بقلم: أ.د/ على شحاتة
الاستاذ بجامعة الازهر الشريف
لسورة الفاتحة فضل كبير؛ فالله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعًا مِنَ المَثانِي والقُرْآنَ العَظِيمَ﴾ سورة الحجر: ٨٧، وذلك على رأي من قال: إنها سورة الفاتحة. وفي الحديث: “الحمدُ للَّهِ ربِّ العالمينَ أمُّ القرآنِ، وأمُّ الْكتابِ، والسَّبعُ المثاني”. أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد والبخاري بمعناه.
وكان من العبارات التي حفظتها ذاكرة المجتمع لسورة الفاتحة ووعتها الأجيال، ما كان متداولا آنذاك، على سبيل المثال: عند الدعاء لأحد بالهداية، يقال: (الفاتحة أن يهديه الله) نبدأ بالفاتحة ثم نثني بالدعاء له بالخير والبركة والهداية، كذلك بداية التفكير في الزواج وقبل كل شيء يقال نذهب لقراءة الفاتحة، فكأننا نمنح هذا العقد – عقد الزواج- في بدايته البركة والخير، وكذلك ليكون الرباط مقدسا، وما يترتب عليه من حقوق وواجبات والتزامات يأخذ هذه الصفة.
كذلك في جلسات الصلح بين الناس، يبدأ بالفاتحة لتصفية النفوس، وعند تمام الصلح تقرأ الفاتحة، كأنها رباط وثيق، وعقد يربط الاتفاق ويوثقه أمام الناس ويربطه أيضا برباط الإيمان والتقوى، وكان من يتخطى ذلك، أو يتراجع فيه، أو يخل بأي بند من بنود الاتفاق، يقال: (إنه خان الفاتحة)، أي: أخل بالاتفاق الذي أبرمه أمام الناس، والذي كان الله شهيدا عليه، وهكذا، حتى الأموات لهم في ذلك نصيب كبير، فعند زيارة القبور يقال: نذهب للدعاء لهم وقراءة الفاتحة عليهم؛ لاستنزال الرحمات من الله تعالى ببركة القرآن الكريم وسورة الفاتحة.
المقصد أن الناس كانت منشغلة دائما بكتاب الله، تستمد منه البركات، وتستفتح به الجلسات، وتستنزل به الرحمات، وتعقد به الاتفاقات، وكانت البركة حاضرة في حياتنا، إلى أن شغلنا بالعصر الرقمي الذي أخذت تقنياته وأدواته جانبا كبيرا من حياتنا، وطبعتها بطابعها الجاف الجامد، الذي قلت فيه البركة، وزادت فيه الجفوة، وطغت فيه المادة على حياتنا، إلا من رحم الله.
ومن هنا فقد اختفت – إلى حد كبير على أثر ذلك – حياة البساطة والهدوء التي كان يعيشها آباؤنا وأجدادنا، على الرغم من ضيق ذات اليد أحياناً، إلا أنهم كانوا سعداء بتواصلهم وتراحمهم، وتواصيهم بالبر والخير فيما بينهم.
ولا شك أن تقليل الخسائر -ما أمكن- تفكير سديد، وعمل رشيد؛ ونحن لن نستطيع أن نعود للوراء أو نوقف عجلة التطور، أو نوقف حركة الزمن، ولكننا نستطيع أن نقتطع جزءا من أوقاتنا للعودة- ولو قليلا- إلى المعاني الروحية، نعود لثقافة سورة الفاتحة؛ في محاولة للتقليل من جفاف وجفاء حياتنا، وعلاقاتنا، ومشاعرنا، وتكون كلمتنا التي قطعناها على أنفسنا سيفا على الرقاب، لا ينفصم ولا ينقطع أبدا، لأننا وثقناها أمام الله، وقرأنا على ذلك سورة هي أم الكتاب؛ كأننا أشهدنا الله تعالى علينا.
فإن لحظة واحدة نكتسبها هنا لهي سعادة لا تعدلها سعادة؛ لإحساسنا براحة الضمير، ومحبة الناس، ورضا الله تعالى، وهي نعمة لا تعدلها نعمة.. نسأل الله تعالى أن يهيئ الله لنا من أمرنا رشدا، ويهدينا جميعاً لصالح الأعمال وجميل الصفات والخلال.. والحمد لله رب العالمين.