بقلم: أ.د/ مصطفى النجار
تفرق شمل العرب عبر التاريخ، واشتعلت الحروب والصراعات بينهم، وسفكت العداوة دمائهم أنهاراً لأتفه الأسباب، داحس والغبراء وما حرب البسوس ببعيد، تحاربوا وما التئم شملهم، وتفرقوا وما اتحد جمعهم، إلا على القضاء على محمد خير من وطئ الثرى، أعظمهم خلقاً وأصدقهم حديثا وأوفاهم أمانة، تجمع شذاذ الآفاق ليطفئوا أنوار الهداية، السراج المنير الذى جاء يعلمهم الكتاب والحكمة و ينقذهم من الضياع والضلال المبين، ويخرجهم من ظلمات الشرك و الوثنية لأنوار التوحيد والرشاد، لقد جاء محمد برسالته الربانية السامية، ليلتقط العرب من سفح الجاهلية ليرتقى بهم لمقام الإيمان والعزة، ليصنع منهم أمة عظمى، أراد بهم خيرا وعزة، وأضمروا له الشر والسوء، وأظهروا العداوة والبغضاء، أرادوا أن يستفزوه من الأرض أو يقتلوه، ألا ساء ما صنع الأشقياء ” وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها، و إذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا” (الاسراء-٧٦).
خرج بنو النضير من أوكارهم فى خيبر، بعد نقضهم العهد بالمدينة، ومحاولة اغتيال النبى، فألفوا وفدا من شياطينهم طاف يحشد قبائل الجزيرة للقضاء على النبى ومن معه، ونجح الأشقياء فى تشكيل جيش، ستة آلاف مقاتل من غطفان وحلفائها أغروهم بتمر خيبر لسنة واحدة، وأربعة آلاف من قريش وحلفائها، للقضاء على الإسلام ورسالته النبيلة بالمدينة، ويقتلعوا نبتة ما أورف أوراقها و أزكى ثمارها، و ليقطعوا كل صلة للأرض بأنوار السماء، لقد كانت غزوة الخندق حدثا جلالا هائلا، اهتزت له السماوات والأرض، ومحنة زاغت لهولها أبصار المؤمنين، وبلوى زلزلت قلوبهم حتى ظنوا بربهم الظنون “وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا ، هنالك ابتُلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا” (الأحزاب-١٠، ١١).
وهنا تتجلى عبقرية محمدنا الإدارية صلوات الله عليه، لتصنع من المحنة العاصفة منحة، ومن الأزمة الآزفة سبيلا لنصر مؤزر وفتح مبين، لقد كانت محنة المسلمين يوم الأحزاب على مرارتها وقسوتها، بداية تحول استراتيجى جذرى فى رؤية النبى لمستقبل الإسلام وعلاقته بعرب الجزيرة، تحولا فى الأهداف والإجراءات، تحولا غير وجه التاريخ والكون والإنسان، وذاك شأن العظماء الذين يحيلون كل تهديد لفرصة وكل ضعف لقوة، تحقيقا لأهدافهم وغاياتهم النبيلة، لتغدو واقعا على الأرض يراه كل ذو بصر وبصيرة، لقد كان النبى على علم مسبق بتحركات أشقياء بنى النضير منذ البداية وما آلت اليه من حلف شرير بغى، فعقد اجتماعا عاجلا لدراسة الموقف واتخاذ القرار، وانتهى النبى وصحابته الأطهار، بحفر خندق لصد الأحزاب الباغية، كانت فكرة جديدة مبتكرة، اقترحها سلمان الفارسي و أقرها النبى بعد المشورة والدراسة، فكرة لم يعهدها العرب، فاجأت الأحزاب وأطارت لباب عقولهم وردت كيدهم لنحورهم، إن استشارة القائد والمدير لمرؤوسيه عند الأزمات تمنحهم الثقة، وتحفزهم لاستفراغ كامل الجهد لإنجاز الأهداف، وتوحدهم خلفه صفا واحدا كالبنيان المرصوص، توحيدا للجبهة الداخلية لمواجهة الأزمات وتحقيق المعجزات، كما أن اختياره للأفكار الجديدة المبدعة يدعم قدرة الفريق لمواجهة التهديدات والأزمات والمنافسين، وتلك عبقرية سيدنا.
ونزل النبى الميدان حدد موضع حصينا للجيش، مستفيدا من الطبيعة الجغرافية للمدينة، جبل سلع يحمى ظهر الجيس جنوبا وحرة واقم شرقا وحرة الوبرة غربا، ولم يتبقى إلا الشمال المدخل الوحيد لأحزاب البغى، فقرر النبى حفر الخندق فيه لصدهم، وكانت ملحمة الحفر مضنية بالغة المشقة، لضرورة الانتهاء منها قبل وصول البغاه، وإلا فاقتلاع الإسلام مسألة محتومة، و تجلت عبقرية النبى الإدارية فى أبهى صورها، فحدد الخندق طولا وعرضا وعمقا وقسمه أقساما، ووزع المسلمين لفرق عمل، توزيعا ذكيا توافر فيه التجانس الداخلى لكل فريق لدعم التعاون بين عناصره، ويدعم فى ذات الوقت التنافس بين كل فريق و آخر، وذلك لإنجاز الحفر واختصار الوقت، فأسند للأوس قسما جانب الخزرج، ليستفيد من حالة التنافس التى كانت مازالت بينهما وتوجيهها لخدمة الهدف، ثم قسما للمهاجرين بجوار قسمى الأنصار “أوسا وخزرجا” لإذكاء التنافس بينهما، ثم قسما لآل بين النبى، و بقى سلمان الفارسى وبلال الحبشى وصهيب الرومي لا هم من المهاجرين ولا الأنصار، فسألوا النبى قال سلمان منا آل البيت، بلال منا آل البيت، صهيب منا آل البيت، حبا و تواضعا، وأوقد سيدى وقرة العين محمد الطاقة العظمى فى المسلمين، حين رأوا أنوار الطهر النبوى يحمل التراب حتى وارى كتفه الشريف، ويال عجز الكلمات وسيل العبرات، أو لم تجد سيدى غير حمل التراب، لقد كان لك فى تعبئته للحاملين كفاية بلال أوسلمان وصهيب، لكنه النبى المتواضع والقائد الفذ والإدارى العبقرى، الذى أشعل الحماس فى العاملين، فانطلقوا فى الحفر انطلاق النار فى الهشيم، فأنجزوا الحفر فى الوقت المناسب وفق الخطة والمواصفات المحددة، قبل وصول الأحزاب البغاة الظالمين، لقد كان للخندق دورا كبيرا فى صد الأحزاب ومنعهم من أن تطئ أقدامهم أرض المدينة المنورة وهزيمتهم، ذلك الخندق الذى كان لعبقرية النبى بعد توفيق الله الدور الأبرز فى إنجازه، بالكيفية المحددة وفى الوقت المناسب.
وأرى أن المسلمين قادة على كل المستويات ومديرين فى مواقع العمل والإنتاج بحاجة للاقتباس من عبقرية النبى قبسات وقبسات، إذا أرادوا أن يكون لهم من عبقرية الإدارة نصيب، فيحسنوا اختيار مواقع الشركات عند الإنشاء، بالقرب من مصادر الطاقة والخامات والأسواق والعمالة، لتوفير الجهود والأموال، كما أحسن النبى اختيار موقع الجيش، ويستلهموا من النبى الكفاءة فى تشكيل فرق عمل متجانسة داخليا لدعم تعاونها، ومتنافسة مع الفرق الأخرى، وأن يشاركوا العاملين فى إنجاز المهام متواضعين، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، إن سيرة النبي العطرة يمكن أن تكون ملهمة للذكاء والكفاءة الإدارية للقادة والمديرين على كآفة المستويات، وصلى الله وسلم على من علمنا الكتاب والحكمة.. وكل عام وحضراتكم بكل خير.