بقلم: أ . د/ محمد عباس عبدالرحمن المغنى
أستاذ الدعوة والثقافة الإسلامية المساعد كلية أصول الدين القاهرة جامعة الأزهر
خلق الله الإنسان مكون من عنصرين روح ومادة ، فالجانب المادي فى الإنسان هو الخلق من التراب والماء والطين، والجانب الروحي فى الإنسان هو الروح المنفوخة من روح الله، وقد أشار القرآن لذلك فى قوله تعالى (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72))الحجر
فالروح سر من أسرار الله تعالى الذى تصير به المادة الآدمية كائناً حياً وبشراً سوياً، والروح هي فيض من الله تعالى، من خلقه وإيجاده، وليست جزءاً من روح الله ، إنما أضيفت لله عز وجل تشريفاً، وتخصيصاً، وتفضلاً، ولولا الروح لما كان الإنسان، ولما كان الكيان الإنساني.
وقد شاءت إرادة الله سبحانه وتعالى أن يكون الجسد الإنساني المادي مبدؤه من الأرض من سلالة من طين، وغذاؤه من الأرض، من الطعام، والشراب، ومرجعه إلى الأرض، حينما يُدفن فى الأرض بعد الموت ، أما الروح فمن إرادة الله تعالى مبدؤها من السماء وغذاؤها من السماء وصيرورتها إلى السماء حيث لا تفنى .
وللجسد غذاؤه، وللروح غذاؤه، والمشاهد فى دنيا الناس أن إشباع الحاجات الجسدية للإنسان يؤدى إلى الملل، والضجر، والقلق، حتى رأينا في دولة من أعظم دول أوروبا من ناحية دخل الفرد، حيث إن دخل الفرد فيها يصل إلى أضعاف دخل الفرد في البلاد العربية والإسلامية، هذه الدولة هي دولة السويد تسجل أكبر نسبة انتحار في العالم، قرر المحللون النفسيون أن السبب وراء هذا الأمر إنما هو إشباع الجانب الجسدي بالشهوات والمتع، وحب المادة، والثروة، فضاقت الروح ذرعاً فلم تجد طريقاً إلا أن تنتحر .
والأن وبيننا نحن المسلمين نشاهد طوائف كثيرة تُحس بالفراغ الروحي، والنفسي الذى يولد الملل، والسآمة، والاكتئاب، والأمراض النفسية ، والأزمات الاجتماعية، وذلك راجع لضعف غذاء الروح من ناحية، وطغيان الغذاء المادي من ناحية أخرى مصداقاً لقوله تعالى (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124)قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127)طه.
فيأتي شهر رمضان المبارك فرصة عظيمة لتقوية الجانب الروحي للإنسان بالغذاءات المتنوعة للروح، فيقدم شهر رمضان المبارك وجبة غذائية دسمة للروح، حتى يخرج الإنسان من هذه المادية المجحفة فى الحياة، ذلك أن الصيام يضعف الشهوة ويقوم الروح قال صلى الله عليه وسلم «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» البخاري ، والمراد هنا أن الصوم يقطع الشهوة ويقطع شر المني كما يفعله الوجاء.
والذكر، والدعاء، والصلاة، إنما هي صلة بين العبد وربه، وتقوية لروح الإنسان ومشبعة لحاجاته الروحية من الطمأنينة ، وراحة الضمير، والرضى مصداقاً لقوله تعالى (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) سورة النحل: 97.
وتلاوة القرآن غذاء للروح، مصداقاً لقول الله تعالى عن القرآن(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)الحجر ، حيث تجعل الإنسان يعيش فى روحانيات عظيمة من الذكر، والتسبيح ، والتدبر للآيات، فيجد الغذاء الروحي والنفسي لقوله صلى الله عليه وسلم «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَأْدُبَةُ اللَّهِ، فَتَعَلَّمُوا مِنْ مَأْدُبَةِ اللَّهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ »المسند، والمأدبة هي ما يُدعى إليه من الطعام، والطعام والغذاء هنا إنما هو من أغذية الروح ، وبهذا يخرج الإنسان من الضيق ، والاكتئاب، والملل للراحة النفسية ، والسكينة القلبية.
فالسعادة كل السعادة فى الموازنة بين غذاء الروح والجسد، والتي تحمى الإنسان من الفراغ الروحي ، وقد حققها رسولنا الكريم قولاً وفعلاً (إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» البخاري .
هذه الموازنة بين غذاء الروح وغذاء الجسد هي التي تجعل الإنسان في جنة الدنيا، وسعادة النفس، وطمأنينة القلب، والتي قال عنها الحسن البصرى (نحن في سعادة لو علمها الملوك لجالدونا عليها بالسيوف) وقال عنها أحد السلف:(إن فى الدنيا جنة من دخلها دخل جنة الآخرة ومن حرمها حرم جنة الأخرة) إنها جنة الرضا، إنها جنة السعادة، إنها جنة الطمأنينة، إنها جنة الفرحة بالصيام، والقرآن، والقيام، والذكر، والصلاة، والتي تجعل الإنسان يسبح بروحه فى الأنوار القدسية، والعطاءات الإلهية؛ حتى يصل إلى أعلى درجات القرب من الله؛ فينال بذلك روحاً وريحاناً تلك المنزلة التي أخبر الله عنها بقوله ( فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89)وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) الواقعة. والرَّوْحُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ، وَالرَّيْحَانُ الِاسْتِمَاعُ لِكَلَامِهِ وَوَحْيِهِ، (وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) هُوَ أَلَّا يُحْجَبَ فِيهَا عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وتلك هي المنزلة الأسمى، والسعادة العظمى، والفرحة الكبرى.