بقلم د. خالد راتب كاتب ومفكر إسلامي
استنبط الشيخ الغزالي من خلال استقرائه للقرآن الكريم المحاور التي دارت عليها سُوَر القرآن الكريم في خمسة محاور.
- المحور الأول: الله الواحد: في هذا المحور يبين الشيخ الغزالى حالة البشر منذ القدم؛ فهم إما مُشرك مع الله غيره، وهؤلاء قالوا:”أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ”(الأعراف:70)، وإما منكر الألوهية بالأساس، وهم من قالوا: ” مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ”(الجاثية:24)، وهؤلاء وأولئك هم من قابلوا الأنبياء -عليهم السلام -بالحرب الشعواء لمّا جاءوا يدعونهم إلى توحيد الله.
وقد أفاض القرآن في هذه القضية، وهو يمزج في ذلك بين أمرين: 1- فقر العالم إلى الله وقيامه به واستمداده الوجود منه؛ لأنه من المستحيل أن ينتظم هذا العالم من غير منظِّم أو يتخلق من غير خالق.
2 – أن هذا الخالق المدبر واحد لا شريك له، ليس له ندّ ولا ضدّ” كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ”( القصص:88).
ويستطلع الشيخ آيات القرآن الكريم ومسيرة التوحيد والشرك والدعوة والتكذيب، ثم يؤكد أن التوحيد قانون الوجود ونظام الحياة…ثم يتطرق الشيخ إلى قضية القدَر والجبْر والزعم القائل بأن الحياة رواية تمثيلية، وأن التكليف أكذوبة، وأن الناس مسُوقون إلى مصائرهم المعروفة أزلاً طوعاً أو كرهاً؛ بل إن المرسلين خدعة تتم بها فصول الرواية.. وهذا ظنهم في علم الله؛ إذ كل شيء حقيقة في علم الله؛ ولكن علم الله هذا وصّاف كشّاف يصف ما كان ويكشف ما يكون، والكتاب الدالّ عليه يسجّل الواقع وحسْب، لا يجعل السماء أرضاً ولا الجماد حيواناً، إنه صورة تطابق الأصل بلا زيادة ولا نقصان، ولا أثر لها في سلب ولا إيجاب.
- المحور الثاني: الكون الدال على خالقه: يقول الشيخ الغزالي أن الكون كله دليل على الله من أصغر شيء إلى أكبر شيء، ويدعونا للتأمل في نفوسنا وعالمنا المحدود؛ لندرك أن الخالق قدير، حكيم، عليم، لا منتهى لكماله، ولا حدود للثناء عليه.. ثم بعد ذلك نعلم أن ما غاب عن وعينا وعلمنا أكبر بكثير مما نما إليه علمنا الذي وهبنا الله إياه:”لخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ.. “(غافر:57).
ثم يقول: إن الجهاز الذي يخترعه أحد العباقرة ينطق بعقل صاحبه وشدة تألقه، وبديع السماوات والأرض أودع في خلايا الأجسام الحية، وفي ذرات الأجرام الميتة ما ينادي بعلمه وحكمته وبركته.. إن هذا الكون هو المسرح الأول لفكرنا والينبوع الأول لإيماننا…
المحور الثالث: القصص القرآني: هذا المحور هو أوسع المحاور القرآنية، ويردّ الشيخ على سؤال مهم، وهو: هل القصص الواردة في القرآن تكرار يُغني قليله عن كثيره؟ ثم ينفي هذا مبيّناً أن لكل قصة في موضعها إيراد مقصود، وأَثَر مغاير يحتاج إليه السامع لتكتمل به الحقيقة التاريخية والتربوية، ومرة أخرى يلتقي بفكر الأستاذ العقاد حين يردّنا إلى قوله: إن الصور تختلف للمكان الواحد عندما يتمّ التقاطها من زوايا مختلفة؛ فصورة القاهرة من الجو غير صورتها من المقطم، غير صورتها من النيل أو الأهرام، والقاهرة هي القاهرة؛ ولكن ما يراد إبرازه هنا غير ما يراد إبرازه هناك، وأخذ يحلل القصص القرآنية التي وردت عدة مرات كقصة آدم التي يطيل في تحليلها والنظر في حكمة تعدد زوايا الرؤية فيها.
والقصص القرآني أداة للتربية ومصدر توجيه ووعظ واعتبار؛ لذا قصّ القرآن علينا قصص الماضين؛ لأن الإنسان هو الإنسان قد يختلف في ريفه وحضَره وأميته وثقافته؛ ولكن ذلك الاختلاف في وسائله وأهدافه؛ أما غرائزه فهي في أصلها ثابت؛ قلما تتغير…ثم يقودنا الشيخ بعد تطوافة في الحضارة الحالية إلى حضارات مشابهة ذُكِرت في القرآن الكريم، وهذا ربط فريد نجح به الشيخ الغزالي أن يبرهن على غاية سوق القصص القرآني بطريقة عملية الذي هو مناط إيراد هذا القصص التربية والاعتبار :”لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ” (يوسف:111).
- المحور الرابع: البعث والجزاء: إن الله أوجد البشرية لا لتعيش برهة من الزمن ثم تفنى؛ بل خَلَقها الله لتخلد، وهذا الموت الذي يعترض مسيرتها هو رقدة مؤقتة، أو نقطة فاصلة بين مرحلتين من الوجود، كانت الأولى للغرس؛ بينما كانت الثانية للحصاد.
وفي هذه العلاقة بين الحياتين تتجلى الحكمة جليّة رائعة من فم الشيخ الغزالي.. استمع إليه يقول: “في كثير من الأحيان أترك وطني إلى أقطار أخرى، وخلال تلك الأسفار أرسم الخطط للعودة، وأعلم بيقين من أين جئت وإلى أين أعود؟ أنظر إلى الفندق الذي نزلتُ به شاعراً بأنني عابر سبيل، وأن غرفتي سيحتلّها أحد الناس بعدي كما احتللتُها أنا بعده.. ولا ريب أن الشعور بالاستقرار الدائم بلاهة.. وكذلك نحن في هذه الحياة الدنيا.. إنها ممرّ لا مقرّ.وقد أكثر القرآن من الحديث عن الدار الآخرة والتذكير بما فيها من بعث وجزاء وجنة ونار، ثم يمضي القرآن مبيّناً أخلاق طلاب جنة الآخرة مُعدّداً صفاتهم من الشجاعة، والصدق، والإخلاص، والأخلاق الكريمة.
- المحور الخامس: ميدان التربية والتشريع: يؤكد الشيخ الغزالي أن رسالة الإنسان كما وصفها القرآن توضّح درجة الرفعة التي أرادها الله له.. لقد خلقه الله ليكون خليفة له، وعبادة الإنسان لله لم يكلفه الله بها انتظاراً لنائل يعود على المعبود منها؛ ولكنه تكليف للبشري ليعرف وضعه على حقيقته ويكون انتماؤه لله وولاؤه لله.. والتربية الصحيحة هي التي تقوم على وعي عام بغايات الوجود ووعي مُفصّل بمعالم الكمال التي أسهب الدين في شرحها واستفاضت أنباؤها في الكتاب والسنة.
ويؤكد الشيخ كذلك عوائق قيام هذا النموذج وعقبات تفكّ الارتباط بين العلم والعمل والرغبة والتنفيذ؛ لذا فالتربية الناجحة مهمة شاقة وصناعة الإنسان من أعقد الصناعات في الدنيا.
ثم يمضي في توضيح هذا المحور في القرآن الكريم؛ فيبرز أمامنا لافتة كبيرة تقول: (الله يحب) و(الله لا يحب)؛ كأسلوب تربوي اتخذه القرآن ليتّبع المؤمنون ما يحبه الله ويجتنبوا ما لا يحبه.
ويمضي الغزالي في تفصيل ما يحبه الله كما ورد في القرآن الكريم، في إسقاط على واقعنا وبمعانٍ تُعيننا على السعي لإدراك ما يحبه الله والبعد عما لا يحبه فيحضّ على الإحسان والتوبة والتقوى والتوكّل، وينهى عن الفساد والاعتداء والفخر والإسراف والخيانة والجهر بالسوء من القول، في إحصاء لآيات القرآن الواردة بصيغة (الله يحب)، و(الله لا يحب).