بقلم: د. خالد راتب كاتب ومفكر إسلامي
أحيانا-بل كثيرا- يحتاج الناس أن تتكلم معهم بلغة التجارة كي يقبلوا على الأعمال، من أجل ذلك تحدث القرآن الكريم بهذه اللغة في أكثر من آية، قال تعالى:” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (الصف:10-12)،وقال تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (فــاطر:29-30). وقال تعالى:” إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (التوبة:111) .
والتجارة مع الله تكون عوائدها أكبر في مواسم الخير وخاصة في شهر رمضان الذي كرمه الله بذكره في كتابه، وخصه بنزول القرآن الكريم، وأغلق فيه أبواب النيران، وفتح فيه أبواب الجنان، وجعله شهر مغفرة ورحمة وعتق من النيران، وكل هذه العطاءات الربانية وغيرها تحفز الناس وتدفعهم للتجارة مع الله، هذه التجارة التي لن تبور فمكاسبها يقينية ومن الجوائز الكبرى في رمضان هذه الليلية(ليلة القدر) هذه الليلة التي خصها الله بخصائص عظيمة، تنبئ عن فضلها ورفعة شأنها، منها:
1- أنها الليلة التي أنزل فيها القرآن، كما قال تعالى:” إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ” (القدر: 1).ففي تخصيصها بذلك تنبيه على شرفها وتنويه بفضلها، حيث أنزل الله تعالى فيها أعظم الذكر وأشرف الكتب، ففي قراءته فيها أخذ بسبب من أعظم أسباب الهدى ودواعي التقى.
2- وصف الله –تعالى- ليلة القدر بأنها مباركة، بقوله:” إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ “( الدخان : 3) فهي مباركة لكثرة خيرها وعظم فضلها، وجليل ما يعطي الله من قامها إيمانا واحتسابا، من الخير الكثير والأجر الوفير.
3- إخباره تعالى عنها، بقوله:” فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ”( الدخان: 4) أي يفصل من اللوح المحفوظ إلى صحف الكتبة من الملائكة من الأمور المحكمة مما يتعلق بالعباد، من أمر المعاش والمعاد إلى مثلها من العام القابل، من الأرزاق والأعمال والحوادث والآجال، ونحو ذلك من الأمور المحكمة المتقنة بمقتضى علم الله تعالى وحكمته ومشيئته وقدرته، وذلك كله مما يبين شرف تلك الليلة وعظم شأنها.
4- كثرة الثواب على العمل فيها، مع مضاعفة العمل، فإن عبادة الله تعالى وما يناله العبد من الثواب عليها خير من العبادة في ألف شهر خالية منها. وذلك ينيف عن ثمانين سنة، وإذا كان العمل الصالح يضاعف في رمضان ويضاعف ثوابه، فكيف إذا وقع في ليلة القدر؟ .
5- تنزل الملائكة فيها إلى الأرض بالخير والبركة والرحمة لأهل الإيمان، كما قال تعالى:” تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ “( القدر: 3) ولذا فهي ليلة مطمئنة تكثر فيها السلامة من العذاب والإعانة على طاعة الغفور التواب.
6- ما ثبت في الصحيحين عن النبي أنه قال: « من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه » (متفق عليه) . فهي ليلة تغفر فيها الذنوب، وتفتح فيها أبواب الخير، وتعظم الأجور، وتيسر الأمور. فلهذه الفضائل العظيمة وغيرها تواترت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحث على تحري هذه الليلة في ليالي العشر الأواخر من رمضان، وبيان فضلها، وفي سنته صلى الله عليه وسلم في قيامها، وهدي أصحابه -رضي الله عنهم- من الاجتهاد في التماسها ما يبعث همم طلاب الآخرة والراغبين في العتق والمغفرة مع وافر الأجر وكريم المثوبة، إلى اتباعهم على ذلك بإحسان، التماسا لرضا الرحمن، والفوز بفسيح الجنان.
ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم نص صريح أنها في ليلة معينة لا تتعداها في كل سنة، وما ورد من النصوص في تحديدها بليلة معينة فالمراد – والله أعلم – في تلك السنة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنها فيها وحث على قيامها بعينها، وبهذا تجتمع الأحاديث التي ظاهرها التعارض، وتفيد تلك الأحاديث أنها تنتقل من سنة إلى أخرى، فقد تكون في سنة ليلة إحدى وعشرين، وفي أخرى ليلة ثلاث وعشرين، وفي ثالثة أربع وعشرين، وهكذا.
قال الحافظ في الفتح: أرجح الأقوال أنها في الوتر من العشر الأخير وأنها تنتقل (فتح الباري لابن حجر 4 / 313) .
وإنما أخفى الله علمها عن العباد رحمة بهم؛ ليكثر اجتهادهم في طلبها، وتظهر رغبتهم فيها، وتكثر العبادة فيها، ليحصلوا على جليل العمل وجزيل الأجر بقيامهم لتلك الليالي المباركة، كل ليلة يظنون أنها ليلة القدر، فإنهم بقيامهم لتلك الليالي يثابون على قيام كل ليلة – لا سيما أنهم يحتسبون أنها ليلة القدر، والأعمال بالنيات-مع أنهم يدركون ليلة القدر قطعا إذا قاموا كل ليالي العشر.
وها أنا أقدم للمسلمين جميعا عشرة مشاريع تجارية سهلة في العشر الأواخر من رمضان كي نفوز بهذه الليلة التي هي أفضل من عبادة 83 عاما.
المشروع الأول: طهر قلبك وحسن خلقك: قال صلى الله عليه وسلم عن ضرورة وحتمية طهارة القلب: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب”( متفق عليه).وعندما سئل صلى الله عليه وسلم ما أفضل ما أعطي المرء المسلم ؟ قال : ” الخلق الحسن”( أخرجه البخاري). وعن عائشة-رضي الله عنها- ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :”إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجات الصائم القائم”( سنن أبى داود) إلي غير ذلك من الأحاديث.
المشروع الثاني: ختم القرآن الكريم وتدبره والعمل به: القرآن الكريم هو الدواء النافع لطهارة القلب وحسن الخلق فاستعن بالله وتوكل عليه وابدأ في ختم القرآن الكريم في العشر الأواخر .
المشروع الثالث: الدعاء:دعوة الصائم عند فطره مستجابة، أخرج البيهقي في “شعب الإيمان” من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الصائم، ودعوة المظلوم، ودعوة المسافر”( أخرجه الترمذي).
فامكث ولو3 دقائق عند الإفطار، و3 دقائق عند السحور وادع الله بما شئت من خير الدنيا والآخرة، وعليك بجوامع الدعاء والتي منها:*عن عائشة-رضى الله عنها-أنها قالت :”أرأيت إن وافقت ليلة القدر فما أقول ؟ قال :”اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني “( السنن الكبرى، للنسائي).
*ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
* اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم اللهم إني أسألك من خير ما سألك عبدك ونبيك وأعوذ بك من شر ما عاذ به عبدك ونبيك اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل وأسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيرا”( سنن ابن ماجه).
* اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد وأسألك شكر نعمتك وأسألك حسن عبادتك وأسألك قلبا سليما وأسألك لسانا صادقا وأسألك من خير ما تعلم وأعوذ بك من شر ما تعلم وأستغفرك لما تعلم إنك أنت علام الغيوب ([1]).
المشروع الرابع: الإكثار من ذكر الله: قال تعالى:” يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمً “(الأحزاب:41-43).
المشروع الخامس: الاستغفار: قال تعالى: “فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً “(نوح:10-14).
المشروع السادس: الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى:” إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا”(الأحزاب:56). وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات وحطت عنه عشر خطيئات ورفعت له عشر درجات “( المستدرك على الصحيحين حديث رقم: 2018 ،وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه).
المشروع السابع: الإنفاق وتقطير الصائمين بقدر المستطاع :اذهب إلى بعض المساجد التي تفطر الصائمين وتبرع بجزء من مالك لتفطر به الصائمين في العشر التماسا لليلة القدر. عن زيد بن خالد الجهني- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله – r -: ” من فطر صائما كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئا”. (أخرجه الترمذي).
المشروع الثامن: العفو والصفح:قال تعالى: “وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ “(النور:22)، وقال تعالى: “وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ “(الحجر: 85)، وقال تعالى: “وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ “(التغابن:14).وعن ابن مسعود -رضي الله عنه -قال: كأني انظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء-صلوات الله وسلامه عليهم -ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) (متفق عليه).
المشروع التاسع: إدخال السرور على الناس: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- ” أن رجلا جاء إلى النبي- صلى الله عليه وسلم – فقال يا رسول الله: أي الناس أحب إلى الله وأي الأعمال أحب إلى الله فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم – :”أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه دينا أو تطرد عنه جوعا ولئن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد شهرا في مسجد المدينة ومن كف غضبه ستر الله عورته ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يثبتها له ثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام” (أخرجه الطبراني في معجمه الأوسط).
[1] ) سنن الترمذي حديث رقم: 3736.