مداغ – يونس الناصري :
قدم الدكتور منير القادري رئيس مؤسسة الملتقى ومدير المركز الأورومتوسطي لدراسة الإسلام اليوم، مداخلة في الليلة الرقمية الثالثة والخمسين، حول موضوع ” الفرح بالله وتجلياته على المؤمنين في الدنيا والآخرة”، ضمن ليالي الوصال التي تنظمها مشيخة الطريقة القادرية البودشيشية ومؤسسة الملتقى بتعاون مع مؤسسة الجمال، وبثت فعالياتها عبر الوسائط الرقمية لمؤسسة الملتقى.
استهل القادري كلمته بتعريف الفرح، مبينا مصدره اللغوي من فرح يفرح الذي يدل على خلاف الحزن، واصطلاحا بأنه انفتاح القلب بما يتلذذ به، وأضاف أن الفرح بالله هو أسمى أنواع نعيم القلوب وسرورها وهو عبادة قلبية عظيمة غفل عنها كثير من الناس، فيها شفاء الأرواح من آفاتها ودواء القلوب من أحزانها وبلسم النفوس من همومها وآلامها ، تنشط الجسد وتقويه وتخلصه من آفات الملل والفتور، موردا مقولة ابن القيم: “والفرح بالدنو منه والزلفى لديه إلا على جسر من الذل والمسكنة وعلى هذا قام أمر المحبة فلا سبيل إلى الوصول إلى المحبوب إلا بذلك”.
وأبرز أن الفرح بالله هو سلوان المؤمنين في معترك الحياة وانشراح صدور العارفين وأحلى لذات نفوس الصالحين،
مشيرا إلى أن مقامه من أعلى المقامات التي يحبها الله سبحانه، وتابع أن “العبد متى أيقن أن له ربا وإلها ومدبرا ورازقا وملكا قاهرا بيده كل شيء ولا يعجزه شيء اطمأنت نفسه واكتمل سروره وحبوره”، ونبه إلى ” أن من فتن الدنيا أن تجد أكثر الناس غافلون ولاهثون خلف أفراحها وملذاتها منكرون لهذا الفرح الرباني، “الذي يتمثل في “الفرح بالله وبرسول الله صلى الله عليه وسلم وبشريعته وبالقرآن، والصلاة والصيام والصدقة، فرح بأعمال الخير كلها”، مستشهدا بقوله تعالى في سورة الرعد (والذين آمنوا آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ) وقوله كذلك “يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ”
وشدد رئيس مؤسسة الملتقى على أن الفرح الحقيقي هو أن نلقى الله تعالى ورسوله ونحن ننعم برضاهما
موردا قول الله تعالى في سورة يونس )
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ )(58 (“، مبينا أن “فضل الله هنا هو دينه الذي ارتضى لنا: الإسلام، ورحمتُه هي كتابه المبين: القرآن العظيم، و هذا قول جُمهورُ العلماء و المُفسِّرين “.
وتابع الدكتور القادري أنه ” حين يوقن المؤمن أن الله معه ينظُرُ إليه، ويسمَعُ كلامَه، ويُعينُه ويُؤيِّدُه، يصير سمعَه الذي يسمَعُ به، وبصَرَه الذي يُبصِرُ به، ويدَه التي يبطِشُ بها. فما أسعَدَ عيشَ هذا المُؤمن، وما أطيَبَ حياتَه، وما أقوَاه وأحرَاه بالنَّصر والتأييد ولو كادَتْه السماواتُ والأرضين ومَن فيهنَّ ”
وأوضح أن فرح المؤمن يكون حين يتواضع للناس صدقا لا تصنعا ولا تكلفا ويرحمهم ويحسن إليهم ويسعى في حوائجهم ويعينهم على نوائب الدهر، مضيفا أن المؤمنة تفرح بحياءها وحشمتها وطاعتها لزوجها وتربيتها لأبنائها أحسن تربية، وأدائها لرسالتها الحقيقية في الحياة التي شرفها تعالى الله تعالى بها وهي كونها مدرسة الأجيال ومربية الرجال وصانعة القدوات، مذكرا بالمقولة الشائعة “الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق”.
ونوه المحاضر إلى أن المؤمن يفرح بنصر الله، مستدلا بقوله تعالى في سورة الروم (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ( (4) ، موضحا أن “المؤمنون الصالحون لهم أفراح لا تشبه أفراح التائهين الحائرين الهالكين في أودية الدنيا”، وأضاف أن “أفراحهم متصلة بالله سبحانه وتعالى وبكل ما يرضي الله عز وجل”، وقدم أمثلة من حياة الصحابة رضي الله عنهم، كفرح أبي بكر رضي الله عنه بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة وبكائه من شدة الفرح، وفرح كعب بن مالك رضي الله عنه الذي خر ساجدا لله من شدة الفرح لما بشروه بتوبة الله عليه ، موردا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه يبرق بالفرح والسرور لهذا الصحابي: ” أبشر بخير يوم يمر عليك منذ ولدتك امك”.
وتطرق القادري إلى بعض الأسباب التي تحقق الفرح بالله تعالى، ذكر منها الاستسلام لله تعالى، وحسن الظن به وترك التدبير معه، موردا ما كتبه ابن عطاء الله السكندري لبعض إخوانه قائلا “وبعد فلا أرى شيئا أنفع لك من أمور أربعة: الاستسلام إلى الله تعالى والتضرع إليه وحسن الظن به وتجديد التوبة إليه ولو عدت إلى الذنب في اليوم سبعين مرة”،
وأضاف أن التدبير مع الله تعالى يعد من كبائر القلوب مستشهدا بقوله عز وجل: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ).
وأكد أن الإسلام هو الحنفية السمحة، وأنه دين الأفراح والسرور، مضيفا أن الإسلام لم يدعو إلى رهبانية قط ولا إلى ضيق ولا إلى حزن،
ودعا إلى توقع الخير منه سبحانه وتعالى والرضى بما قسم والتفاؤل والاستبشار وعدم اليأس، وأضاف أن من فرح بالله لم يجزع لمصيبة ولم يخضع لمخلوق ولم ينهزم لأول عارض.
وأوضح أن الفرح بالله من أعلى منازل الإيمان وأبواب الإحسان لأنه ثمرة التربية الإيمانية على المحبة والرضى واليقين والصبر وحسن الظن بالله، موردا الأثر المرفوع عن ابن مسعود رضي الله عنه “إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله وأن تحمدهم على رزق الله وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله وأن رزق الله لا يسوقه إليك حرص حريص ولا يرده عنك كراهية كاره وأن الله بقسطه وعدله جعل الروح والفرح في الرضى واليقين وجعل الهم والحزن في الشك والسخط “.
ودعا الدكتور المحاضر إلى تقاسم الفرح مع خلق الله كالأيتام والسائل والمحروم مستدلا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم “إن في الجنة دار يقال لها دار الفرح لا يدخلها إلا من فرح يتامى المؤمنين”،
وأضاف أن الفرح بالله يولد لدى المؤمنين الرغبة في أن يتقاسموا الفرح مع كل المحرومين والمشردين والبائسين.
وفي ختام كلمته أكد القادري أن الصوفية قدموا “النموذج الأمثل في الفرد الصالح والمصلح الذي يكون له الأثر الإيجابي على مجتمعه ، فهو المحسن الصانع للتفاؤل والأمل والباعث للفرح بالله ونعمه في نفوس من حوله”،
كما بين أن الطريقة القادرية البودشيشية “تعي أن إصلاح النفوس مرتبط ارتباطا وثيقا بالتربية على القيم الروحية التي تساهم بأن يصبح المسلم، ذلك الإنسان السباق ، الإنسان النافع محب الخير لخلق الله ناشر للخير والفضيلة في محيطه حامل لقيم الأخلاق الإنسانية السامية يسهم ويساهم في نهضة وطنه وازدهاره والذود عن حماه”.