بقلم د/ محمد بركات
من علماء الأوقاف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: فلا تظن لوهلة واحدة أن الحق يسير بذاته بين الناس دون عقبات أو ضربات ..كلا فهذه سنة كونية أن تجد للحق أعواناً وللباطل أعواناً ضد الحق يقومون علي تثبيطه وتقليله والحد منه.
وَٱلْمُرْجِفُونَ فِى ٱلْمَدِينَةِ تاريخ طويل من الصراع الذي تزيد حدته وتقل حسب الظروف والأحوال، وما أجمله من تعبير قرآني يأخذ بمجموع اللب والعقل بل والجسد كله ،يقول الله تعالي : ﴿۞ لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ٱلْمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَٱلْمُرْجِفُونَ فِى ٱلْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلَّا قَلِيلًا(سورة الأحزاب ، الآية: 60)
جاء في التفسير الميسر: لم يكفَّ الذين يضمرون الكفر ويظهرون الإيمان والذين في قلوبهم شك وريبة، والذين ينشرون الأخبار الكاذبة في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم عن قبائحهم وشرورهم، لنسلِّطنَّك عليهم، ثم لا يسكنون معك فيها إلا زمنًا قليلا. مطرودين من رحمة الله، في أي مكان وُجِدوا فيه أُسِروا وقُتِّلوا تقتيلا ما داموا مقيمين على النفاق ونشر الأخبار الكاذبة بين المسلمين بغرض الفتنة والفساد.
إن من شرار الطباع وفسادها الترويج للشائعات وإثارة ما من شأنه ترويع الناس أو الإحباط منهم ومن عزمهم ، فيعمدون إلي استثارة دون استنارة فهم عامل هدم لا بناء وموت لا حياة وهو نوع قاس من النفاق فكان أمثالهم في الصفوف الأولي مع رسول الله ﷺ في الصلاة ومقدمة من يعطوا الاستشارة في الحرب ومواجهة الأزمات.
لكنه من باب الوجود في الحدث وبمثابة الرطوش واللمسات الأخيرة علي اللوحة قبل تمامها.
وفي الحقيقة بئست النفوس تسود ما عساه يكون فتحا أو نصرا فتجدهم وراء كل عزيمة فاترة تزعجهم الحقيقة ، وتميتهم وتقضي عليهم الآمال الباهرة.
هم مع الناس وفي صفوفهم كالدود القاتل والسوس الناخر في عزمهم وعظمهم أيضاً.
هم المرجفون في إعلام يقلل من بطولة عالم أو عقل طفل أو شاب واعد لصالح صبية سقطت وهوت من حسابات الزمن.
هم المرجفون في قدوات سيئة مزعومة صارت مثلاً سيئا ، ومن العار أن تكون كذلك فصاروا للشباب مرآة تعكس ملابسهم وترجيل وتسريح شعرهم وقدوة ومثال لهم في كلامهم جدهم وهزلهم.
هم المرجفون أصحاب كلمات مذمومة سرعان ما تتطاير هنا وهناك بلا قيمة ولا فائدة سوي فساد وإفساد جيل بأكمله فيصدر لهم المال هو الأهم وجوده وحده في الحياة دونما أدني تعب في تعليم أو تحصيل أي فائدة مستشهدين بذلك من واقع مؤسف للفنان فلان،… أو فلان يركب أغلي سيارة يسكن أغلي منزل يلبس أثمن ملابس ،. وهكذا إرجاف بالباطل وعزم علي تكثيره.
هم المرجفون الذين تغتاظهم وتغيظهم وتقلق من مضاجعهم لتحول نومهم الهانيء إلي أحلام وكوابيس مزعجة عند سماعهم الإسلام يعلوا وينتشر، جاء في تفسير الإمام السعدى حول قوله تعالى: (۞ لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا)، وأما من جهة أهل الشر فقد توعدهم بقوله: { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } أي: مرض شك أو شهوة { وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ } أي: المخوفون المرهبون الأعداء، المحدثون بكثرتهم وقوتهم، وضعف المسلمين.
ولم يذكر المعمول الذي ينتهون عنه، ليعم ذلك، كل ما توحي به أنفسهم إليهم، وتوسوس به، وتدعو إليه من الشر، من التعريض بسب الإسلام وأهله، والإرجاف بالمسلمين، وتوهين قواهم، والتعرض للمؤمنات بالسوء والفاحشة، وغير ذلك من المعاصي الصادرة، من أمثال هؤلاء.
{لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} أي: نأمرك بعقوبتهم وقتالهم، ونسلطك عليهم، ثم إذا فعلنا ذلك، لا طاقة لهم بك، وليس لهم قوة ولا امتناع، ولهذا قال: {ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} أي: لا يجاورونك في المدينة إلا قليلاً، بأن تقتلهم أو تنفيهم.
وهذا فيه دليل، لنفي أهل الشر، الذين يتضرر بإقامتهم بين أظهر المسلمين، فإن ذلك أحسم للشر، وأبعد منه.
واعلم أيها القارئ الكريم أن المرجفين فى المدينة ، وهم الذين كانوا ينشرون أخبار السوء عن المؤمنين ويلقون الأكاذيب الضارة بهم ويذيعونها بين الناس ، لا يخلوا منهم زمان ولا مكان ولا حال.
وأصل الإِرجاف : التحريك الشديد للشئ ، مأخوذ من الرجفة التى هى الزلزلة . ووصف به الأخبار الكاذبة ، لكونها فى ذاتها متزلزلة غير ثابتة ، أو لإِحداثها الاضطراب فى قلوب الناس، وقد سار بعض المفسرين ، على أن هذه الأوصاف الثلاثة ، كل وصف منها لطائفة معينة ، وسار آخرون على أن هذه الأوصاف لطائفة واحدة هى طائفة المنافقين ، وأن العطف لتغابر الصفات مع اتحاد الذات .
( والمرجفون فِي المدينة ) ناس كانوا يرجفون بأخبار السوء عن سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون : هزموا وقتلوا وجرى عليهم كيت وكيت ، فيكسرون بذلك قلوب المؤمنين.
والمعنى : لئن لم ينته المنافقون عن عدائكم وكيدكم ، والفسقة عن فجورهم ، والمرجفون عما يؤلفون من أخبار السوء ، لنأمرنك بأن تفعل بهم الأفاعيل التى تسوؤهم وتنوؤهم .
وقوله : ( لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ) جواب القسم . أى : لنسلطنك عليهم فتستأصلهم بالقتل والتشريد ، يقال : أغرى فلان فلانا بكذا ، إذا حرضه على فعله .
وقوله : ( ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً ) معطوف على جواب القسم . أى : لنغرينك بهم ثم لا يبقون بعد ذلك مجاورين لك فيها إلا زمانا قليلا ، يرتحلون بعده بعيدا عنكم ، لكى تبتعدوا عن شرورهم .
وجاء العطف بثم فى قوله : ( ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ) للإِشارة إلى أن إجلاءهم عن المدينة نعمة عظيمة بالنسبة للمؤمنين ، ونقمة كبيرة بالنسبة لهؤلاء المنافقين وأشباهههم .
اعلم أن لكل ساقطة لاقطة ، ولكل بائع مشتري ، وأهل الإرجاف أصل في الشر وبداية في كل فساد. اللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها و ما بطن.