الاتيكيت… وثقافة انتقاء الكلام
د/ أحمد علي سليمان
عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية
يقول الحق تبارك وتعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ* تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ* وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ) (إبراهيم: 24-26)
يدعونا ربنا جل وعلا إلى انتقاء الكلمات الطيبة، فهي كالشجرات الطيبة أصلها ثابت وراسخ ونافع وفرعها سامق في السماء.
وقال تعالى (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)، لم يقل وقولوا للمسلمين.. كلا، ولكن قال وقولوا للناس أي لكل الناس.. وهكذا أرادنا الله مؤدبين غاية التأدب فهو الذي اختارنا خير أمة (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران: 110).
وإذا كانت هناك طريقةٌ حسنةٌ للكلام، وطريقةٌ أحسن منها، فقد أمرنا ربنا بالطريقة الأحسن في كل شيء.. وفي كل وقت.. وفي كل حال.. ومع أهل الكتاب قال تعالى (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (العنكبوت: 46)
والمخالف معي في الفكر أو في الاتجاه لابد أن أحترمه وأحترم فكره، فالاختلاف والتعددية إثراء للحياة ويعود بالنفع على الجميع..
وقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) (إنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن رِضْوانِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لها بالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بها دَرَجاتٍ، وإنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن سَخَطِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لها بالًا، يَهْوِي بها في جَهَنَّمَ).
وبَيَّن النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أثرَ الكلمةِ وما يترتَّب عليها حتَّى إنَّ العبدَ لَيتكلَّم بالكلمةِ مِمَّا يَرْضاه الله ويحبُّه، لا يَلتفِت لها قلبُه وبالُه لِقِلَّةِ شأنِها عندَه؛ يَرْفَعه الله بها درجاتٍ في الجنَّةِ، وإنَّه لَيتكلَّم بالكلمةِ الواحدةِ مِمَّا يَسْخَطه ويَكْرَهه اللهُ ولا يَرْضاه، لا يَلتفِت بالُه وقلبُه لعِظَمِها؛ فيَهْوِي بها ويَسقُط بسببِها في دَرَكاتِ جَهَّنَمَ.
وموضوعَ الكلامِ هو مَا يُحدِّد أثرَه المترتِّب عليه، فقد يَخرُج المُسلِمُ من إسلامِه بسَببِ كلمةٍ، وقد يَنصُر اللهُ الإسلامَ بكلمةٍ، وقد ينصر الوطن بكلمة، وقد يضر الوطن بكلمة أو شائعة لذلك حرَّم الإسلام نشر الشائعات تحريما جازمًا ورتَّب على مروجها عقابًا شديدًا..
يقول سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه “خدَمتُ النَّبيَّ عشرَ سنينَ فما قالَ لي: أفٍّ قطُّ، ولا قالَ لِشيءٍ قطُّ صنعتُهُ: لِمَ صنعتَهُ ؟ ولا قالَ لشيءٍ ترَكْتُهُ: لِمَ ترَكْتَهُ؟ وَكانَ أحسَنَ النَّاسِ خُلُقًا”(أخرجه مسلم).
وقد طلب النبي صلى البعد عن الجدال الذي يؤدي إلى الشقاق والعياذ بالله، فقال: (أنا زعيمُ – أي: ضامِنٌ وكفيلٌ- بيتٍ في رَبَضِ الجنَّةِ –أي أطراف الجنة ونواحيها- لِمَن ترَك المِراءَ وإنْ كان مُحقًّا وبيتٍ في وسَطِ الجنَّةِ لِمَن ترَك الكذِبَ وإنْ كان مازحًا وبيتٍ في أعلى الجنَّةِ لِمَن حسُن خُلُقُه) (أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط).
والكلمة الطيبة صدقة، بل أنها تؤلف بين القلوب وتربط بين أبناء المجتمع برباط الحب والود
علمنا القرآن الإتكيت والأدب والحياء وانتقاء الكلمات والألفاظ واستخدام اللفظ المناسب في المكان المناسب.. وفي الوقت المناسب.. وفي الظرف المناسب
انظر مثلا إلى قول الله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ) (البقرة: 187)
فالقرآن كله حياء وكله تربية بل هو دستور دساتير التربية الرشيدة في كل زمان وكان
والنبي علمنا انتقاء الكلمات الطيبة: فقال لعبد الله ابن ام مكتوم (مرحبا بمن عاتبني فيه ربي)
فما أجمل أن تعانق بشاشةُ قلوبنا، بشاشةَ وجهونا، وبشاشةَ أقوالنا الطيبة لكل من نلقاه ونلهج بالدعاء لهم على الدوام، كأن نقول لمن نتعامل معه أن من نلقاه دوما (بارك الله فيك)، و (جزاك الله خيرا)، و (سلمك الله)… وهكذا على الدوام.. ويا لها من بركة عظيمة إذا انتشرت هذه الكلمات وهذه الثقافة على الدوام..
إن الكلمة الطيبة المنتقاة بسلم.. والكلمة الطيبة مرهم.. والكلمة الطيبة ترياق.. والكلمة الطيبة علاج.. والكلمة الطيبة تعمر ولا تدمر.. والكلمة الطيبة تبني ولا تهدم.. والكلمة الطيبة تؤلف بين قلوب الأفراد والأزواج والعائلات والقبائل والدول والشعوب… ويا لها من فضل عظيم!!.