهر الشريف، ودعمهم وتفقد أحوالهم، يحنو عليهم ويسعى في تحقيق مطالبهم، ويدبر أمورهم حتى لا يشعروا بآلام الغربة، وكانت مكتبته وبيته مفتوحًا لهم ولطلاب العلم على الدوام، وكان دائمًا ما يبعث الأمل في النفوس بعباراته الشهيرة: “الخير قادم.. الخير قادم.. الخير قام.. المستقبل يحمل الخير”.
كان رجلًا من خيرة الرجال، وعالمًا ومؤرخًا ومدققًا ومحققًا في التراث ومجاهدًا كبيرًا لا يُشق له غبار، وكان يعشق التميز والتفرد في كتاباته وأبحاثه ومؤلفاته، يغوص في بحار المخطوطات، ويفتش في أعماق ركام الكتب والمراجع القديمة ،ويرمم المخطوطات المتهالكة؛ ليخرج للعلماء والباحثين والدارسين والمهتمين لآلئ التاريخ محققة موثقة بأندر الوثائق، ومن ثم يأتي للعالم بالجديد، ويقول لطلابه: “لابد أن نترك المطروق، ونطرق المتروك” أي نبحث فيما تركه الناس ونبرع فيه.
علاقته بالشيخين: محمد الغزالي، وجاد الحق (رحمهم الله جميعا ) :
كانت للدكتور مجاهد آراء سديدة في آليات تطوير الأزهر الشريف، وكان رحمه الله من المقربين جدًّا من فضيلة الإمام الأكبر الراحل الشيخ جاد الحق على جاد الحق شيخ الأزهر الشريف (رحمه الله)، -كما أشرنا- وقد مثَّل فضيلته في كثير من المحافل الدولية، ومثَّله في جامعة الدول العربية،
وكان من أشد المدافعين عن القدس الشريف، ومن كبار المتضامنين مع الأخوة الفلسطينيين، وقد زامل فضيلة الشيخ محمد الغزالي (رحمه الله) في التدريس بجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بمدينة قسنطينة بالجزائر فور افتتاح الجامعة في بداية الثمانينيات من القرن الماضي،
كما درَّس في الجامعة الإسلامية العالمية بإسلام آباد وقضي هناك عدة أعوام، ودرَّس أيضا في الجامعات اليمنية والليبية وغيرها.
قالوا عنه:
استأذن القارئ الكريم أن أنقل له بعضًا مما سطّره العلماء وقادة المؤسسات ورؤساء الجامعات حول العالم عنه (رحمه الله)، حيث نعاه معالي الشيخ الدكتور أحمد بن يوسف الدريويش، رئيس الجامعة الإسلامية العالمية بإسلام آباد بباكستان ( أمد الله في عمره)، بقوله: “كان أستاذًا جامعيًّا قديرًا جادًّا، وواحدًا من أعلام الأزهر الميامين، ورجاله الصادقين، كان حجة في الأنساب، وصاحب ذاكرة قوية، وكان ( رحمه الله) طيبًا سمح النفس لا يهتم إلا بالجوهر، يدلف إلى القلب من أول وهلة، وكان مؤرخًا من طراز رفيع لا يُشق له غبار، تمكنت صفة الجد والاجتهاد في أقواله وأفعاله وتصرفاته”.
ونعاه مجلس الأئمة الفيدرالي بقارة أستراليا في بيان له جاء فيه: “كان واحدًا من كبار العلماء المحققين والموثقِين لتاريخ الأمة الإسلامية وحضارتها.. صاحب الأعمال العلمية والموسوعية الفريدة، والذي تفنن في خدمة التراث الإسلامي، وخدمة طلاب العلم الوافدين للدراسة بالأزهر الشريف، والذي كان محل ثقة شيوخ الأزهر”.
ونعاه القاضي الدكتور: ماهر خضير، عضو المحكمة العليا في فلسطين: “والحق لقد فقدت الأمة الإسلامية عالمًا وعلمًا ومؤرخًا إسلاميًّا كبيرًا له تاريخ بل عنده وبحوزته تاريخ الأمة والتاريخ الإسلامي، كان شغوفًا ومحبًّا للأقصى المبارك، قال لي ذات يوم إن أمنيته هي الصلاة في المسجد الأقصى المبارك والدعاء فيه، وكان دائمًا يوصيني بالدعاء له في المسجد الأقصى، وكان (رحمه الله) دائما عندما ألتقي به في المعادي -وهو مكان مسكنه الذي لا يبعد كثيرًا عن شقتي بالمعادي بالقاهرة- يقول لي: متى ستأخذني إلى القدس الشريف للصلاة في المسجد الأقصى، وفي يوم الجمعة 28/12/2018 حققنا للدكتور مجاهد جزءًا من أمنية كان يتمناها، حيث صلينا عليه صلاة الغائب وعونا له في المسجد الأقصى المبارك، ولكن بعد وفاته”.
ونعاه الإتحاد العام للآثاريين العرب على لسان أمينه الأستاذ الدكتور محمد الكحلاوي: “ببالغ الحزن والأسى والألم ننعي للعالم العربي فقيد العلم والعلماء، الذي كان له باع كبير في دعم مسيرة الاتحاد منذ أكثر من عشرين عامًا”.
ونعته جامعة بلاد الشام بمجمع الفتح الإسلامي بدمشق على لسان رئيسها حسام الدين محمدد صالح فرفور: “عرفنا في الأستاذ الدكتور مجاهد الجندي العالِم العامِل المجاهد حقًّا في نشر رسالة الإسلام، والحرص على الإفادة والاستفادة والتوثيق والتأريخ، مع صفاء السريرة، ونقاء الطوية، وكرم النفس، ونبل الطبع والأنس، حاملا لواء الأزهر الشريف، لواء العلم والحقيقة، لواء العروبة والإسلام، لواء مصر بلد العروبة والإسلام والعلم والحضارة والأزهر الشريف”.
ونعته جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بالجزائر على لسان رئيسها الأستاذ الدكتور السعيد دراجي: “كان أستاذًا متميزًا في التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، نشطًا في رابطة الجامعات الإسلامية، وأستاذًا سابقا بجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة، زامل الشيخ محمد الغزالي في الجامعة ودرَّس السيرة النبوية لأبنائنا، فكان إضافة علمية مميزة”.
قال عنه العلامة الأستاذ الدكتور سعيد إسماعيل علي، المفكر التربوي الكبير: “كان من العلماء الأفاضل الذين يتصفون بأنبل الصفات وأكرمها، الذين ينصرون دعوة الله، وينشرونها، ويدافعون عنها… وكان في مقدمة من فعل ذلك، أقول ذلك عن خبرة به، ومتابعة، لا مِن قبيل المجاملة والمواساة، والله على ما أقول شهيد”.
وقال عنه الأديب الكبير الأستاذ الدكتور محمد طه عصر: “أُشهد الله أنه كان مثقوب الجيب والكف، ينطوي على عرق حاتمي، ينفض يديه بالكرم، ويجعل لمن أكل طعامه وشرب شرابه حق الأخوة، كما تكون الرابطة بين إخوة الدم والرضاع”.
وقال عنه الدكتور السيد نجم: “كان رحمه الله أزهرًا يمشي على الأرض”.
ووصفه الأستاذ الدكتور عبد المنعم العدوي بأنه “كان ذاكرة الأزهر البشرية قبل اختراع الذاكرة الرقمية”.
وقال عنه خالد الشيخ: “عن أي مجال نتحدث عن الدكتور مجاهد؟ عن الدكتور، أم الشيخ، أم الفنان، أم الإنسان، أم العالِم، أم المحب لأهله وقريته ودينه ووطنه.. لقد عشق التاريخ؛ حتى أصبح هو نفسه تاريخًا.. لم أنس أنه المريض الوحيد الذي رأيته يُعطي لزائريه العطايا الكثيرة -حتى وهو في العناية المركزة- ولا يأخذ منهم هداياهم.. اللهم ارحمه وعافه واعف عنه”.
وقال عنه تلميذه قمر الدعبوسي: “كان كالجبل الأشم تهفو العيون والقلوب إليه.. سحرنا بأسلوبه اليسير وعلمه الغزير.. تغذينا من علمه وطرائفه وطيبة قلبه، وكان يجعلك كأنك تعرفه منذ سنوات”.
ونعاه زميله وحبيب قلبه الأستاذ الدكتور عبد المقصود باشا، بقوله: “كان -رحمه الله- رجلًا صالحًا، وكان قلبُه كالمسك وربُّ الكعبة، والله والله ما رأيت رجلًا طيب القلب، زكي النفس مثل هذا الرجل؛ ما حمل في حياته غضاضة لأحد؛ حتى مَن أساء إليه لا يذكره بسوء، وهذه نادرة النوادر في هذا الزمان!! إنه بسمة زمانه، وعنصر أمانه، يخالجك شعور وأنت تجلس معه أنك مع إنسان مؤتمن عليك، فتبيح بما في صدرك له، فيهدهد قلبك بكلمات تلامس هذا القلب، بل وتدفئه، فتحس ببرد يلامس هذا الصدر فيهدأ بعد عنف، وتطيب له الحياة بعد أنْ ضاقت، أشهد أنه ما أتى بذكر أحد بسوء، حتى مَن أساؤوا إليه، وكان يحنو على الآخرين ولا يجد من يحنو عليه!!، وهو الآن بين يدي الحامي الأعظم، والمداوي الأكبر، فرضي الله عنك يا شيخنا الجليل ورحمك الله يا مَن لم نر منك في طيلة حياتك إلا طيبة القلب، ورفق النفس، وحب الناس”.
وقال عنه الأستاذ الدكتور أحمد عيد عبد الفتاح: “أَبَى -رحمه الله- إلا أن يقف في الصفوف الأولى بين المؤرخين العظام الموثوقين، الذين يقولون فيُوثقون ما يقولون، ويحكمون على الأشياء فيُعلنون أسباب أحكامهم، فلم يكن من الذين يقذفون بالظَّنِّ في أقوالهم وعباراتهم من مكانٍ بعيدٍ لإصابة هدفٍ أو تحقيق غرضٍ.
ولما كنت أعمل في الكنترول أرى في ورقة أسئلته لوحةً فنيةً رائعةً، رسمها فنانٌ مبدعٌ بخطه الدقيق، كان دقيقًا في تصحيح أوراق الإجابة، يجلس بجواري في كنترول الدراسات العليا، فيستغرق وقتًا كبيرًا في تصحيح الوُريقات؛ ليُعطِي كلَّ طالبٍ ما يستحقه من درجاتٍ. كان يُدخل السرور على كلِّ من يقابله من زملائه في الكلية بعباراته المرحة وروحه الطيبة وهداياه التي يخرجها من حقيبته
أذكر أنَّهُ دخل عندنا كنترول السنة الرابعة ليأخذ أوراق إجابة مادته التي كان يُدرسها، فلقيه زميلنا الدكتور أحمد نجيب، فسأله يرحمه الله عن اسمه، فقال: ( أحمد نجيب )، فقال أستاذنا الراحل مداعبًا: لو تحولت الهمزة في أول اسمك إلى ميم لصرتَ رئيس جمهورية، فضحكنا جميعًا لهذه البديهة الحاضرة والفكاهة السريعة”.
وقال عنه الأستاذ الدكتور غانم السعيد عميد كليتي الإعلام واللغة العربية: “لم أر رجلا صاحب همة في مساعدة الناس والحرص على قضاء حوائجهم وفهم احتياجاتهم، من مجرد النظر إليهم، كما رأيت ذلك في أستاذنا مجاهد الجندي عليه رحمات الله”.
وقال عنه السفير أشرف عقل، مساعد وزير الخارجية الأسبق: “عرفت الفقيد الراحل (رحمة الله تغشاه) إبان عملي سفيرًا لمصر المحروسة لدى فلسطين مقيمًا في قطاع غزة خلال عامي ٢٠٠٦ و ٢٠٠٧م
حيث فوجئت في أحد الأيام بدخوله مكتبي قائلا أنا مجاهد الجندي أستاذ في جامعة الأزهر، وقد سمعت عنك وأحببتك، وأنت من قرية كذا وأهلك من عائلة كذا؛ فقد كان (رحمه الله) حجة في الأنساب، وكان طيبًا سمح النفس لا يهتم إلا بالجوهر، يدلف إلى القلب من أول وهلة، حيث تشعر في الحديث معه أنه أحد أفراد عائلتك، يبادر إلى الخير ولا يستنكف فعله. وهو مؤرخ من طراز رفيع لا يشق له غبار، بذل مجهودات كبيرة في الحفاظ على تاريخ الأزهر الشريف، وتاريخ الجامع الأحمدي بطنطا”.
وقال عنه الأستاذ الدكتور سامى مندور: “كان صاحب فكر متقد وحضور ذهن وعزيمة عسكرية لا تلين”.
وقال عنه الأستاذ الدكتور محمود الصاوي: “نشهد أن الابتسامة الصافية، والنظرة الودودة الحانية، والحرص على طلاب العلم المصريين منهم والوافدين، كانت السمة الأبرز في مسيرة شيخنا وحياته، والمغناطيس الذي يجذب إليه القلوب والألباب”.
وقال عنه الأستاذ الدكتور فوزي عارف إبراهيم: “كان يظهر دومًا متواضعًا على سجيته، به هيبة العالم، وطيبة الأب الحاني على أولاده.. ضرب عرض الحائط بكل ما يحول بينه وبين التواصل مع طلابه وتلاميذه.. عرفته ذا دعابة، وكان متشعب العلاقات يعرفه الكبير والصغير.. الغني والفقير.. ذو المنصب وغيره.. رجل يذكرك بطيبة الشعب المصري بكل ما مر به من عثرات.. يميل في كثير من الأحيان إلى التقرب من ذوي الحاجة.. كان ذا ميل كبير للقراءة والكتابة والإسهام في المؤتمرات العلمية والمشاركات في الندوات ممثلا عن الأزهر الشريف بعمامته المشهورة المميزة، كان (يرحمه الله) يأسر القلوب بسرعة فائقة، فتشعر عند لقائك الأول به وكأنك تعرفه من سنين طويلة.. ومع كل الأسف لا نعرف قيمة مَن يعيش حولنا إلا بعد الفراق… رحل عنا الإنسان المتواضع والعالم الموسوعي والنسابة المنقطع النظير”.
وقال عنه الدكتور أحمد ممدوح، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية: “كان (رحمه الله) والدًا شفوقًا حانيًا وعالمًا كبيرًا وبحرًا واسعًا في المعرفة بتاريخ الأزهر الشريف وتقاليده ووثائقه والمخطوطات وترميمها والتعامل معها، وكان حسن الخط جدًّا، وكان متواضعًا للغاية حلو المعشر طيب الصحبة”.
وقال عنه الأستاذ الدكتور بكر محمود العشري، أستاذ الحضارة الإسلامية (رحمه الله): “عرفته وهو في ريعان شبابه يمتلئ نشاطًا وحيوية. إن أول ما رأيته كان في اللباس العسكري، وحقيبته التي رأيتها معه فيما بعد لم تكن تفارق يده.. وشاربه الكث.. وبنيانه القوي! دخل علينا قاعة المحاضرات وأنا في الفرقة الرابعة.. فدَّرس لنا مادة الكتابة العربية، وكان يتفانى في شرح المادة وقد أبرز لنا موهبته في الخط العربي.
وقد حُبب إلينا لطيبته وبساطته وعظيم أخلاقه وغزير علمه وإخلاصه..!!، ومن نبل صفاته أنه دون تكليف من أحد أخذنا في جولات طوّف بنا فيها معالم القاهرة الأثرية.. التي لولاه ما رأيناها ولا علمنا عنها شيئا!! كنت تلمس الفرحة في وجهه بنجاحنا وتفوقنا، وما تأخر يومًا عن متابعته لنا والسؤال عنَّا، إن أعظم ما تعلمتُ من فضيلته تقديره وحبه وخدمته لأساتذته، وقد رأيت المجاهد يتفانى في خدمة شيوخه.
وكان (رحمه الله برحمته الواسعة) عنده وبلا حدود الثقة في نفسه!! ما عهدته والله لا يخشى من أحد إلا الله.. يعمل ما يطمئن إليه قلبه”.
وقال عنه الأستاذ الدكتور محمد عبد السلام العجمي وكيل كلية التربية جامعة الأزهر السابق: “كان واحدًا من أعلام الأزهر الميامين ورجاله الصادقين،
عاش في ذاكرة الأزهر ولها حافظًا مُحافظًا.. ولتاريخه مناضلا مؤرخًا.. عاش في قلب الأزهر وامتلك الأزهر قلبه.. وملأ عليه حياته.. قضى معه ليله ونهاره.. صباه وشبابه وشيخوخته.. عاش به، وسافر به، وعاد به، ورحل به، كان للأزهر وبه ومعه مجاهدًا فنال سؤددًا وتوفيقًا.. ستظل كتاباته في الدنيا.. وفي الآخرة إن شاء الله ناطقة تحكي همًّا وهمةً، تروي انتماء ووفاء”.
تكريمه:
وتتويجًا لدراساته القيمة وبحوثه المتميزة في وثائق الأزهر وغيرها، فقد كرَّمته عدد من الجامعات والمؤسسات منها: إتحاد المؤرخين العرب الذي كرَّمه بدرع شوامخ المؤرخين العرب، وهذا الدرع لا يعطى لأي أحد، وإنما يعطى لأناس بذلوا مجهودات كبيرة وألفوا مؤلفات رصينة تنفع الأمة الإسلامية، وتفيد المكتبة العربية والإسلامية.
وكرَّمته الجزائر الشقيقة ممثلة في جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بمدينة قسنطينة، في احتفالية كبرى على هامش انعقاد الملتقى الدولي حول الفكر الإصلاحي عند الإمامين عبد الحميد بن باديس وبديع الزمان سعيد النورسي.
طبت حيًّا وميتًا يا خالي وشيخي وأستاذي ووالدي العظيم وأسكنك الله فراديس الجنان بجوار سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ومع الخالدين، في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.