محمد محيي الدين عبد الحميد الأستاذ العبقري الذي حقق كل الكتب الأزهرية المقررة
بقلم / د. إبراهيم عوض
الأستاذ الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد (1900 -1972) هو عميد المحققين (الأزاهرة وغير الأزاهرة) في جيله، وقد نال اعتراف هؤلاء وهؤلاء على حد سواء، وقد قدر لي أن أنال بركة لقائه قبل وفاته بعامين حين اصطحبني والدي عليه رحمة الله للقاء بعض زملائه من أعضاء لجنة الفتوى التي كان يرأسها، وسمعت همس العلماء الكبار من تلاميذه الذين كانوا يتمنون له ما يستحقه من وكالة الأزهر في عهد كان قد بدأ في تكريم أمثاله لكن العمر لم يمتد بهذا العالم الجليل…. ولا أزال إلى وقتنا هذا استعمل نسحا من كتب قيمة كان له الفضل في تحقيقها.
كان الأستاذ الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد من أساتذة الأزهر البارزين الذين استقرت على أيديهم التقاليد الأكاديمية في التأليف والتحقيق والبحث العلمي، والتدريس الجامعي، والدراسات العليا كذلك. وإذا قيل إن عمادة التحقيق قد انتقلت من راية إلى راية، فإنه يمكن القول بأنها انتقلت من راية الشيخ أحمد شاكر (المولود 1892) إلى راية الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد (المولود 1900)، ثم إلى راية الأستاذ عبد السلام هارون (المولود 1909). ومن الجدير بالذكر أن الأستاذ هارون لحق بالأستاذ محيي الدين في عضوية مجمع الخالدين، فكان هو الذي استقبله، ثم كان الأستاذ هارون هو من أبّن الأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد.
يعود إلى هذا الأستاذ الجليل الفضلُ في تحقيق كلاسيكيات الكتب الأزهرية (وبخاصة في علوم النحو) وهو الذي حقق مؤلفات ابن مالك وابن هشام وابن عقيل والسعد التفتازاني والأشموني، وليس من قبيل المبالغة القول بأنه تولى وحده تحقيق عدد كبير من أمهات الكتب المقررة للدراسة في الأزهر (والمعاهد العليا المعنية بشئون التعليم الديني) حتى قيل «إنه أتي على الأزهر حين من الدهر، وجل ما يدرس في معاهده من تأليف الأستاذ محيي الدين عبد الحميد، أو إخراجه». ومع هذا فقد كان نمط التحقيق الذي يقوم به تحقيقًا عمليًا يستهدف إعداد مادة الكتاب للدراسة والقراءة، ولم يكن تحقيقًا من أجل التحقيق (في حد ذاته) على نحو ما كان يقوم به الشيخ أحمد شاكر والأستاذ عبد السلام هارون وأعلام الجيل التالي من المحققين. وبالإضافة إلى تآليفه وتحقيقاته في علوم شتى التي تجاوزت أكثر من مائة كتاب، فقد كان أستاذًا واسع الأفق، وقد عمل بالفتوى وبالتفتيش وبالتدريس في كليات اللغة العربية وأصول الدين والحقوق.
نشأته العلمية ونبوغه
ولد الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد في قرية كفر الحمام بمحافظة الشرقية سنة 1900، والتحق بالأزهر، وتصادف أنه بدأ دراسته في المعهد الديني بدمياط على الرغم من شرقاويته، وقد نال شهادة العالمية النظامية (1925) في أول دفعة تخرجت تبعًا لنظام أزهري جديد في ذلك الوقت سبق به الأزهر تخريج الجامعة المصرية لخريجيها، وقد تخرج في هذه الدفعة زميله الأكبر سنا والذي سبقه إلى عضوية مجمع اللغة العربية وإلى الوفاة الأستاذ الشيخ محمد على النجار ١٨٩٥- ١٩٦٥ ولم يلبث هذا النظام أن تغير، لكنه على كل حال كان نظامًا واعدًا.
وقد تجلى نجاح نظام العالمية النظامية الذي طبق منذ بداية العشرينيات، وحتى تخرج الطلاب في النظام الجامعي بكلياته الثلاث، في شخص الشيخ محيي الدين نفسه الذي تخرج وهو في الخامسة والعشرين من عمره، وعاش عمرًا من الألمعية والتفوق حتى في عهد الثورة بنجومه، وفي عهد التطوير بتعقيداته، وهو على سبيل التقريب واحد من الذين ظلمهم التطوير الجامعي الأزهري في الستينيات بشكلانياته التي كانت تتطلب الدكتوراه، وإن لم تفلح البيروقراطية في النيل من مكانته التي كانت تحققت منذ تخرجه بل منذ ما قبل تخرجه فمن الطريف أن الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد بدأ تحقيق الكتب العلمية وهو لا يزال طالبًا، وعقب تخرجه عين مدرسًا في معهد القاهرة الأزهري، وعند تطوير الأزهر وإنشاء الكليات الجامعية فيه في عهد الشيخ الظواهري، وقع عليه الاختيار مبكرًا ليكون مدرسًا في كلية اللغة العربية (1931)، وكان قد تجاوز الثلاثين لتوه، ثم اختير أستاذًا للدراسات العليا وهو ما عرف في ذلك الوقت بأستاذية تخصص المادة (1935) أي أنه كان في ١٩٣٥ أستاذا لمن يتخرجون بدرجة الأستاذية.
عمله في السودان وعمادته لكلية اللغة العربية
أعير الأستاذ الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد (1940) إلى السودان أستاذًا في كلية الحقوق لأربع سنوات دراسية، فألف في مواد الحقوق كتبًا كثيرة كانت من أهم مراجع الطلاب والمدرسين، وعاد (1943) فعمل مرة أخرى أستاذًا في كلية اللغة العربية، فوكيلًا لها، فمفتشًا بالمعاهد الدينية (1946)، فأستاذًا في كلية أصول الدين. عاد الأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد إلى التعليم الأزهري العام ليتولى توجيهه وتنظيمه، فعمل مديرًا لتفتيش العلوم الدينية والعربية بالأزهر والمعاهد الدينية (1952) وكانت هذه الوظيفة أعلى بكثير من وظائف أستاذية الجامعة، ثم عاد إلى الجامعة فاختير عميدًا لكلية اللغة العربية (1954)، ثم تولى التدريس في كلية أصول الدين، ثم عين عميدًا للغة العربية مرة ثانية في أكتوبر 1964 وحتى أحيل للتقاعد ببلوغه الخامسة والستين.
مكانته العلمية والمجمعية
ظل الأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد على صلة بالأزهر جامعًا وجامعة بعد تقاعده، في عصر كانت علاقة الأساتذة بكلياتهم تنتهي مع تقاعدهم، لكن الحاجة إلى علمه كانت أكبر من القانون والقواعد. وقد اختير رئيسًا للجنة الفتوى، التي كانت تتخذ من بعض الحجرات في مدخل الجامع الأزهر مقرًا لها، كما اختير رئيسًا للجنة إحياء التراث. كما اختير عضوًا في مجمع البحوث الإسلامية، الذي حل محل هيئة كبار العلماء.
في مجمع اللغة العربية
انتخب الأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد عضوًا في مجمع اللغة العربية (1964) في الكرسي الثلاثين الذي كان يشغله سلفه المرحوم الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت، وفي المجمع شارك في لجان: المعجم الكبير، والأصول، وإحياء التراث القديم، والأدب. وكان من حظ الشيخ محيي الدين عبد الحميد أن حظي بكلمات مجمعية قادرة على تتويجه والاعتراف بفضله على العلم والتعليم ألقاها من استقبلوه وأبنوه وخلفوه. فقد قال الأستاذ محمد علي النجار في استقباله: «إن ما قيل عن الطبري يصدق عليه، إذ كان الطبري إمامًا في القراءة، وإمامًا في الحديث، وإمامًا في النحو، وإمامًا في الحساب، كذلك كان محيي الدين مع إمامته في علوم أخرى غير التي ذكرت عن الطبري».
ووصفه الأستاذ عبد السلام هارون في تأبينه في مجمع اللغة العربية فقال: «إني، وأنا من أقرب الناس إليه، ومن أعرفهم بقدره، لا أستطيع إلا أن أستعلن عجزي عن تبيان فضله ومآثره، إلا أن أصنع في ذلك كتابًا أظل أنمقه دهرًا، ولكني أراني قد ألقيت شيئًا من الضوء على حياته الحافلة المباركة المفعمة بالتوفيق كان من حظ الشيخ محيي الدين عبد الحميد أن خطى مكتوبات مجمعية قادرة على التتويج، الهادفة إلى الخدمة والإسعاد لبني وطنه المصري، ووطنه الإسلامي، ووطنه الإنساني».
وقد كانت علاقته بأنداده من المجمعيين مثالًا في منطقية التعاقب، فقد تولى تأبين من استقبله، كما تولى استقبال من أبنّه. فهو الذي تولى تأبين الأستاذ محمد علي النجار، الذي كان قد ألقى كلمة المجمع في استقبال الأستاذ محيي الدين. وعلى غرار موقفه من الشيخ النجار، فقد استقبل الشيخ محيي الدين عبد الحميد الأستاذ عبد السلام هارون عضوًا في المجمع، وكان الأستاذ هارون هو الذي تولى تأبينه. وله من الكلمات المجمعية بالإضافة إلى كلمتيه التي أشرنا إليهما: كلمة في تأبين المرحوم الأستاذ علي عبد الرازق. وقد كان الأستاذ محمد شوقي أمين هو من خلفه في الكرسي الثلاثين من كراسي المجمع.
منهجه العلمي العملي في تحقيق النصوص
لم يكن منهج الأستاذ محيي الدين في تحقيق النصوص من أجل التحقيق في ذاته، وإنما كان منهجًا علميًا يهيئ به النص القديم للدراسة، والحق أن هذا الأسلوب لا يقل أهمية عن أسلوب التحقيق العلمي المستقصي، وقد أثبتت الأيام هذا. وللأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد فقرة جميلة في تقديمه لكتابه العمدة لابن رشيق، وهي فقرة تنبئ بوضوح شديد عن منهجه في التحقيق، واعتزازه بما بذل فيه من معاناة، مع حرصه على الإشارة إلى التزامه بالبعد عن التعمق في ذكر الاختلافات وأسبابها مما يدخل في اهتمام المختصين وفيها يقول:
«… ولو أردت أن أحدثك عن المراجع التي استخلصت لك الصواب من بينها لهالك الأمر، وخرج الحال في نظرك عن حد المستساغ المعقول، ولكنها على كل حال حقيقة لا غلو فيها ولا إغراق، وستقف بنفسك حين تقرأ الكتاب بعد هذا على ما كابدت من العناء والمشقة، وكنت أحب أن أذكر لك عند كل تصويبة أثرها في خطأ أصول الكتاب، وكيف أصلحت؟ ومصدر إصلاحها، ولكني اكتفيت في التنبيه على بعض ذلك، وتركت بعضه لعلمي أن ذلك لا يعني غير نفر قليل من القراء، وهؤلاء يكتفون باللمحة، ويجتزئون بالخبر، وكان لابد أن أجد زيادة في بعض النسخ عما في بعضها الآخر، أو أعثر على سقطة في كلام نقله المؤلف عن كتاب آخر، بعد مراجعة هذا النقل، فاكتفيت بوضع الزائد بين قوسين ( ) ونبهت على مواطن الزيادة».
هكذا ضرب الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد المثل العملي في التيسير على طلاب العلم الشبان بوجود نسخة مصححة مضبوطة من أمهات الكتب دون أن يشغلهم بكثرة الهوامش والمراجع والترجيحات، وليس من أسهل على أستاذ كبير سنه أن يتنازل عن مجد وعن مكانة علمية بمثل هذه السهولة، بل إن جهده، على عادة جهد الرواد، كان يتعرض في الجيل التالي له لكثير من الهجوم، حتى إنه كان يعاب عليه سرعة التحقيق، وأنه لم يذكر الأخطاء التي تولى تصويبها. ومن الظلم للشيخ محيي الدين أن نطالبه بمثل هذا كله برغم كثرة ما أنجزه، ورغم طبيعة العصر الذي أنجز فيه وما تميز به عن غيره من طلاب العلم على استكمال التحقيق بسليقتهم من معلوماتهم، حتى إن وقعوا في بعض الأخطاء الساذجة رغم هذا.
اعتماده على جهد من سبقوه
كذلك عبر الأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد عن بعض ملامح طريقته العملية السريعة في تحقيق النصوص فيما كتبه في مقدمة كتاب «وفيات الأعيان»، فقال بعد أن ذكر الطبعات الست التي سبقت تحقيقه وأنه قرأها جميعا واعتمد عليها: «ولم يكن لي بد من مراجعة هذه النسخ كلها، بعضها على بعض، وترقيم الكتاب، وتحقيق النص بالرجوع إلى ما أمكن الرجوع إليه من الأصول التي أخذ عنها المؤلف، وضبط ما يحتاج إلى الضبط من أعلام الأناسي والأماكن والألفاظ الغريبة، وإن ضبط المؤلف لفظًا بحثت عنه، فإن وجدت ما يخالف في ضبط هذا اللفظ بينته في أسفل الصفحات، وشرحت ما ظننت أن القارئ المتوسط يحتاج إلى شرحه، وبينت اختلاف النسخ، وضبطت في أسفل الصفحات بالحروف بعض ما لم يضبطه المؤلف، عدا ضبطي له بالشكل في أثناء الكتاب، وعزمت أن أضع له أنواعا جمة من الفهارس لا أقول عنها أكثر من أنها ستهوّن على كل باحث سبيل الانتفاع بهذا الكتاب». وهكذا كان الأستاذ محيي الدين يتحدث عما وعد به، وقد أنجز ما وعد.
مناقشته للنحاة السابقين
كان أستاذنا الدكتور محمد رجب البيومي يرى أن تحقيقات الأستاذ محيي الدين عبد الحميد لبعض الكتب كشرح ابن عقيل والأشموني والقطر وشذور الذهب تعتبر كتبًا مستقلة، «لأن تعليقاته كانت تأخذ نصف الصفحة في كل كتاب، وله تعقيبات نحوية على هؤلاء الكبار، فيها التخطئة المؤيَّدة بالدليل، وكأن إمامًا يناقش إمامًا. ونواصل قراءة ما وصف به الأستاذ محمد رجب البيومي تحقيقات الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد: «وهو في تحقيقه لكتاب «مغني اللبيب» لابن هشام قد استطرد كثيرًا فشرحه في سبعة أجزاء كبيرة تنبئ عن اطلاع غزير، ولكن الناشرين أحجموا عن نشره، لأن أكثرهم يبحث عن الكسب المادي، وقارئ المغني غالبا سيكتفي بالنسخة المقتضبة التي حققها الشيخ محيي الدين أيضًا فتوالت طبعاتها، وبقيت الأجزاء السبعة مخطوطة للآن، وكذلك الجزآن الأخيران من شرح الأشموني على الألفية، حيث فاقت تعليقات الشيخ محيي الدين على الكتاب كل حد، ولم يجد مَنْ يكمل الشرح من الطابعين».
فضله في تحقيق المؤلفات البلاغية والكلامية
كذلك فقد نبهنا الدكتور محمد رجب البيومي إلى أن للأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد مقدمات علمية رائعة تدل على أنه باحث جيد، وإلى أنه لو تفرغ للتأليف الخالص (يقصد البعيد عن التحقيق) لأبدع الكثير، وهو يضرب المثل على ذلك بمقدمتين رائعتين هما: مقدمته لكتاب «مقالات الإسلاميين» للأشعري، حيث ألم فيها بتاريخ دقيق لعلم الكلام منذ بدأت أصوله حتى اكتمل وتشعب وتعددت فرقه بعد الأشعري، في وضوح خالص يدل على صحة الفهم، وصدق الاستنباط. ومقدمته لكتاب «تهذيب السعد» حيث ألم فيها بتاريخ علم البلاغة تأريخًا وافيًا، وذلك قبل أن تظهر الكتب المستقلة في تاريخ هذا الفن بسنوات عدة، إلا المقالات السديدة التي كتبها الأستاذ محمد الخضر حسين في مجلة «الهداية» قبل كتاب الأستاذ محيي الدين عبد الحميد بست سنوات.
كذلك يشيد الدكتور البيومي بجهد الأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد في إخراج كتاب «العمدة» لابن رشيق، فقد وجد لهذا الكتاب ثلاث طبعات سوابق إحداها محرفة تونسية، والأخريان مليئتان بالتحريف، والنقص والتصحيف، فاضطر إلى البحث في دار الكتب بالقاهرة فوجد نسختين مخطوطتين لناسخين مختلفين، ذكر اسميهما وتاريخ النسخ، وخصائص كل نسخة في مقدمة العمدة، فجمع هذه الخمس وقام بالمفاضلة الدقيقة بين المختلف من النصوص. ويذكر الدكتور محمد رجب البيومي كذلك أن الأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد عني بنشر «شرح ابن يعيش على المفصل للزمخشري» في عشرة أجزاء، لم يوقع عليها باسمه، ولم يدخلها في حساب ما نشره من الكتب الكثيرة، لأنه رأى أن شرحه لم يستكمل بعد، إذ لا يستريح أن ينشر اسمه على عمل هو في حاجة إلى إتمام، وتلك هي الأمانة التي تفتقد النظير. أما في كتب التاريخ كالوفيات ومروج الذهب، فإنه (كما يقول أستاذنا) كان يكتفي بالتعليق اليسير، لأن التاريخ لدى السابقين رواية، ومًنْ حفظ حجة على مًنْ لم يحفظ.