بقلم أ.د/ غانم السعيد
عميد كلية اللغة العربية جامعة الأزهر بالقاهرة
كنت أرى جدي ومعه أبي وأعمامي – رحمهم الله جميعا – إذا رأى أحدهم كسرة خبز ، أو قطعة أرز على الطريق – وكانوا يسمونها نعمة – توقف عندها إن كان مترجلا، أو ينزل عن دابته إن كان راكبا ليلتقط بيده ما وجده وهو يقول: كأنما يعتذر لهذه النعمة : (اللهم دُمْهَا نعمة واحفظها من الزوال)،
فإن كانت النعمة صالحة للأكل أكلها، وإن كانت غير صالحة وضعها على جانب الطريق حتى لا تطأها أقدام المارة وهو في نيته أن يراها حيوان (قطة – كلب – طير…الخ) فيأكلها.
وكنت كلما رأيت هذا المشهد يحدث أمامي أتساءل في نفسي: لماذا كل هذا الحرص للحفاظ على هذه النعمة ؟
على الرغم أنني كنت أفعل كما يفعلون على سبيل التقليد لا الفهم ، ولما مر بي العمر وكبرت وبدأت أحضر الولائم الكبرى الخاصة أو العامة سواء في مصر أو في البلاد العربية، وأجد الطعام المتبقي على هذا الموائد كفيل بأن يطعم أسرا بأكملها تشتهي أن تأكل هذا الطعام ولو لمرة واحدة في حياتها،
ولكن للأسف كنت أرى أن هذا الطعام يتم جمعه بطريقة عشوائية ليوضع في صناديق القمامة لتنبشه الكلاب والقطط فتأكل منه ما تأكل وتترك منه ما تبقى – وهو كثير – مطروحا على الطريق لتأتي سيارات القمامة فتأخذه إلى مقالبها، مع تناسي الجميع أن هذه نعمة يجب أن تقدر ويعظَّم شأنها، فتؤكل إن كانت صالحة للأكل، أو توضع على جانبي الطريق ليأتيها حيوان أو طير فيأكلها كما علمني ذلك جدي وأبي وأعمامي،
وفي إحدى الولائم الخاصة لأحد الوجهاء في دولة خليجية تناقشت معه في هذا الأمر، وسألته: لماذا لا تُجمع هذه البقايا من الطعام في أطباق وتقدم بصورة كريمة إلى المحتاجين وبخاصة العمالة الوافدة فإنها في أمس الحاجة إلى هذا الطعام ، ففوجئت به يرفض الفكرة رفضا باتا، مبررا رفضه:بأن هذا يعد تصرفا معيبا ترفضه مجتمعاتنا، وأخذتني الدهشة من هذا التفكير، إذ كيف يقبل هذا المجتمع إلقاء هذا الطعام في صناديق القمامة لتأكله القطط والكلاب، ويرفض أن يقوم بتقديمه بصورة كريمة إلى هؤلاء البؤساء الفقراء لمبررات ليس لها سند من شرع ولا قانون إلا التقاليد الاجتماعية المأفونة.
وقلت في نفسي: أين موقف الشرع مما كان يفعله جدي وأبي وأعمامي، وما يفعل عكسه أهل الولائم الفاخرة من الوجهاء والأثرياء ؟
هل جدي وأبي وأعمامي الأميين كانوا يفعلون ذلك عادة تعودوها دون أن يكون لفعلهم سند شرعي يثابون على التزامهم به؟؟ وأخذت أبحث في أحاديث رسول – الله صلى عليه وسلم – وسيرته العطرة، وفي آثار العلماء والصالحين من السلف فوجدت كثيرا وكثيرا مما يتضح من مفهومه أن من يفعل فِعل جدي وأبي وأعمامي هو موقر لنعم الله ومُعظِّم لشأنها، وأنها ستبقى مستقرة عنده ما بقي على عهده معها، أما من يحتقر نعم الله ويزدريها بإلقائها في صناديق القمامة ويمنعها عن الفقراء المحرومين ، فإنها ستزول عنه وترتحل إلى غيره.
فعَنْ جَابِرٍ بن عبد الله رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
( إِنَّ الشَّيْطَانَ يَحْضُرُ أَحَدَكُمْ عِنْدَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهِ ، حَتَّى يَحْضُرَهُ عِنْدَ طَعَامِهِ ، فَإِذَا سَقَطَتْ مِنْ أَحَدِكُمْ اللُّقْمَةُ فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى ، ثُمَّ ليَأْكُلْهَا وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ ، فَإِذَا فَرَغَ فَلْيَلْعَقْ أَصَابِعَهُ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ تَكُونُ الْبَرَكَةُ ) رواه مسلم.
وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه : ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَكَلَ طَعَامًا لَعِقَ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ ، قَالَ: وَقَالَ : إِذَا سَقَطَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيُمِطْ عَنْهَا الْأَذَى وَلْيَأْكُلْهَا وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ ،
وَأَمَرَنَا أَنْ نَسْلُتَ الْقَصْعَةَ ، قَالَ : فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ فِي أَيِّ طَعَامِكُمْ الْبَرَكَةُ ) رواه مسلم.
فارتباط النعم بشكرها ، وزوالها في كفرها ، فمن عظَّمَها فقد شكرها ، ومن استخف بها فقد حقرها وعرضها للزوال ، ولهذا قالوا : لا زوال للنعمة إذا شكرت ، ولا بقاء لها إذا كفرت .
قال ابن الحاج : كان العارف المرجاني إذا جاءه القمح لم يترك أحدا من فقراء الزاوية ذلك اليوم يعمل عملا حتى يلتقطوا جميع ما سقط من الحب على الباب أو بالطريق .
ثم قال : فينبغي للإنسان إذا وجد خبزا أو غيره مما له حرمة ، مما يؤكل ، أن يرفعه من موضع المهنة (المهانة) إلى محل طاهر يصونه فيه.
#احفظوها_تحفظكم