مذاغ – عبد العزيز اغرار :
ضمن فعاليات ليالي الوصال” ذكر وفكر في زمن كورونا” المنظمة من طرف مشيخة الطريقة القادرية البودشيشية ومؤسسة الملتقى بتعاون مع مؤسسة الجمال، شارك الدكتور منير القادري بودشيش رئيس مؤسسة الملتقى ومدير المركز الأورو المتوسطي لدراسة الإسلام في الليلة الرقمية الرابعة والخمسين، بمداخلة علمية حملت عنوان “أعمال القلوب وأثرها في حياة المؤمن”
أوضح في بدايتها أن أغلب الآفات التي سادت المجتمعات المعاصرة مردها الى انحراف سلوك المكلفين وعصيان جوارحهم أمر ربهم، وأن السبب الرئيسي لذلك فساد القلب وخرابه، لافتا الى اهتمام الشريعة الإسلامية بشأن القلب من خلال الأمر بضرورة تعهّده ومراقبته، لعِظم المصالح المترتبة على مراعاته وإصلاحه، وفداحة المفاسد والأضرار المترتبة على إهماله وإغفال شأنه.
وأورد القادري قول الإمام الغزالي: “الجوارح أتباع وخدم وآلات، يستخدمها القلب، ويستعملها استعمال المالك للعبد، واستخدام الراعي للرعية، والصانع للآلة… وإنما الذي ينتشر على الجوارح من العبادات أنواره،
وإنما الساري إلى الأعضاء من الفواحش آثاره، وبإظلامه واستنارته تظهر محاسن الظاهر ومساويه، إذ كل إناء بما فيه ينضح”.
وأضاف أن الأعمال القلبية، هي التي يكون محلها القلب وتكون مرتبطة به، وأن أعظمها الإيمان بالله -عز وجل-، ومنها كذلك النية التي هي أساس العبادات، والمحبة وغيرها.
وزاد أن ما يدل على أهمية الأعمال القلبية، وأنها تفضل على أعمال الجوارح، هو أن اختلال العبادات القلبية ربما يهدم العبادات التي تتعلق بالجوارح، مقدما عدة امثلة على ذلك منها النية التي محلها القلب، إذ بفسادها يفسد العمل،
واستطرد موضحا هذه الأفضلية، من خلال الإشارة الى عدة أمور، منها أن الأعمال القلبية أساس النجاة من النار والفوز بالجنة، كالتوحيد الذي هو عبادة قلبية محضة، وسلامة الصدر للمسلمين، مستشهدا بالحديث الشريف الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم (“يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من الوضوء”، تكرّر ذلك ثلاث مرات في ثلاثة أيام، فأحب عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن يعرف خبيئة هذا الرجل، فبات عنده ثلاثاً فلم يره كثير صلاة ولا صيام فسأله فقال: “ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه فقال عبد الله: هذه التي بلغتَ بك وهي التي لا نطيق)، وأن العبادات القلبية أجمل أثراً من عبادات الجوارح ،مذكر بقول بعض السلف “مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها، قالوا: وما أطيب ما فيها؟
قال: محبة الله والأنس به والشوق إلى لقائه والإقبال عليه والإعراض عما سواه”، كما أنها أعظم من عبادات الجوارح أجراً ومثوبة عند الله، مشيرا الى أن كثيرا من السلف كانوا يفضلون عبادات القلب على الإكثار من عبادة الجوارح، مع عدم إهمالهم لعبادات الجوارح، موردا قول أبو الدرداء -رضي الله تعالى عنه- يقول: “تفكر ساعة خير من قيام ليلة”.
واشار رئيس مؤسسة الملتقى الى قصة آدم عليه السلام وإبليس، مبينا أن كلا منهما عصى ربه، ولكن معصية آدم كانت معصية جارحة سببها الضعف والنسيان: (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) (طه: 115)، ومعصية إبليس سببها الكبر والكفران: (أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ). (البقرة: 34) .
وحذر في ذات السياق من الأسباب التي تؤدي الى فساد القلوب (… كتعلقها بغير الله -تعالى-، والركون إلى الدنيا والاطمئنان بها مع نسيان الآخرة، و الفضول من كل شيء، من الأكل والشرب ، و من المخالطة والمجالسة، كل شيء زاد من هذه الأشياء فإنه يؤثر على قلب صاحبه، فيفسده، موردا قول الفضيل بن عياض -رحمه الله-” خَصْلَتَانِ تُقَسِّيَانِ الْقَلْبَ : كَثْرَةُ الْكَلَامِ ، وَكَثْرَةُ الْأَكْلِ ” ، ويقول أبو سليمان الداراني: ” لكل شيء صَدَأٌ، وصَدَأُ القلب الشَّبَع”).
ولفت المحاضر الى أن علاج القلوب وإصلاحها يتطلب عدة أمور، منها المجاهدة، حيث يحتاج الإنسان إلى مجاهدة دائمة ومستمرة وإلى مكابدة، وكثرة ذكر الموت، وزيارة القبور، ورؤية المحتضرين، موردا قول سعيد بن جبير -رحمه الله” لو فارق ذكر الموت قلبي لخشيت أن يَفْسُدَ علي”، إضافة الى مجالسة الصالحين الذين يَذْكُرونَ الله -عز وجل-، ويُذَكِّرونَ بالله بالنظر إلى وجوههم،
مستشهدا بالحديث الصحيح عن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: ” خيارُ عبادِ اللهِ : الذين إذا رُؤوا ذُكِرَ اللهُ “(رواه أحمد).
ونبه الى أن العبد مؤاخذٌ بأعماله القلبية كما هو مؤاخذ بأعماله الجسدية، وأن كلاهما محلٌّ للثواب والعقاب، موردا قول القرطبي “إنَّ الحَفَظَةَ تكتبُ أعمال القلوبِ؛ خلافًا لمن قال: إنَّها لا تكتبُ إلَّا الأعمال الظاهرة “، ومستشهدا بنصوص من الكتاب والسنة، منها قوله تعالى(وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) ،
إضافة الى أقوال بعض السلف الصالح ، منها قول ابن القيم رحمه الله- في مدارج السالكين “أن أعمال الجوارح لها حد معلوم و أعمال القلوب لا حد لها بل تضاعف أضعافاً: وذلك لأن أعمال الجوارح مهما كثرت وعظمت لها وقت معلوم: فالصلاة لها وقت، والصيام له وقت، والحج له وقت وله حد محدود.
أما العبادات إذا كانت متعلقة بالقلب-العبادات القلبية- فإنها تكون حالاً ملازمة للعبد في صحوه ونومه، وصحته ومرضه، وصفائه وكدره، وفي جميع أموره”.
وأشار الى أهمية المحاسبة التي هي عمل قلبي وأثرها الكبير في صلاح الأعمال، موردا قول يونس بن عبيد رحمه الله في جوابه إلى أحد إخوانه :” أتاني كتابك تسألني أنْ أكتب إليك بما أنا عليه، فأُخبِركَ أنِّي عرضت على نفسي أن تُحبَّ للناس ما تحبُّ لها، وتكره لهم ما تكره لها، فإذا هي من ذاك بعيدة، ثم عرضت عليها مرَّة أخرى ترْك ذِكرهم إلا من خير، فوجدت الصوم في اليوم الحار أيسرَ عليها من ذلك، هذا أمري يا أخي، والسلام”.
واختتم مداخلته بالتأكيد على أن “الطريقة القادرية البودشيشية تعي أن ثمرة صحبة الشيخ العارف بالله حسن الظن بالله و بعباده و أن صلاح أحوال العباد و البلاد مرتبط ارتباطا وثيقا بصلاح القلوب، و غرس حب الله و رسوله صلى الله عليه وسلم ، والإقبال على المولى عز وجل، والخوف منه ومراقبته فيها، تربية عرفانية غايتها أن تعطي لنفس المؤمن توازنها وعافيتها ؛ لأن ذلك سبيلها لحسن القيام بتكاليفها مع الإقبال على الطيبات من الرزق بلا إسراف ومغالاة، فهو مؤمن ينشد سعادة الدارين الدنيا والآخرة” .