بقلم: د/ أحمد علي سليمان
عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية
من الجميل أن تتحول المحنة إلى منحة… ومن الجليل أن يحول الإنسان آلام الابتلاء إلى منابع للعطاء… ومن العظيم أن يتحول الإنسان من مشاغل الدنيا إلى مشاعل الدنيا والآخرة.
لقد شاءت إرادة الله تعالى أن ألتقى وأعايش عددًا كبيرًا من أرباب العطاء الذين ضربوا أروع أمثلة الوفاء لربهم ولدينهم ولأوطناهم وللإنسان ولشتى المخلوقات، وهي شخصيات زرع الله تعالى في قلوبها الرحمة بشتى صنوفها وأشكالها وألوانها… نعم إنها شخصيات اختارها الله تعالى للسعادة والإسعاد.. أمعنت في فعل الخير، وأبدعت في صناعته، وجددت في صنوف العطاء الشامل، سواء العطاء الفكري والعقلي والعلمي، أو العطاء المادي، أو العطاء الإنساني.
ومن بين هؤلاء الذين تشرفت بالكتابة عنهم: المهندس/ صلاح عطية (رحمه الله وخلّد ذكره في العالمين) الذي ضرب أروع الأمثال في صناعة الخير والتجديد فيه والتوسع في صوره وأشكاله، والاستثمار المثالي في رعاية الإنسان (الفقير والضعيف والمريض وذي الحاجة….) وكان -رحمه الله- مثالا في التواضع معهم، وخفض جناحيه لهم، والفرح بهم، واعتبارهم هدايا الرحمن تعالى إليه.
ومن هؤلاء أيضا الأستاذ/ رشاد كامل كيلاني (نجل الأديب العالمي/ كامل كيلاني) (رحمهما الله)، وكان الحاج/ رشاد رمزًا من رموز العطاء والإنسانية البالغة، التي شملت الإنسان والحيوانات والطيور التي تطير في عنان السماء، وأشغل نفسه برعاية المعاقين، وجعل مطبعته سبيلا لله؛ لنشر الفكر المستنير في كل مكان من أرض الله، وبلغ شأو العطاء، حتى إنه أمعن في رعاية الحروف التى تتكون منها الكلمات والعبارات والجُمل والتراكيب، وكان يعتقد أن هذه المخلوقات إذا لم نُحسن إليها -حتى الحروف- فإنها ستشتكينا إلى الله تعالى.
وكتبت عن آخرين كُثُر، بعدما رحلوا إلى ربهم راضين مرضيين… ولعلهم -والله حسيبهم- مِن الذين حزنت عليهم الأرضُ وفرحت بهم السماءُ… وكان المقصد الأساس من الكتابة عنهم: التعريف بجهودهم، وتحفيز الناس لاسيما الشباب والنشء على الاقتداء بهم، وحتى يظلّ الخير موصولا، وبشكل شبكي ومتداخل، جيلا بعد جيل…
واليوم أخرج عن المألوف لأكتب عن تجربه “مؤسسة المهند” بالتجمع الخامس بالقاهرة الجديدة (أمدَّ الله في أعمار مؤسسيها والقائمين والقائمات عليها).
ذهبتُ لصلاة الجمعة (12 مارس 2021م) مع أحد الأصدقاء الأعزاء جدًّا إلى قلبي، أخذني للصلاة في مسجد قريب من منزلي في التجمع الخامس، وإذا بي أرى عجبًا من بعيد.
أرى مسجدًا مهيبًا تشع منه روحانيات، تجمع بين جلال المعنى وجمال المبنى، وكلما اقتربنا منه تزداد المهابة والجلال…
وعندما اقتربنا أكثر رأيت نظافة ونظامًا دقيقًا وبروتوكولا في الدخول إليه والخروج منه، وسط إجراءات احترازية كاملة ودقيقة (قياس دراجات الحرارة – توزيع كمامات – تطهير الأماكن – تباعد في الجلوس – تسليم مصليات ورقية ذات الاستخدام الواحد لمَن لا يحمل معه سجادته الخاصة، وهي ذات تصميم رقيق جدا عليها رسومات إرشادية- …..).
صلينا ثم اصطحبنا الصديق الأستاذ/ قمر الدعبوسي؛ لنسلم على العالم الجليل المشرف على الشؤون الدينية بالمسجد أ.د/ نادي عبد الله (استاذ الحديث الشريف وعلومه) الذي يقوم بجهود دينية متميزة في المؤسسة إشرافًا وتنفيذًا ومتابعة. وإذا بي أرى خطيب الجمعة ينهض من فوره ليسلم علينا، ويرحب بنا، وأيقنت من حديثه معنا وترحيبه الكبير بنا أنه يعرفني، وقد حالت الكمامة دون تعرفي على شخصيته، بيد أن صوته العذب وأداءه الجميل في خطبة الجمعة جعلني أوقن أن هذا الصوت هو صوت صديق، فإذا به الأخ العزيز د/ خالد غانم أحد رموز أئمة الأوقاف.
ثم كانت جلستنا التي رتبها القدر صدفة مع مؤسس هذا الصرح العظيم (مؤسسة المهند) سعادة الدكتور المهندس/ محمد منتصر (أبو المهند)، ذلكم الرجل الطيب، الذي يأسرك بحسن خُلُقه وخَلقه، وبشاشة وجهه ومُحياه، ونظراته الحانية، وكلماته البانية، وصوته الخفيض الرقيق، واحترامه الكبير لضيوفه والمترددين عليه، وتقديره البالغ جدا للعلم والعلماء ولإمام المسجد ولقارئ السورة والمؤذن المبتهل، بل لكل العاملين.
ولقد لفت نظري اهتمامه البالغ باللغة العربية وحبه لها، ومشاركته لنا في الدفاع عنها ضد الموجات العاتية التي تعمل على إبعادها عن مسرح الحياة -على الرغم من أنه من رجال البناء والتشييد-، فتجاذبنا أطراف الحديث، وعندها أيقنت أن الخير ساكن في قلبه، وهو من أجلِّ عطايا الله له ولأهل بيته، ولأمثاله.
لقد استطاع هذا الرجل وزوجته الفاضلة بهداية الله لهما، أن يحولا محنة فَقْد نجلهما (المهند رحمه الله)، الذي رحل إلى ربه الرحيم الحنان في عز الشباب، إلى منح شتى… فقد كان إنشاء (مؤسسة المهند)، هداية من الله لهما، وبوتقة يقدمان من خلالها كلَّ ما يبعث على إسعاد الفقراء واليتامي والأرامل والضعفاء والمطلقات وأصحاب الحاجات والعوز والمرضى والوافدين ومَن أنهكتهم ضغوط الحياة وملماتها.
وأوقن من خبراتي السابقة أن المشروعات الخيرية والإنسانية الكبرى والناجحة، هل تلك التي يحركها الإخلاص لله، وتتكامل فيها أدوار الزوج والزوجة، عطاء، وتشجيعا، وتضحية، ووفاء.
إن تجربة المهند تدل دلالة واضحة على أن الخير كامن في القلوب، وساكن في النفوس، وماكث في العقول، غير أنه ينشط بهدايه الله تعالى لمن أراد… ينشط بالتجربة… ينشط بالدعاء… ينشط بالبلاء… ويا له من حظ عظيم أولئك الذين حوّل الله محنهم إلى منح، ويا لهم من حظ عظيم أولئك الذين وضع الله حياتهم على محك الاختبار، ثم يوجههم إلى أعظم مسار، مسار الخير والعطاء وجبر الخواطر.
ويا له من عظيم ذلكم المهند (أيقونة العطاء) الذي كان سببا في إسعاد آلاف البشر، وينعم بدعائهم -بإذن الله- في جنات الخلود…
وهنا يحضرني قول الله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ ۚ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ((الطور:21).
فهل تنتقل مثل هذه التجربة إلى الآخرين، لتحرك فيهم كوامن الخير والعطاء المركوز في الشخصة المصرية المبدعة؟
ننتظر الإجابة فيما نراه على أرض الواقع في مقبل الأيام.