– الفارابي شخصية جمعت بين لغة العقل والقلب والواقع والوحي والملة.. وعاش في دولة العقل ملكا وفيلسوفا
– مقصده وغايته من الفلسفة الوصول إلى المدينة الفاضلة المرتكزة على الدين والأخلاق والسياسة بمفهومها الشرعي
– جمع بين الإخلاص للفلسفة والإيمان بالدين.. وله بصمات مؤثرة في الفكر الإسلامي ومسيرة الحضارة الإنسانية
كتب- أحمد نورالدين:
فى دراسة بحثية لباكورة أبحاث جديدة، وعبر المؤتمر العالمي إسهامات الفارابي (المعلم الثاني) في إثراء الحضارة الإنسانية بشراكة مجمع البحوث الإسلامية مع سفارة دولة كازاخستان بالقاهرة، قدم الدكتور خالد محمد راتب -دكتوراه في الشريعة الإسلامية-، وباحث في الثقافة الإسلامية بمجمع البحوث الإسلامية، رؤيته الدراسية البحثية الجديدة التى تربط بين الفلسفة الإسلامية والدين في جانب السياسة الشرعية من خلال بحثه المتميز:” السياسة الشرعية عند الفارابي رؤية فلسفية مقاصدية اجتهادية”.
تضمن البحث الحديث عن حياة الفارابي وأثره في علم الفلسفة: حيث تناول فيه الباحث الدكتور خالد راتب ترجمة مختصرة للإمام الفارابي، متحدثا فيه عن مولده، ونشأته ووفاته، ومكانته العلمية وشخصيته وأثرها في علم الفلسفة، وأبرز مميزات شخصية الفارابي، والتي يمكن تلخيص هذه الشخصية العظيمة في كلمتين أنها شخصية جمعت بين لغة العقل، ولغة القلب، لغة الواقع ولغة الوحي والملة، فقد عاش الفارابي في دولة العقل ملكًا وفيلسوفا، وقد ظهر ذلك من خلال مؤلفاته وآرائه، وكان مقصده وغايته من الفلسفة الوصول إلى المدينة الفاضلة التي ترتكز على الدين والأخلاق والسياسة بمفهومها الشرعي، ومما ميز شخصية الفارابي أنه جمع بين الإخلاص للفلسفة، والإيمان بالدين، هذا مجمل شخصية الإمام.
ثم تحدث عن أثر الفارابي في الفكر الإسلامي، وبين أن الفارابي له بصمات مؤثرة في الفكر الإسلامي، ومسيرة الحضارة الإنسانية، فهو شيخ الفلاسفة، وصاحب الفضل الكبير على الفلسفة الإسلامية، فقد وضع أساسها ورتب مسائلها، وهو بين علماء المسلمين يشبه أرسطو بين فلاسفة اليونان؛ لذا لقب بالمعلم الثاني كما كان أرسطو يلقب بالمعلم الأول، فمؤلفات الفارابي تعد النور الذي يضيء درب الحكماء في الغرب والشرق ،فقد قدم إنتاجه الفكري في مختلف العلوم والتخصصات، وتميز فكره بأنه شامل لكل مناحي المجتمع الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، غير أنه اهتم اهتماما كبيرا بالسياسة، فعندما تذكر الفلسفة السياسية كمنزع من منازع التفكير الفلسفي في الإسلام يصبح حضور الفارابي أمرا بديهيا ومن شدة اهتمام الفارابي بالسياسة جعل العلوم الأخرى خادمة للعلم السياسي، ولقد شغلت السياسة المثالية تفكير الفارابي؛ من أجل ذلك ربط الفارابي بين الملة والسياسة، من خلال رؤية فلسفية شرعية مقاصدية تتسم بروح الاجتهاد متأثرا ببيئته العلمية والثقافية والسياسية، فالفيلسوف والمفكر لا ينتج فكره منعزلا عن الواقع؛ إنما هو ناتج عن تفاعل بين الظروف التي يعيشها المفكر والمؤثرات المحيطة به، فشخصية الفارابي نضجت بفعل التقلبات التاريخية التي عرفها المجتمع العربي الإسلامي، والجولات التي قام بها عبر البلدان، والتيارات الفكرية التي كانت موجودة آنذاك.
ثم تحدث الباحث الدكتور خالد راتب عن مفهوم ونظام الدولة عند الفارابي، فالدولة عنده أو المدينة هي التي تكون على مثال نظام الكون وترتيبه، فنظام المدينة عنده يقوم على أساس تصوره للكون، فالمدينة الفاضلة بالنسبة له شبيهة بالموجودات الطبيعية، ومراتبها شبيها بارتباط الموجودات، وائتلافها شبيها بارتباط الموجودات بعضها البعض، كما أكد أن الفارابي يعتبر المدينة هي الوحدة المجتمعية التي يمكن في إطارها بلوغ الخير الأفضل، والكمال الأقصى، على اعتبار أن الخير والشر يتوقف كلاهما على إرادة البشر، كما أن الفارابي لم يقتصر على تنظيم مدينة ضيقة كأثينا أو إسبرطه -كما فعل أفلاطون أو غيره من اليونانيين-بل فكر في اتحاد الأمم، واجتماعهم حول ملك واحد، فهو أوسع تصورا من اليونانيين؛ لأن مفكريهم لم يخرجوا في الأمور السياسية عن أفق الحياة اليونانية.
وتحدث عن نظام بناء الدولة عند الفارابي وأهم خصائصها، حيث يشبه الفارابي أجزاء المدينة الفاضلة بجسم الإنسان حيث يشبه الرئيس بالقلب وبقية أجزاء الجسم هي مكونات المدينة الفاضلة، ونظام هذه المدينة لا بد أن يقوم على التعاون والاجتماع، ومن أهم خصائص هذه المدينة :(الفضيلة، الأخلاق، المحبة والعدل، العلم بالأشياء المشتركة)، كما أن رئيس المدينة لا بد أن تتوافر فيه عدة خصائص فطرية (جبلية)، وخصائص إرادية (مكتسبة)، كما بين الفارابي –كذلك- الخصائص المضادة للمدينة الفاضلة وهى: المدينة(الجاهلة أو الفاسقة أو الضالة أو المتبدلة، حيث إن كل صنف من أصناف السياسات الغير فاضلة تشتمل على أصناف مختلفة، فمنها ما هو غاية في الرداءة، ومنها ما ضرره يسير ومنفعته كثيرة، وهى مدن لا تعرف السعادة الحقيقية).
ثم تناول بحثه السياسة الشرعية عند الفارابي رؤية فلسفية مقاصدية اجتهادية، وبين أن العلوم الإسلامية والإنسانية علوم تكاملية؛ لأن كثيرا من العلوم ينبني بعضها على بعض، ويترتب بعضها على بعض، وتكامل العلوم له أكثر من وجه:
الوجه الأول: التكامل بين فروع العلم الواحد، فعلم اللغة مثلا له فروع كثيرة، والتميز في اللغة لا يتحصل إلا بتحيل تلك الفروع من النحو والصرف والمعاني والبيان والبديع والشعر والنثر والنقد وعلم اللغة وغيرها مصن فنون العربية.
الوجه الثاني: التكامل بين علوم الآلات والغايات، كما هو الشأن بالنسبة للغة والأصول لغيرها من علوم الفقه والتوحيد والتفسير.
الوجه الثالث: التكامل بين العلوم خارج الدائرة الواحدة، كالتكامل بين العلوم الشرعية والعلوم الإنسانية من ناحية، وبين العلوم الإسلامية والعلوم التجريبية من ناحية أخرى ،ولعل هذا المزيج المتمثل في تكامل العلوم هو الذي أخرج لنا بعض مظاهر عبقرية العقل المسلم، فكلما كان العالم موسوعيا كلما كان اجتهاده الفقهي والفكري أنضح وأقرب للصواب، وهذا هو المشهود له في القرون السابقة واللاحقة.
ثم تطرق لتوضيح مفهوم السياسة الشرعية، فالسياسة الشرعية هي: تدبير الشئون العامة للدولة الإسلامية بما يكفل تحقيق المصالح ودفع المضار مما لا يتعدى حدود الشريعة أو أصولها الكلية، وإن لم يتفق وأقوال الأئمة المجتهدين.
ثم انتقل للحديث عن الرؤية الفلسفية للدولة عند الفارابي، والتي تتمثل في تأسيس المجتمع الإنساني ورسم الدستور السياسي الذي يكفل له المناعة، فيكون بذلك جميع ساكنيه في إخاء وتعاون تسودهم العدالة وتجمع بينهم المصلحة المشتركة ضمن نظام مثالي بعيد كل البعد عن الخصومات والتناحرات الاجتماعية التي تختص بها -حسب رأي الفارابي- المجتمعات الجاهلة والضالة، وتلك الرؤية الفلسفية الشرعية للسياسة الشرعية في فكر الفارابي رأيناها في آرائه في المدينة الفاضلة، فكتاب المدينة الفاضلة أفرد الفارابي القسم الأول منه في الحديث عن المبادئ الفلسفية التي يدين بها والتي سيراعيها إلى حد ما في إنشاء مدينته، والقسم الثاني شرح فيه شئون هذه المدينة وما ينبغي أن تكون عليه في مختلف فروع حياتها، وكانت رؤية الفارابي الفلسفية في المدينة الفاضلة قائمة على آراؤه في السعادة والأخلاق.
وعن الرؤية المقاصدية للربط بين السياسة الشرعية والمقاصد، فقد أظهر الدكتور خالد راتب ذلك من خلال الاتفاق المقاصدي للشريعة والسياسة عند الفارابي، والتي تتمثل في: (تناغم المعرفة القيمية مع السلطة السياسية الشرعية في الفلسفة الإسلاميةاتفاق الخطاب المقاصدي، واتحاد المقصد في الدفاع عن الملة، والجمع بين مقاصد الشريعة، ومقاصد الفلسفة في تحقيق السعادة،والرؤية المشتركة للملة والفلسفة، واتفاق الفلسفة مع الشريعة في جانب السياسة الشريعة في درء المفاسد).
أما عن الرؤية الاجتهادية في فكر الفارابي المتعلقة بالسياسة، فقد لخص الفارابي في القسم الأول من كتاب الملة لعلاقات الفلسفة وصناعة الفقه بالملة، وخصص القسم الثاني لـ”العلم المدني على العموم والذي هو جزء من الفلسفة، ويذهب الفارابي أن الآراء والأفعال ويدخل فيها الأقوال: أما أن تكون وحيا مقدرا لا دخل للإنسان فيها، وإما أنه يقدرها بالقوة(الاجتهاد) التي استفادها عن الوحي والموحي –تعالى- حتى تكشفت له بها الشرائط التي بها يقدر الآراء والأفعال الفاضلة، أو تكون بعضها بالوجه الأول (الوحي)، وبعضها بالوجه الثاني (القوة، وهي الاجتهاد).
كما تعرض الفارابي لمسألة استيفاء نصوص الشريعة لكل الحوادث، حيث يرى الفارابي أن الشرائع التي يضعها الرئيس الأول الفاضل لا تستوفي كل الحوادث الجزئية، وقد لا تستوفي أيضا بعض القواعد الكلية التي تأتي في مرتبة تالية، وليس ذلك نقصا في الشرائع التي يضعها الرئيس الأول الفاضل؛ إذ إن الحياة تحوي من التغير والاختلاف ومن الكثرة والتنوع بالقدر الذي يجعل استيعاب ذلك متعذرا، وهنا يقرر الفارابي أن النصوص المحددة بلفظها وإيقاعها على الواقع النسبي المتغير لا تشتمل على كل الحوادث، ومن هنا جاءت نظرية الإلحاق التي أخذت في مضمونها أشكالا متعددة كالقياس وكإجراء الكلي على جزيئاته أو تطبيق المبدأ العام على أفراده. فالكل –حتى الظاهرية- قائلون بما يمكن أن نسميه (الإلحاق) وإن أنكروا هيئة مخصوصة منه وهو (القياس)، ويرى الفارابي أنه في حالة ذهاب واضع الشريعة بواسطة الوحي، وعدم وجود من يخلفه ممن يمثله في كل شيء، فإنه لا مناص من الاجتهاد في إطار نصوص الشريعة التي قررها والقياس عليها، أي لا مناص من الاحتياج إلى صناعة الفقه.