من يتأمل في شهر رمضان بعين فاحصة يجد أن هناك دروسا مستفادة من هذا الشهر المبارك، الذي دأب الصالحون أن تشرئب له أعناقهم ستة أشهر، ويودعونه ستة أشهر، ومن ثم تصير سنتهم كلها رمضان( استشرافا، وتوديعا ).
وها هو ذا الشهر الفضيل قد حل بنفحاته ورحماته وفيوضاته السَنية، ودروسه النافعة، التى من أهمها درس التقوى، إذ إنها بالنسبة لهذا الشهر بمثابة الدرة من التاج، ولحاء الشجرة من جذعها،
وقد أكد ذلك المعنى قول الحق سبحانه : ( يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون).
فالتقوى هى ثمرة جميع الطاعات والعبادات، ومعناها كما قال الحافظ ابن رجب : أن يجعل العبدُ بينه وبين ما يخافه ويحذره وقايةً تقيه منه، وهى وصية الله لعباده قال سبحانه: ( ولقد وصينا الذين أُوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله)، ووصيةُ رسوله محمد صلى الله عليه وسلم لأمته، فكان إذا بعث بعثا أوصى مَن عليه بتقوى الله فى خاصة نفسه ومن معه من المسلمين.
والمتأمل يُدرك أن التقوى غاية لا تتم فى هذا الشهر الكريم ولا فى غيره إلا بوسيلة، وهى العلم النافع والعمل الصالح، وأساسها أن يعلم العبدُ مايتّقى ثم يتّقى،
ومن ثم يصبح لزاما عليه أن يعرف الواجبات والمستحبات فيمتثلها، ويعرف المُحرمات والمكروهات فيتجنبها تعظيما لقول الحق سبحانه: ( ذلك ومن يُعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب).
ولما كانت التقوى هى الغاية الأسنى من الصوم ، كان لزاما أن نتجنب أمورا، أبعد ما تكون عن معناها؛ فمن ينام طيلة يومه بحجة أنه صائم يُريد تضييع الوقت حتى آذان المغرب، نقول له : احذر فقد حُرمت تحقيق معنى التقوى.
وأشد تضييعا لمعناها من يمتنع عن الطعام والشراب بحجة الصوم ، ويظل عاكفا آناء الليل وأطراف النهار على الشات والدردشة ومشاهدة الأفلام الهابطة، التي تجعل نصيب الصائم من صومه مجرد الجوع والعطش، كما أنه يتعارضُ معها الإسراف والتبذير الذى من مظاهره ملء الموائد بشتى أنواع الطعام والشراب، ضاربين عرض الحائط بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه)، غاضين الطرف عمن ألهب الجوع بطونهم، فبحثوا عن طعامهم فى سلات القمامة.
كما أنه ليس من معناها – أقصد التقوي- تعطيل مصالح المواطنين فى المؤسسات الحكومية عن طريق التزويغ من العمل مبكرا، أو الحرص على قراءة ورد القرآن اليومي، وتعطيل مصالح الناس دون الالتفات إلى الطوابير المنتظرة.
وليس من معناها عدم إنجاز مصالح الناس إلا بعد تفتيح المُخ ودفع الرشوة المقنعة، التي حملت اسماء عديدة منها : ( حلاوة أو إكرامية، وخلافه ).
وليس من معناها ترك ( ختم النسر ) على حَلِ شعره مُحلقا فى فضاء المؤسسات الحكومية دون النزول إلي مكتب الموظف المُختص إلا لحظات قليلة لا تُمكن كل منتظريه من الفوز بتوقيعه، وليس معناها جلسات السمر التي غالبا لا تخلو من (قيل وقال)، ولكن معناها أن نُشمر عن ساعد الجد ونفعل كل حسن ونُقلع عن كل قبيح.