بقلم: د. خالد راتب كاتب ومفكر إسلامي
أنزلت صحف إبراهيم أول ليلة من شهر رمضان ،و أنزلت التوراة لست مضت من رمضان و أنزل الإنجيل لثلاث عشرة مضت من رمضان و أنزل الزبور لثماني عشرة خلت من رمضان و أنزل القرآن لأربع و عشرين خلت من رمضان “( شعب الإيمان ،للبيهقي) فرمضان شهر الرسالات، وفيه ختمت الرسالات بالمعجزة الخالدة القرآن الكريم :”شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ”( البقرة:185)،وقال تعالى: “إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين }(الدخان:3). وقد ختمت الرسالات برسالة النبي العالمية، هذه الرسالة بمثابة الروح التي تسري في أوصال الأمة، وهي نور الحياة، وغيابها أو تعطيلها يتسبب في فساد العالم، قال تعالى :”أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا”( الأنعام : 122 ).
موقف الرّسالة المحمدية الخاتمة من الرّسالات السّابقة: بين الله سبحانه وتعالى موقف الرسالة المحمدية الخاتمة من الرسالات السابقة في جزء من آية في كتابه ، قال تعالى: “وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيهِ”( المائدة : 48 ) . وكون القرآن مصدقاً لما بين يديه من الكتاب تحقق من وجوه : الأول : أن الكتب السماوية المتقدمة تضمنت ذكر هذا القرآن ومدحه ، والإخبار بأنّ الله سينزله على عبده ورسوله محمدصلى الله عليه وسلم فكان نزوله على الصفة التي أخبرت بها الكتب السابقة تصديقاً لتلك الكتب ، مما زادها صدقاً عند حامليها من ذوي البصائر الذين انقادوا لأمر الله واتبعوا شرائع الله ، وصدقوا رسل الله ، كما قال تعالى :”إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً “(الإسراء : 107-108 ) أي إن كان ما وعدنا الله في كتبه المتقدمة وعلى ألسنة رسله من إنزال القرآن وبعثة محمد لمفعولاً ، أي : لكائناً لا محالة ولا بدّ “. الثاني : أن القرآن جاء بأمور صدق فيها الكتب السماوية السابقة ، بموافقته لها :” وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا “( المدثر : 31 ). واستيقان الذين أتوا الكتاب إنما يكون بسبب علمهم بهذا من كتبهم . الثالث : أن القرآن أخبر بإنزال الكتب السماوية ، وأنّها من عند الله ، وأمر بالإيمان بها . والمهيمن في لغة العرب تطلق ويراد بها القائم على الشيء ، وهو اسم من أسماء الله تعالى ، ذلك أنّ الله تعالى قائم على شئون خلقه ، تصريفاً وتدبيراً ورعاية .والقرآن قائم على الكتب السماوية التي أنزلت من قبل يأمر بالإيمان بها ، ويبين ما فيها من حق ، وينفي التحريف والتغيير الذي طرأ عليها ، وهو حاكم على تلك الكتب؛ لأنّه الرسالة الإلهية الأخيرة التي يجب المصير إليها ، والرجوع إليها ، والتحاكم إليها، وكل ما خالفها مما جاء في الرسالات السابقة فهو إمّا محّرف مغيَّر ، وإمّا منسوخ .
يقول ابن كثير- بعد أن ذكر أقوال العلماء في معنى كلمة مهيمن- : ” وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى ، فإنّ اسم المهيمن يتضمن هذا كلّه ، فهو أمين وشاهد وحاكم على كل كتاب قبله ، جعل الله هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها أشملها وأعظمها وأكملها حيث جمع فيه محاسن ما قبله ، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره ، فلهذا جعله شاهداً وأميناً وحاكماً عليها كلها (تفسير ابن كثير 3/116) . وهذا يقتضي أن يجعل هذا الكتاب هو المرجع الأول والأخير في التعرف على الدين الذي يريده الله تعالى ، ولا يجوز أن نحاكم القرآن بالكتب السماوية السابقة :”وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ “( فصلت : 41-42 ).
رمضان شهر الانتصارات: انتصارات عظيمة تحققت في شهر رمضان المبارك بداية من غزوة بدر الكبرى، مرورا بفتح مكة المكرمة وانتصار طارق بن زياد في الأندلس، ومعركة عين جالوت ضد المغول إلى معركة العاشر من رمضان السادس من أكتوبر، حتى إن عدد الانتصارات في هذا الشهر زادت على (185) انتصارا وفتحا غيرت مجرى التاريخ . ففي يوم العاشر من رمضان عام (1393هـ) الموافق السادس من أكتوبر (1973م)، تمكنت القوات المصرية بإيمان وصبر ويقين، وقوة إرادة وعزيمة من عبور قناة السويس، التي كانت توصف بأنها أصعب مانع مائي في العالم ،وتم تحطيم أكبر ساتر ترابي ألا وهو خط بارليف .
وهذه الانتصارات برهان واضح ودليل دامغ على أن رمضان شهر الجهاد والعمل، جهاد النفس بالصيام نهارا وبالقيام ليلا ، جهاد القلب والعقل بتدبر القرآن ، جهاد الجوارح بالطاعة، جهاد الشح والبخل بالإنفاق والبذل والعطاء، جهاد الفرقة بالاعتصام والاجتماع …فالصائم ترتفع عنده درجة التقوى والإيمان؛ لاجتماع أمهات العبادات من صلاة وصيام وقراءة للقرآن وإنفاق وبر وإحسان وغيرها من الطاعات ؛ فترقى عنده الروح الإيمانية والمعنوية؛ مما يجعله يضحي بحياته وبكل غالٍ ونفيسٍ من أجل إعلاء كلمة الله تعالى، وهو شهر التضرع والاقبال على الله، يقول القاضي ابن شدَّاد: “وكان صلاح الدين إذا سمع أنَّ العدو قد داهم المسلمين خرَّ إلى الأرض ساجدًا لله، داعيًا: اللهم قد انقطعت أسبابي الأرضية في نصرة دينك، ولم يبق إلا الإخلاد إليك، والاعتصام بحبلك، والاعتماد على فضلك، أنت حسبي ونعم الوكيل”. إن النصر على العدو لا يأتي إلا بالنصر على النفس والشيطان والهوى ومغريات الحياة، فجهاد النفس والشيطان(شيطان الجن والإنس)، وجهاد التعمير والبناء هو أكبر الجهاد وهو مفتاح كل انتصار.