متابعة – عبد العزيز اغراز :
ضمن فعاليات ليالي الوصال الرقمية “ذكر وفكر في زمن كورونا”، المنظمة من طرف مشيخة الطريقة القادرية البودشيشية ومؤسسة الملتقى بتعاون مع مؤسسة الجمال، شارك السبت 13 نونبر 2021، الدكتور منير القادري، رئيس مؤسسة الملتقى ومدير المركز الأوروالمتوسطي لدراسة الإسلام ، في الليلة الرقمية الثامنة والسبعين، بمداخلة علمية حملت عنوان “توازن الإنسان حفظ للأوطان وتحقيق لغاية التنمية والعمران “.
أشار في بدايتها الى أن عالم اليوم يتسم باختلال التوازن بين ما هو مادي وما هو روحي، وغياب كل ما من شأنه أن يسمح للإنسان بتحقيق حاجاته النفسية والوجدانية والروحية والثقافية والتنموية.
وأضاف أن الفطرة لا تستقيم إلا بالتوازن، وأنه بانحرافها وفسادها تفسد حياة الإنسان وتضطرب، فتظهر الأدواء النفسية والإجتماعية المستعصية، وزاد أن هذا الوضع تعاني منه كثير من المجتمعات التي خالفت الفطرة المستقيمة، موردا قول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: “إن الحضارة التي لا تقيم للروحانية اعتبارًا، ولا تنطلق إلا في ضوء الماديات، لا يمكن وصفها بأنها حضارة”.
وتطرق رئيس مؤسسة الملتقى الى قوله تعالى في سورة القصص “ﻭَﺍﺑْﺘَﻎِ ﻓِﻴﻤَﺎ ﺁﺗَﺎﻙَ ﺍﻟﻠَّﻪُ ﺍﻟﺪَّﺍﺭَ ﺍﻟْﺂﺧِﺮَﺓَ ﻭَﻟَﺎ ﺗَﻨْﺲَ ﻧَﺼِﻴﺒَﻚَ ﻣِﻦَ ﺍﻟﺪُّﻧْﻴَﺎ ﻭَﺃَﺣْﺴِﻦْ ﻛَﻤَﺎ ﺃَﺣْﺴَﻦَ ﺍﻟﻠَّﻪُ ﺇِﻟَﻴْﻚَ ﻭَﻟَﺎ ﺗَﺒْﻎِ ﺍﻟْﻔَﺴَﺎﺩَ ﻓِﻲ ﺍﻟْﺄَﺭْﺽِ ﺇِﻥَّ ﺍﻟﻠَّﻪَ ﻟَﺎ ﻳُﺤِﺐُّ ﺍﻟْﻤُﻔْﺴِﺪِﻳﻦَ” ( الآية 70)، مبينا أن هذه الآية تعنى بكل دقة أن كل محاولة لشطر الإنسان بين هاذين العالمين هي الفساد لا محالة، وتابع أن تحقيق التوازن بينهما هو طريق الإنسان إلى السكينة والسعادة وتحقيق لغاية انعتاقه من قيود النفس وشهواتها التي تغيب رشده واستقامته.
وأكد رئيس المركز الأوروالمتوسطي لدراسة الإسلام ، أن ما ﻓﺸﻠﺖ ﻓﻴﻪ ﻛﻞ ﻣﻦ ﻓﻠﺴﻔﺔ ﺍﻟﺪﻳﻦ ﺍﻟﻤﺠﺮﺩ التي تدعو الإنسان إلى الرهبنة، ﻭﺍﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺍﻟﻤﺎﺩﻳﺔ التي تغريه بفصل الدين عن الدنيا، إﺳﺘﻄﺎﻉ ﺍﻹﺳﻼﻡ ﺃﻥ ﻳﺤﻞ ﻣﻌﻀﻠﺘﻪ، ﺑﻤﺰﺝ ﻣﺬﻫﻞ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺗﻔﺎﺻﻴﻠﻪ ﻭﺃﺑﻌﺎﺩﻩ لمعاني ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ وأهدافها ﺍﻟﺴﺎﻣﻴﺔ مع إعلاء مكارم الأخلاق.
واستطرد شارحا أنه دين مُوافقٍ للفطرة البشرية الطبيعية، يُراعي حاجاتِ الروحِ ومَطالبَ الجسد، ويُوازن بين العمل للدنيا والعمل للآخرة، وأنه يُهذِّب غرائزَ الإنسان ونوازعَه، ولا يكْبِتها أو يلغيها، وأنه يوطنها على حب الخير والتحلي بمكارم الاخلاق، مستدلا بمجموعة من الآيات القرآنية والاحاديث النبوية منها قوله صلى الله عليه وسلم: “إن لربِّك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ”.
وفي ذات السياق أورد أقوالا لمجموعة من المفكرين والمختصين، منها مقولة الكاتبة الألمانية والباحثة في قضايا السلام النفسي لويس هيلر “كما تكون أنت بالداخل تكون بالخارج.. وكما تكون أنت في الأرض تكون في السماء”.
وأوضح أن من أهم المقاييس الأساسية لتقويم أي مجتمع، هو تشخيص حالة العلاقات الداخلية فيه، معتبرا أن سلامتها علامة على صحة المجتمع وإمكانية نهوضه، وأن خلاف ذلك دلالة سوء وتخلف.
وأضاف الدكتور منير أن تحقُّق السلم الاجتماعي عامل أساسي لتوفير الأمن والإستقرار في المجتمع، وأنه إذا ما فُقدت حالةُ السلم والوئام الداخليين أو ضعفت، فإن النتيجة الطبيعية لذلك هي تدهور الأمن وزعزعة الاستقرار،
وتابع أنه في ظل هذا الوضع لا تستحيل فقط التنمية والتقدم، بل يصعب الحفاظ على القدر الموجود والقائم من المكتسبات، فيتداعى بناء المجتمع، وينهار كيان الوطن، وتضيع مصالح الدين والأمة،
مذكرا بقول ابن خلدون: “القلوب اذا تداعت إلى أهواء الباطل والميل إلى الدنيا، حصل وفشى الخلاف، وإذا انصرفت إلى الحق ورفضت الدنيا والباطل وأقبلت على الله، اتحدت وجهتها، فذهب التنافس وقل الخلاف، وحسن التعاون والتعاضد، واتسع نطاق الكلمة لذلك وعظمت الدولة”.
ولفت إلى أن المجتمعات المعاصرة في حاجة الى القيم الأخلاقية التي تعيد إليها توازنها الروحي، وتحقق لها استقرارها النفسي،
وأن هذه القيم الأخلاقية يحملها التصوف مقام الإحسان، من خلال حضارة روحية أخلاقية إحسانية، ستعيد للانسانية توازنها بين مطالب الجسد المادية من حقوق وواجبات، وبين مطالبه الفكرية و العقلية من حب للعلم والإطلاع والإكتشاف ومطالبه الروحية من عبادة لله وتزكية للأخلاق، موردا مقولة لصالح بن طاهر مشوش في كتابه علم العمران الخلدوني.
وأكد على أهمية البناء الروحي و النفسي للإنسان في سد الفجوة بين الواقع الفعلي المعاش والغاية المنشودة في عمران الأرض
، وأن ذلك لا يتأتى إلا من خلال تربية الأفراد على القيم الأخلاقية، تربية كفيلة بوقايتهم من الأزمات الحضارية التي تعاني منها الإنسانيه وقادرة على تحقيق الأمن الروحي الذي يمكّن من تبديد وتلاشي الصراع الحضاري المفتعل وكفيلة بتصحيح الإختلالات وتحقيق التوازن النفسي والتكامل العقلي والقلبي والتوافق المادي والروحي وتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة المنشودة.
وأختتم مداخلته بالتأكيد على أن الإستثمار في العامل البشري والرأسمال اللامادي الوطني وما يمثله ذلك من مقومات لإنجاح الرهان التنموي وتطوير قدرات الأفراد والجماعات ، برهان ودليل على ما يصبو إليه أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله من تحقيق الرخاء الإقتصادي لشعبه الوفي، و التأسيس لنهضة شاملة تعم بخيرها القطر كله.